Dominique Plihon. Le Nouveau Capitalisme. الرأسمالية الجديدة. Flammarion, Paris. 2001. 128 pages. قد تكون الميزة الكبرى للرأسمالية بالمقارنة مع التشكيلات الاقتصادية - الاجتماعية السابقة لها تاريخياً هي طبيعتها التطورية. فالرأسمالية لم تسجل على الاقطاعية تقدماً تاريخياً أعظم شأناً بما لا يقاس من التقدم الذي سجلته الاقطاعية على العبودية فحسب، بل ان الرأسمالية سجلت على نفسها بالذات تقدماً متزايداً باضطراد. فالرأسمالية، بخلاف التشكيلات التاريخية السابقة لها، لا تراوح في مكانها، بل هي مندفعة دوماً الى الامام ومجاوزة لنفسها في ديناميتها. وقد تطورت الرأسمالية على الدوام، ومن بدايتها، عن طريق المراحل. وقد كان أحد المحركات الرئيسية لهذا التطور الابتكار التقني الذي استتبع، باستمرار ايضاً، تجدد انظمة الانتاج. وبالاجمال، يمكن القول ان الرأسمالية مرت بمراحل كبرى ثلاث: 1ً- الرأسمالية الكلاسيكية التي تولدت من الثورة الصناعية الأولى التي كانت انكلترا مسرحها في الحقبة الممتدة بين 1760 و1875، والتي شهدت مولد النول الميكانيكي والآلة البخارية وتطور صناعة الحديد الصب والفولاذ. 2ً- رأسمالية الثورة الصناعية الثانية 1890 - 1965 التي اقترنت بالاستخدام الواسع النطاق للطاقة الكهربائية وباكتشاف المحرك الانفجاري وبتطور الصناعة الكيماوية. 32- رأسمالية الثورة الصناعية الثالثة التي دشنها، ابتداء من مطلع السبعينات من القرن العشرين، تطور التكنولوجيات الجديدة للاعلام والاتصال. وهذه المرحلة لا تزال بعيدة عن الاكتمال: فهناك من جهة أولى التطبيقات المدهشة للمبتكرات الالكترونية في مجال الهاتف والتلفزة والحاسوب، وهناك من جهة ثانية الاكتشافات المذهلة ايضاً في مجال علوم الحياة والجينات الوراثية. ويبدو ان هذه الثورة الصناعية الثالثة دخلت هي نفسها في طور جديد في مطلع القرن الحادي والعشرين هذا بفضل القفزة النوعية في مجال علوم المعرفة، بدءاً بالانترنت وانتهاء ببنوك المعطيات. هذه التجديدات التكنولوجية كان لا بد ان تؤثر على بنية الرأسمالية بالذات. فتماماً كما القطار في القرن التاسع عشر، والسيارة في القرن العشرين، فإن الاستهلاك الكثيف لتكنولوجيات الاعلام والاتصال الجديدة سيغير وجه الحضارة في القرن الحادي والعشرين. فالاقتصاد لن يقوم بعد الآن على القوة المادية، بل على القوة الذهنية، أو بتعبير أدق على قوة المعرفة. وهذا التحول سينعكس تبدلاً جذرياً في طبيعة القوة العاملة وفي البنية الاجتماعية للاقتصاد الرأسمالي الذي سيتحول اكثر فأكثر من اقتصاد صناعة الى اقتصاد خدمات. ففي 1806 كانت الخدمات لا تمثل سوى 15 في المئة من جملة النشاط الاقتصادي في البلدان الأوروبية الغربية مقابل 20 في المئة للصناعة و65 في المئة للزراعة. وفي 1996 كانت هذه النسب قد انعكست تماماً، فصارت الخدمات تستوعب في بلد مثل فرنسا 70 في المئة من قوة العمل مقابل 25 في المئة للصناعة، و4.5 في المئة للزارعة. أما في الولاياتالمتحدة، التي آلت اليها بلا نقاش زعامة الرأسمالية الجديدة، فباتت حصة الخدمات تمثل 80 في المئة من قوة العمل مقابل 17.5 في المئة للصناعة و2.5 في المئة فقط للزراعة. ويتواكب هذا التحول في البنية الاجتماعية للرأسمالية الجديدة مع تحول في طبيعة الاقتصاد نفسه. فهو سينزع أكثر فأكثر الى ان يكون "اقتصاداً لا مادياً". فثالوث الرأسمالية الصناعية: الانسان/ الآلة/ المادة، سيخلي مكانه لثالوث جديد: الإنسان/ الفكرة/ الصورة. بل ان طبيعة المنتجات الاستهلاكية ستتغير. فهذه المنتجات لن تكون ذات طابع