ليس بمقدورنا أن نستمر طويلاً في الحديث عن "الديموقراطية في فلسطين" أو عن "ديموقراطية فلسطينية" بعد انتهاء الولاية الزمنية للسلطة التشريعية المنتخبة وعدم إجراء انتخابات جديدة للمجلس التشريعي أو للمجلس الوطني الفلسطيني، إذ إن العالم لا يعترف بأية ديموقراطية معاصرة اليوم لا تجرى فيها الانتخابات العامة الحرة والمباشرة بشكل دوري ومنتظم، لأنه لا يمكن أن تكون هناك ديموقراطية بالمفهوم الليبرالي من دون انتخابات. غني عن الذكر أن الانتخابات لوحدها لا تقيم نظاماً ديموقراطياً، ولكن الأكيد هو أن الديموقراطية لا يمكن أن تنشأ من دون انتخابات. لذلك نرى أن دولاً غير ديموقراطية على الإطلاق تتستر وراء إجراء انتخابات صورية دورية ومنتظمة لتضفي بعض الشرعية على مؤسساتها التمثيلية و القيادية. إن الديموقراطية تعني تداول السلطة عبر الانتخابات الحرة والمباشرة والفصل بين السلطات وسيادة حكم القانون والالتزام بمبادئ المساءلة والشفافية وحرية التعبير والصحافة وحقوق الإنسان. لماذا الانتخابات؟ نحن الفلسطينيون بحاجة الى إجراء الانتخابات لأسباب عدة: أولاً: إن الانتخابات هي حق من حقوق المواطنين يجسِّدون بها جزءاً مهماً من مواطنتهم، وهي وسليتهم لحكم أنفسهم بأنفسهم وهي سبيلهم لممارسة حقهم في المشاركة السياسية. ثانياً: لا يمكن لمبدأ تداول السلطة أن يتم بالشكل المطلوب سوى عبر الانتخابات. في الانتخابات تبرز قوى وتتراجع قوى أخرى، ويحدث التغيير على أعلى مستوى في النظام، ويمكن لمن هو في السلطة أن يصبح خارجها والعكس صحيح. ثالثاً: إن الانتخابات التي تقوم على التنافس هي الكفيلة بإعادة الحيوية لحياتنا الوطنية والسياسية والمجتمعية، وهي الكفيلة بالقضاء على حال الركود والقنوط واللامبالاة واليأس من التغيير. والانتخابات تُشكل الوسيلة المُثلى لإعمال مبدأ المحاسبة. ولن يشعر أي مسؤول كبير يأتي الى منصبه عبر الانتخابات بالمسؤولية أمام ناخبيه إن كان يعلم سلفاً بأنه باق لن يتغير ولن يحاسبه أحد على أدائه وأعماله. رابعاً: إن الانتخابات هي المدخل السليم لإجراء الإصلاح والتغيير في مجتمع ونظام يعانيان من غياب الإصلاح والتغيير. وإن عدم إجراء الانتخابات يعني الإبقاء على النظام القائم بكل سلبياته، كما يعني تشكل مراكز القوى واستمرار الاستخفاف بحكم القانون ومبدأ المحاسبة. خامساً: إن ما لدينا من رصيد ديموقراطي يتلاشى تدريجياً مع مرور الوقت. وإن مؤسساتنا التمثيلية والقيادية بحاجة الى تجديد شرعيتها. وإذا ما تجاهلنا ذلك واكتفينا بإجراء الانتخابات لمرة واحدة عام 1996، فإن العالم سوف يسخر منا. وإن كنا نسعى حقاً لنيل احترام العالم وكسب دعمه وتعاطفه والتأكيد على جدارتنا، لا بد عندئذ من إثبات هذه الجدارة بالمعايير التي يفهمها العالم اليوم، وأهم هذه المعايير هي الانتخابات الديموقراطية. ذرائع التأجيل هناك من يطلع علينا بين الحين والآخر مقدماً التبريرات المختلفة لعدم إجراء الانتخابات مقترحاً بأننا لا نستطيع أن نجري انتخابات ونحن في خضم مفاوضات حول قضايا الوضع الدائم، وأن الجهود يجب أن تتركز الآن حول هذه المفاوضات ونتائجها. كيف يستطيع أن يثبت أصحاب هذا الرأي أن إجراء الانتخابات يتناقض، أو يُشكل بالضرورة عبئاً على المفاوضات ونتائجها؟ حقيقة الأمر هي أن العكس هو الصحيح. فمن شأن الانتخابات أن تخلق وضعاً داخلياً أقوى وأكثر تماسكاً يشكل دعماً للموقف الفلسطيني التفاوضي المتشبث بالحقوق الوطنية ويقويه في مواجهة الضغوط ومحاولات الابتزاز. كما أن الانتخابات تعطي القيادة المنتخبة تفويضاً من الشعب لتفاوض باسمه، لاسيما وأننا نتحدث عن مواقف وقرارات تنطوي على مخاطر. من ناحية أخرى، ماذا لو استمرت المفاوضات الى أجل غير مسمى؟ هل يبقى القديم على قِدَمِهِ ونلغي مبدأ الانتخابات من مفرداتنا وممارستنا السياسية؟ وعلى فرض إن إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية مرتهن بالوضع السياسي القائم بشكل أو بآخر، والعملية السياسية والمفاوضات، ويجب ألاّ يكون كذلك، فما الذي يحول دون إجراء انتخابات للمجالس البلدية والقروية؟ ألم تجرَ مثل هذه الانتخابات في ظل الاحتلال؟ وألم نجرِ انتخاباتنا الرئاسية والتشريعية نفسها وأجزاء كبيرة من أرضنا ترزح تحت الاحتلال؟ تبقى من ناحية أخرى قضية الإطار السياسي الذي يجب أن تجرى الانتخابات في ظله. هل نجري انتخابات قبل إعلان الدولة أو بعد الإعلان؟ هذا موضوع يجب أن نتفق عليه بيننا عبر الحوار الوطني الجاد، وفي إطار تنظيماتنا أو مؤسساتنا التمثيلية، ولن تعوزنا الوسيلة للوصول الى اتفاق بهذا الشأن. انتهت المرحلة الانتقالية زمنياً في الرابع من أيار مايو عام 1999 من دون التوصل الى حل دائم ومن دون الإعلان عن قيام الدولة. وأصبح الحديث يدور حول 13 أيلول سبتمبر المقبل كموعد لا رجعة عنه لإعلان قيام الدولة وبسط سيادتها. وهناك خشية حقيقية من أن يأتي هذا التاريخ ويذهب مثلما مر الرابع من أيار لأن ما حدث آنذاك قد يتكرر يوم 13 أيلول: استئناف للمفاوضات، مع بعض التنازلات الإسرائيلية، ودعم أو وعد بالدعم المادي والسياسي والمعنوي من دول أوروبا والولايات المتحدة، مصحوب بضغوط وتحذيرات بعدم الإقدام على إجراء آحادي الجانب كالإعلان عن الدولة، ونصائح من دول عربية بالتريث. أما إن جرى التشبث بالموقف المعلن حول إعلان الدولة في 13 أيلول، فمتى ستجرى الانتخابات؟ إن الإعلان عن الدولة في حدود لا تقبل بها إسرائيل وبشروطنا الوطنية التي ترفضها إسرائيل، يعني تغيير مرجعيات الوضع السياسي القائم ورفض إسرائيل لهذه الدولة ومحاصرتها أو حتى محاربتها. يعني ذلك أن العلاقة والسياسة التفاوضية الراهنة مع إسرائيل الآن سوف تتحول الى علاقة من التحدي والصراع. من سيجرؤ عندئذ الحديث عن انتخابات؟ لذلك أرى، بعد أن تأخرنا كثيراً، أن نشرع في الإعداد للانتخابات وإجرائها قبل ذلك التاريخ. وأعتقد أن أهم عمل يمكن أن نقوم به في ذلك التاريخ هو إجراء الانتخابات لأن ذلك سيكون أقوى تعبير عن ممارسة السيادة ولنترك لإسرائيل تحمل مسؤولية منع إجراء هذه الانتخابات إن هي أرادت ذلك، يتوجب علينا إذاً تأكيد موعد الانتخابات وإعداد قانون انتخابي جديد يستجيب للاحتياجات والمتغيرات الجديدة في الساحة الفلسطينية. إن تكرار الحديث عن اتفاق أوسلو كسبب لعدم المشاركة في الانتخابات لم يعد مقنعاً. نحن الآن نتحدث عن انتخابات لوضع سياسي مغاير نتفق عليه بيننا ويحظى بإجماع وطني فلسطيني. إن شرعية الانتخابات تستمد من الشعب وليس من مواد في اتفاق انتهت مدة صلاحيته. إننا نتحدث الان عن انتخابات لأبناء الشعب الفلسطيني جميعاً تبدأ في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، أي أراضي الدولة الفلسطينية العتيدة، وفي كل مكان آخر من أماكن وجود أبناء الشعب الفلسطيني يمكن فيه إجراء مثل هذه الانتخابات. وهناك بالطبع من يبشر لعدم إجراء الانتخابات أو لتأجيلها تحت ذريعة أن نتائجها لن تكون مضمونة، وقد تحقق قوى المعارضة، وخصوصاً الإسلامية منها، مكاسب مهمة فيها. لا أعرف مدى صحة هذا الرأي، ولكن ليس من حق أحد أن يمنع إجراء الانتخابات أو أن يؤجلها بسبب الخشية من نتائجها. في وضع ديموقراطي، على الجميع أن يقبل بإرادة الشعب. إن عدم إجراء الانتخابات استناداً الى هذا الرأي سيكون مؤشراً على ضعف السلطة والنظام السياسي القائم وليس مؤشراً على قوتهما. من يتحمل المسؤولية؟ على من تقع مسؤولية أخذ القرار في إجراء الانتخابات المطلوبة وفي موعد محدد ومؤكد؟ إن هذه المسؤولية تقع في الأساس على عاتق القيادة الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس ياسر عرفات. كما أنها تقع بعد ذلك على عاتق أعضاء المجلس التشريعي أنفسهم الذين أتوا الى المجلس عبر الانتخابات. وتقع على عاتق هولاء قبل غيرهم أن يتحسسوا الرغبة الشعبية في إجراء انتخابات جديدة، وأن يجسدوا هذه الرغبة بالمطالبة الجادة والإصرار عليها. ولا يجب على أعضاء المجلس الانتظار الى أن يأتي من انتخبوهم ليطالبوهم بالاستقالة. والموقف المطالب بالانتخابات لا يجب أن يكون مرده فقط أداء المجلس الذي تختلف الآراء بشأنه، إذ إن هناك شعوراً بأن المجلس لم يتمكن القيام بدوره المناط به في الرقابة والتشريع بالشكل المطلوب، بل لأن ولاية المجلس الزمنية قد انتهت. إن عدم تمكن المجلس من القيام بدوره بالشكل المطلوب هو عامل إضافي للإصرار على إجراء انتخابات جديدة. ولكن حتى عندما يقوم برلمان ما بأفضل دور له على الإطلاق فهذا لا يكون سبباً في عدم إجراء الانتخابات عند نهاية دورته، وفي وقتها المحدد. المسؤولية تقع بعد ذلك وبالتوازي على عاتق القوى والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني. أين حركة هذه الأحزاب والقوى والمنظمات المطالبة بإجراء الانتخابات؟ لماذا هذا الوجل من المطالبة الحثيثة بإجراء الانتخابات؟ إن الانتخابات سوف تتيح للأحزاب السياسية التنافس في ما بينها وتطوير برامجها وخطابها كأحزاب تسعى للوصول الى السلطة. كما أن الانتخابات ستعزز النهج والتقاليد الديموقراطية لدى هذه الأحزاب. وأخيراً، إن المواطن الذي لا يكف عن الشكوى والتذمر بسبب عدم رضاه عن أداء السلطة عليه أن يصر على إجراء الانتخابات. ويجب ألاّ يتخلى المواطن بهذه السهولة عن حقه في محاسبة من انتخبهم. يستطيع المواطن الناخب أن يبقى المسؤول على رأس عمله أو يقصيه عن منصبه. لماذا هذا التردد وهذه اللامبالاة؟ لا تغيير أو إصلاح من دون انتخابات، ولا ديموقراطية من دون انتخابات. إن الإجابة عن شكاوى المواطنين من غياب حكم القانون وغياب الرقابة والمساءلة والشفافية وتفشي الفساد تبدأ بالمطالبة الشعبية بإجراء الانتخابات. وأنا أختلف مع الرأي القائل بأنه لو جرت انتخابات جديدة لن يتغير شيء، ولن يقبل الناس على هذه الانتخابات مثلما أقبلوا عليها في المرة الأولى. هناك الكثير من القضايا الحيوية الوطنية والسياسية والحياتية التي ستدفع بالناس الى صناديق الاقتراع. كما يدرك الناس بوعيهم وبحسهم الصادق أنهم بالانتخابات يمارسون قوتهم في إحداث التغيير. نحن بحاجة الى انتخابات جديدة لنحافظ على تجربة ديموقراطية وليدة مهددة بالاندثار، تجربة تُعيد تحفيز وتعبئة أبناء الشعب الفلسطيني في وقت هم أحوج ما يكونون فيه الى التحفيز والتعبئة. * رئيس اللجنة السياسية في المجلس التشريعي الفلسطيني وأستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت.