كان العديد من الوزراء في السلطة مشغولين بمتابعة المفاوضات السياسية وبالتباري في حلبات "الفضائيات" بدلا من الانشغال بمتابعة شؤون وزاراتهم وبناء مؤسساتهم وتقديم الخدمات لشعبهم. أخيرا نجحت الساحة الفلسطينية في اجتياز الاستحقاق المتعلق باستحداث منصب رئيس وزراء للسلطة وبانتخاب محمود عباس (أبو مازن) بالإجماع لهذا المنصب، بعد أن اختاره الرئيس عرفات. ورغم ذلك فإن تعقيدات الساحة الفلسطينية ومداخلاتها الدولية والإقليمية أثارت العديد من الشبهات والتساؤلات الجادة والمشروعة، بشأن توقيت هذا الإجراء وأبعاده وأيضا بشأن الشخصية التي وقع عليها الاختيار لتحمل هذه المسؤولية في هذه الظروف العصيبة. فمثلا، كانت السلطة ، ومنذ قيامها، أحوج ما تكون لمأسسة أوضاعها ووضع حد لهذا التداخل بين عملية التحرر الوطني وبناء مؤسسات الدولة، عبر التمييز بين هاتين العمليتين على رغم التكامل بينهما، من خلال إدراك استحقاقات كل منهما وتلبية متطلباتها. ولكن القيادة الفلسطينية، وبكل أسف، ضربت عرض الحائط بهذه الدعوات وتملصت من وضع الأسس اللازمة لبناء الكيان الفلسطيني، بحجة الانشغال بالعملية التفاوضية (قبل الانتفاضة)، ثم بدعوى الظروف الخاصة التي نشأت عن الانتفاضة والمقاومة وظروف المواجهة مع إسرائيل. وكانت النتيجة أن السلطة لم تنجح في وضع الأسس اللازمة لبناء مؤسساتها على قاعدة قانونية وديمقراطية، ولا في إحراز تقدم في عملية المفاوضات. فمثلا كان العديد من الوزراء في السلطة مشغولين بمتابعة المفاوضات السياسية وبالتباري في حلبات "الفضائيات" بدلا من الانشغال بمتابعة شؤون وزاراتهم وبناء مؤسساتهم وتقديم الخدمات لشعبهم؛ وكان المسؤولون الأمنيون يتسابقون على الظهور في الفضائيات، أيضا، لتقديم وجهات نظر سياسية قد تحجم أكبر مسؤول في الساحة الفلسطينية عن الإدلاء بدلوه فيها؛ بينما المعروف أن المسؤولين الأمنيين، في بلدان أخرى، قد لا تعرف شخصيتهم ولا حتى أسماؤهم؛ وكما هو معروف فقد وصل الأمر ببعضهم إلى حد التجرؤ على تنظيم المظاهرات ضد رئيس السلطة وتقديم نفسه كبديل عنه! وبعد اندلاع الانتفاضة كانت نتيجة هذه الفوضى سلبية، أيضا، فثمة حال من البلبلة في الشارع الفلسطيني إزاء السلطة بسبب طبيعتها المزدوجة غير المحسومة، فهل هي حركة تحرر وطني؟ أم هي دولة ومؤسسات؟ ومما فاقم الأمر ضعف صدقية السلطة، بسبب انتشار مظاهر الفساد وطغيان الأجهزة الأمنية وظواهر المحسوبية، وكانت النتيجة أن السلطة لم تستطع الحفاظ على مؤسساتها كما أنها لم تستطع الذهاب للنهاية في قيادتها للانتفاضة والمقاومة، ما اوجد هذه الفوضى في الإطارين السياسي والميداني في الساحة الفلسطينية! ولا شك في أن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات شخصيا هو الذي يتحمل المسؤولية عما آلت إليه هذه الأحوال، في السلطة والانتفاضة، بقدر حجم مكانته القيادية في الساحة الفلسطينية، وذلك بسبب عقليته الفردية وطريقته في إدارة الأوضاع وميله للابتعاد عن المؤسسات والأطر، لاسيما أن عرفات يجمع في نفس الوقت بين كونه رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئيسا للسلطة الوطنية وقائدا لحركة فتح (كبرى المنظمات الفلسطينية). وكانت نتيجة ذلك تغييب اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير واللجنة المركزية لحركة فتح ومجلس وزراء السلطة بسبب تماهي هذه الأطر في شخص الرئيس وزعامته الطاغية، وهو ما أضعف المؤسسات الوطنية الفلسطينية وأعاق من تطورها. وبسبب تشبثه بهذه المناصب سهّل عرفات، من حيث لا يقصد، على الإسرائيليين والأمريكيين وضعه في دائرة الاستهداف، وهو ما أدى إلى الربط بين مصير انتفاضة الشعب الفلسطيني وقضيته وبين مصير عرفات الشخصي، في جملة الحصارات والتحديات ومحاولة العزل والإقصاء التي تعرض لها طوال العامين الماضيين. وهكذا فإنه وبسبب من موقعه في رئاسة السلطة وزعامته للحركة التحررية الفلسطينية، خصوصا كونه قائدا لحركة فتح، بات وضع عرفات حرجا جدا فهو مقيد باتفاقات أوسلو وباستحقاقات إدارة أوضاع السلطة، كما أنه ملتزم من موقعه القيادي بادارة كفاح شعبه في مواجهة العدو الإسرائيلي. المعنى من هذا الكلام أن عرفات كقائد سياسي للشعب الفلسطيني لم يكن بحاجة إلى موقع رئيس السلطة، من الأصل، لأن استحقاقات هذا الموقع المدنية والخدمية أغرقته في حسابات وحساسيات كان ينبغي له النأي عنها، فهذه الاستحقاقات أشغلته عن الاهتمام بتطوير مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وأحاطته