ثابت وذات قيمة نهائية برسم الاستهلاك حتى الاهتلاك، شأن الغسالة الكهربائية التي تصمم ل"تعيش" نحواً من عشر سنوات قبل ان تتحول الى "نفاية"، بل ستكون من الآن فصاعداً ذات طابع متحول ومتطور ومفتوح على شبكة لا متناهية من الخدمات. اما المنتوج المادي بحد ذاته من جهاز انترنت أو تلفزيون أو هاتف نقال فلن يكون سوى "ركيزة" لتوزيع الخدمات، لا موضوع الاستهلاك بحد ذاته. ولهذا فإنه لا يندر ان تباع هذه الركائز المادية بأرخص من كلفتها الحقيقية، وذلك بقدر ما ان الغرض منها ليس تسويقها بحد ذاته، بل تسويق الخدمات التي يمكن ان تؤديها. وليست نماذج الاستهلاك هي وحدها التي تتغير، بل كذلك طرائق الانتاج وأساليب العمل والتنظيم الداخلي في المشاريع. ففي نظام الانتاج التقليدي كان الانتاج الكثيف للسلع المنمطة يتم داخل المصانع التي يعمل عمالها بالسلسلة ووفق المبادئ التايلورية للتنظيم العلمي للعمل. وكانت العلاقة بين العامل والآلة ثابتة، وكذلك بين الآلة ومنتجاتها على أساس "التقسيم التقني للعمل". ولكن في نظام الانتاج الجديد، الذي يحل فيه الرأسمال الذهني محمل الرأسمال المادي كمحرك لخلق المنتجات، تغدو المرونة، لا الثبات، هي الطريقة المثلى في التنظيم الداخلي للعمل، وذلك بقدر ما ان الخدمات المطلوب انتاجها ليست سلعاً جاهزة ونهائية، بل شبكات علائقية لا متناهية الأداء وقابلة لتلبية أوسع "مروحة" ممكنة من الأذواق الشخصية. وفي ظل هذا "التقسيم المعرفي للعمل"، فإن الرأسمالية الجديدة تتحول من "رأسمالية يد" الى "رأسمالية دماغ"، ويتقدم فيها بند الابتكار والتصميم على بند الانتاج والتنفيذ، ويخلي فيها العامل مكانه للمهندس، هذا ان لم يلتغ وجوده بصورة نهائية مع تعميم نظام التأليل. ولكن ليس تايلور هو وحده من أفل نجمه مع اطلالة عصر الرأسمالية الجديدة، بل كذلك فورد. فهذا الصناعي الاميركي كان اختط صفحة جديدة في تاريخ الرأسمالية عندما بادر في 1914 الى زيادة أجور عماله لتمكينهم من شراء سيارات شخصية من تلك التي ينتجونها في مصانعه. وعلى هذا النحو انقلبت بصورة جذرية وضعية البروليتاريا في الرأسمالية "الفوردية". فبدلاً من سياسة الحد الأقصى من التشغيل والاستغلال لليد العاملة - وهي التي حددت صورة الرأسمالي المصاص لدماء العمال كما رسمها ماركس بالاحالة إلى رأسمالية القرن التاسع عشر - باتت الرأسمالية الفوردية تراهن ليس فقط على الطاقة الانتاجية التي يمثلها العامل، بل كذلك على طاقته كمستهلك. ففورد قد أرسى، ببادرته، الأساس لعقد اجتماعي جديد بين العمال وأرباب العمل لتقاسم أرباح العمل. وهذا العقد هو الذي ورثته الدولة الراعية Welfare State التي تطورت في حقبة ما بين الحربين في دول الرأسمالية المركزية، واستطاعت أن تقاوم بنجاح مدّ الايديولوجيا الشيوعية، وذلك بقدر ما استطاعت، من خلال إعادة توزيع أرباح الانتاج، ان تثبت لامصداقية الدعاية الماركسية عن بروليتاريا بائسة ليس لديها ما تخسره بالثورة سوى قيودها. لكن النظام الفوردي، الذي كفل الازدهار الاقتصادي لبلدان الرأسمالية المركزية على مدى "الثلاثين سنة المجيدة" التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، دخل في طور أزمة مفتوحة في أواخر عقد السبعينات مع تباطؤ معدلات النمو وارتفاع معدلات التضخم النقدي ودخول النظام النقدي الدولي في منطقة عواصف ما قبل عصر العولمة. وكردّ فعل على هذه الأزمة اضطرت الحكومات إلى فك الارتباط ما بين الأجور وأرباح الانتاجية، وإلى اتباع شد الأحزمة في ما يخص زيادات الأجور، وإلى اطلاق عمليات الخصخصة وإلغاء الرقابة على صرف العملات، في الوقت نفسه الذي جاءت فيه "الثورة المحافظة" في أميركا الريغانية وبريطانيا الثاتشرية لتعلّق دولة الضمانات الاجتماعية ولتوقف العمل بعقد الشراكة بين أرباب العمل والعمال الذي على أساسه حققت الرأسمالية الفوردية معجزة "الثلاثين سنة المجيدة". والواقع أنه في أثناء ذلك كانت الرأسمالية قد تحولت، في بنيتها بالذات، من رأسمالية أرباب وعمال إلى رأسمالية مدراء شركات ومساهمين. وفي ظل "رأسمالية المساهمين" هذه ما عاد المطلوب استرضاء العمال الذين انخفضت نسبتهم أصلاً كعنصر انتاجي انخفاضاً كبيراً مع تطور نظام التأليل - بل استرضاء المساهمين وتأمين حصتهم المتوقعة من الأرباح. وقد ترتبت على هذا التحول البنيوي للرأسمالية ثلاث نتائج خطيرة. فالتنظيم الاجتماعي في نظام الرأسمالية الفوردية كان يقوم على دعائم ثلاث: مؤسسات ممركزة، وعلاقات اجتماعية ثابتة وقيم جماعية قوية. والحال ان هذه الدعائم الثلاث قد تهاوت جميعاً في ظل رأسمالية المساهمة. فمجتمع الشبكات العلائقية الذي ارست أسسه ثورة التكنولوجيات الإعلامية الجديدة أدى إلى نزع الصفة المركزية عن العلاقات الاجتماعية وحطم احتكار الدولة لوسائل الإعلام الجماهيري. كما أن تلك التكنولوجيات عينها اقتضت التحول عن التنظيم التيلوري، القائم على التراتب الهرمي، إلى تنظيم افقي ولامركزي للمشاريع يقوم على مبدأ الارتباط المتبادل. وأخيراً فإن نظام القيم الجماعية الذي كان يميز النموذج الفوردي من تضامن وتآزر وتعاقد جماعي قد أخلى مكانه لنزعة فردية مشتطة. إذ ان الارتباط عن طريق الشبكة يجبر الاجراء على التصرف كأفراد بدون مرجعية طبقية وبلا وساطة نقابية. وحتى سوق العمل في نظام الشبكة تغدو قائمة على ما يفرّق بين العاملين الاجراء لا على ما يجمع بينهم. فسوق العمل التي باتت تتطلب مهارة اختصاصية وقوة دماغية، لا قوة عضلية، صارت تتطلب أيضاً تمييزاً في شروط الاستخدام وتفاوتاً كبيراً في عقود العمل والأجور. فالمرشح للاستخدام هو بالضبط ذاك الذي يملك مهارات لا يملكها غيره من المرشحين. ومن ثم فقد التغى مفهوم العقود الجماعية، وكذلك مفهوم العمل الثابت والاستخدام الدائم. فحل التعاقد لأجل محدود محل التعاقد لأجل غير محدود، كما حل مفهوم العمل بدوام جزئي محل العمل بدوام كامل. وقد ارتفعت نسبة المتعاقدين لأجل محدود أو بدوام جزئي من 4 في المئة إلى 16 في المئة في عموم البلدان الأوروبية في الفترة ما بين 1986 و1996، وإلى ضعف هذه النسبة في الولاياتالمتحدة وبريطانيا. وقد تواقتت جملة هذه التحولات في البنية التنظيمية للرأسمالية الجديدة بتحولات على صعيد البنية الفوقية الايديولوجية. فالايديولوجيا النيو-ليبرالية، التي انداحت موجتها في العقدين الأخيرين، أحدثت انقلاباً حقيقياً في المناخ الفكري السائد بما يتلاءم وحاجات الرأسمالية الجديدة. فقد قلبت نظام الأولويات، إذ قدمت الفرد على الجماعة، والعقد على القانون، والسوق على التخطيط، وما هو اقتصادي على ما هو سياسي واجتماعي. ولا شك ان نجاح الرأسمالية الجديدة يرتبط على المدى التاريخي الطويل بقدرتها على استقطاب صبوات النخب الفكرية. وهذه المهمة هي الموكلة للايديولوجيا النيو-الليبرالية التي تبدو وكأنها أفلحت حتى الآن في إسكات الانتقادات الموجهة إلى الرأسمالية الجديدة من قبل قوى اليسار الجديد. ولكن إلى متى؟ سؤال يعترف مؤلف هذا الكتاب عن "الرأسمالية الجديدة" بأنه لا يملك جواباً له، على رغم أنه واحد من أنشط المعارضين في الساحة الثقافية الفرنسية اليوم لايديولوجيا عصر العولمة.