بالتباسات وبملابسات تفاوضية وسياسية هو في غنى عنها على حساب مكانته الرمزية كزعيم للشعب الفلسطيني. ويستنتج من كل ذلك أن التوجه نحو إصلاح السلطة الوطنية الفلسطينية، ومن ضمن ذلك استحداث منصب رئيس الوزراء، هو أصلا مطلب داخلي فلسطيني طال انتظاره، خصوصا وأن هذه السلطة عانت من غياب الحدود بين المؤسسات والقيادات ومن عدم تحديد الصلاحيات، كما عانت من غياب الدستور ومن العقلية الفردية والمزاجية؛ وهذا هو أساس العملية الجارية. طبعا ثمة مدعاة للقلق من جهة أن هذه الخطوة، وغيرها من مثل إقرار النظام الأساسي والانتهاء من مشروع الدستور، لم تأت بنتيجة استجابة القيادة للمطالب والاحتياجات الداخلية، وهو شيء يؤسف له، وانها جاءت بنتيجة ضغوط دولية وإقليمية، على الطرف الفلسطيني، ما يعتبر بمثابة تدخل في الشؤون الداخلية ومحاولة مكشوفة لإقصاء عرفات أو عزله أو إضعاف موقعه القيادي الوطني على الأقل، ما يضعف من جديتها وشرعيتها. ومع ذلك فإن هذه الشبهات، على أهميتها، لا ينبغي أن تصرف انتباه المعنيين بالساحة الفلسطينية عن ضرورات إعادة بناء أوضاعهم وتنظيم ساحتهم وترتيب بيتهم الداخلي، لأن هذه المسارات هي التي تمكنهم تفويت الاستهدافات الإسرائيلية والأمريكية، وليس إبقاء ساحتهم في هذه الحال من الفوضى. أما بالنسبة لاختيار أبو مازن لرئاسة مجلس وزراء السلطة فهو أمر لم يكن مستبعدا، لاسيما أن أبو مازن من القادة التاريخيين لحركة فتح، وهو أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولعب دورا رئيسا في مفاوضات التسوية مع الإسرائيليين، كما أنه صاحب وجهة نظر، بغض النظر عن مدى التوافق معها، بشأن سير الانتفاضة وبشأن إصلاح أحوال الساحة الفلسطينية. ولا شك في أن أبو مازن بحاجة إلى مراجعة طريقته في العمل وتعامله مع الأطر وفي طرح القضايا، بما يعزز دوره القيادي الجديد، لاسيما بعد الالتباس الناجم عن التفاهمات التي أجراها مع يوسي بيلين وعن أطروحاته التي قدمها بشأن الانتفاضة والحوار الفلسطيني، فثمة فرق بين أن تكون صاحب رأي أو ممثلا لتيار معين وبين أن تكون مسؤولا على الصعيد الوطني وهو وضع لا شك أن أبو مازن يدرك حساباته وحساسياته وتعقيداته. أما بالنسبة للنقاش الدائر بشأن صلاحيات رئيس الوزراء الجديد، فإنه من الضرورة بمكان، كما قدمنا، ومنعا لإعادة إنتاج التجربة السابقة العمل على تحاشي التداخل بين دور المنظمة ودور السلطة، أو بين جانبي العملية الوطنية الفلسطينية التحرري والمجتمعي. وبهذا المعنى فإن نجاح أبو مازن في مهمته الوطنية الجديدة ينبغي أن يضمن له، ولمجلسه الوزاري، الصلاحيات اللازمة للشروع في عملية بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية ومتطلباتها، على أن ينفصل ذلك تماما عن العملية التفاوضية مع الإسرائيليين، والمتعلقة بالقضايا المؤجلة لمفاوضات الحل النهائي: القدس؛ اللاجئين، الحدود، المستوطنات، لأن هذه القضايا ستبقى في عهدة منظمة التحرير الفلسطينية كونها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. من جهته فإن موقع أبو مازن في منظمة التحرير الفلسطينية وفي حركة فتح سيضمن له المشاركة في عملية المفاوضات السياسية، ولكن ذلك ينبغي ألا يكون على حساب دوره ومسؤوليته في إدارة أوضاع السلطة، على ألا يسري ذلك عموما على أعضاء المجلس الوزاري الذين ينبغي عليهم الاهتمام بشؤون وزاراتهم. وكذلك بإمكان الرئيس عرفات متابعة أمور السلطة، بشكل غير مباشر، من موقعه كرئيس لها، ومن خلال كونه المرجعية لرئيس الوزراء، في إطار من التكامل والترابط بين المهمتين. يبقى أن إصلاح أوضاع الساحة الفلسطينية يحتاج، أولا، إلى تفعيل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وهو ما نوه إليه الرئيس عرفات لدى افتتاحه المجلس المركزي؛ وثانيا، إلى تعزيز التعددية والديمقراطية في العمل الوطني؛ وثالثا، إلى الفصل بين السلطات وإقرار الدستور والتركيز على دور المؤسسات وإجراء الانتخابات؛ ورابعا، فإن ذلك يحتاج إلى مزيد من العمل والحوار من أجل التوصل إلى استراتيجية سياسية وميدانية متوافق عليها بين مختلف أطراف الطيف الوطني الفلسطيني. وبعد إقرار التحول القيادي الجديد في الساحة الفلسطينية لا نبالغ إذا قلنا اننا على أعتاب مرحلة جديدة، ولكن النجاح في هذه المرحلة يتوقف كثيرا على السير للنهاية في مسار الإصلاح والتنظيم وعلى أداء الرئيسين عرفات وعباس، وتوافقهما في مواجهة استحقاقات هذه المرحلة العصيبة والخطيرة. دمشق