Frederic L. pryor. The Future of U.S. Capitalism. مستقبل الرأسمالية الأميركية. Cambridge University Press, Cambridge. 2002. 447 pages. قبل أسبوعين رسم تلميذ كينز، وأهم الاقتصاديين الكينزيين الأحياء، جون كينيث غالبرايث، لوحة داكنة للاقتصاد الأميركي. فجورج بوش، بحسب ما قاله الاقتصادي الأميركي العجوز 93 عاماً ل"الأوبزرفر" البريطانية، لا يملك من الخطط الا إعفاء الأغنياء من الضرائب والتعويل الآحادي على البنك المركزي الاحتياطي الفيدرالي. وبدوره ينهي فريدريك برايور كتابه عن الرأسمالية الأميركية بهذه الفقرة: "لحسن الحظ، يعتمد المستقبل على عوامل عدة يشكل التدخل الانساني المتعمّد أحد أهمّها. والكثير من المخاطر التي أستشرف ترتكز على فرضية مُخبّأة هي: إما أن تُتخذ اجراءات سياسية ضرورية للتغلب على المشكلات الاقتصادية الظاهرة، أو أن تُتخذ اجراءات تتبدى عديمة النفع إما في رسمها أو في تنفيذها. وأعتقد أن هذه الفرضية واقعية: جزئياً لأن تعقيدات المشكلات الاقتصادية الظاهرة لا تسمح بشرحها بطريقة بسيطة تحوّلها إلى قضايا سياسية حيوية، على ما دلّت الحملة الرئاسية عام 2000 في ما خص توقّعات الموازنة وخصخصة الضمان الاجتماعي. وجزئياً لأن المصالح ذات التمويل الجيد سوف تقاتل بضراوة لمنع الحلول التي تترتّب عليها آثار مختلفة، فيما تكون المصلحة العامة أضعف تمويلاً. وبالنتيجة، وبمتابعة القوى العاملة على مدى بعيد، والتي تشكّل المؤسسات الاقتصادية الأهم في الولاياتالمتحدة، سوف يتطور النظام الاقتصادي الأميركي بطرق شتى نحو رأسمالية ذات وجه لا إنساني. إنني آمل أن أكون مخطئاً". ما هي المقدمات التي استند اليها هذا الاقتصادي الأميركي والعالمي ليصل إلى مثل هذا التوقع المتشائم في صدد مستقبل الرأسمالية الأميركية، عشية ما يصفه البعض بالركود الوشيك؟ خلال معظم النصف الثاني من القرن العشرين نُظر الى النظام الاقتصادي المتغير في أميركا من زاوية "الرأسمالية في مواجهة الشيوعية". لكن بعد انهيار الاقتصاد السوفياتي بات السؤال أدق وأقل حمولةً ديماغوجية: أي نوع من الرأسمالية: ذي الهمّ الانساني الممزوج بالربح، أم الربحي العاري؟ وبرايور يسجّل، في هذه الحدود، عناصر قوة الرأسمالية الاميركية، وهي كثيرة بطبيعة الحال، الا أنه يتوقع، لدى تناولها بذاتها، اتجاهها الى ما يسميه "إقتصاد سوق أوليغارشي" يمكن استشرافه في عدة أوجه - مرتكزات. فهناك النمو الاقتصادي المتراجع حيث يشير عدد من المعطيات الى أنه سيقلّ، في النصف الأول من القرن الواحد والعشرين، عما كانه في النصف الثاني من القرن العشرين. ومما يحظى هنا بأهمية خاصة أن التغيرات الديموغرافية ستؤدي الى نسب أدنى من التوفير والتوظيف معاً، ما تنمّ عنه تحولات البُنية العمرية للسكان في حالتي السكان العاملين والمتقاعدين على السواء. إذ لما كان العاملون يوفّرون والمتقاعدون ينفقون أو بالأحرى يُنفق عليهم، لا بد أن تفضي شيخوخة السكان الى تدني نسب التوفير الوطني عموماً. وهذا ما يقود بدوره الى نسب أدنى من التشكّل الرأسمالي. ثم ان انحسار الرأسمال الاجتماعي وتراجع الثقة بالحكومة سيخلقان صعوبات أكبر أمام صياغة وتنفيذ سياسات حكومية تستطيع توفير بيئة اقتصادية أشدّ مواءمةً للنمو، و في الوقت نفسه، أمنع في وجه الركود. أما الاندماجات في القطاع المالي فقد تقود الى تراجع النمو في ما لو خفّت حماسة البنوك الضخمة لتمويل مشاريع جديدة، وهو ما كان المناخ التنافسي ليؤمّن تمويلها. وهناك أيضاً القابلية المتزايدة للعطب: فدورة البيزنس تستعصي بالتعريف على التدجين. لكن يبدو ان الاقتصاد سيغدو أشد قابلية للعطب لأن تعاظم العولمة سيضعف بالتدريج قدرة السياسات المالية والنقدية للدول الوطنية على إحداث استقرار اقتصادي. وعولمة كهذه قد تفاقم قابلية النظام الاميركي للهزات الخارجية الناجمة عن الاقتصاد الكوني، لا سيما في القطاع النقدي حيث ينمو حجم الرساميل الأجنبية التي تدخل الى الولاياتالمتحدة أو تغادرها، والتي تمسي أشد استعصاء على السيطرة. واذا استمرت في المستقبل اختلالات الحسابات الراهنة لميزان المدفوعات، ومضى تدفق الرساميل الاجنبية الى الولاياتالمتحدة، فان حصة الملكيات الاجنبية للمشاريع ستتضاعف، كما تنتقل صعوبات السيطرة والتحكّم الى السوق المحلية كذلك. وبدوره قد يتضعضع استقرار النظام المالي بفعل مديونية الأفراد والشركات، بالقياس الى مداخيلهم، فضلاً عن نشأة شركات عملاقة مُختلة وظيفياً بنتيجة الاندماجات إياها. لكن الأهم يتجسد في الفوارق المتعاظمة في المداخيل والمرشحة للتزايد مستقبلا تتويجاً لما بدأ في الربع الرابع من القرن العشرين. ولئن كان هذا التفاوت قد لُجم لوهلة قصيرة أواخر التسعينات، فقد نجم اللجم عن بحبوحة استثنائية لا يُعوّل عليها الى ما لا نهاية. ومع ان أنصار "الاقتصاد الجديد" حاجّوا بأن البحبوحة تلك ستستمر وتضغط التفاوت في المداخيل، فإن مصادر النمو التي تميزت بها كانت ضيقة وأضعف من أن تصدّ انهيار البورصة اللاحق. والحال أن عدداً من القوى السببية لا تزال تعمل بما يدفع في وجهة تعظيم تفاوت المداخيل. فحركة تركّز الثروة مصحوبةً بمراكمة أرباح أكبر متأتية عن تركّز صناعي أعلى وتنافس سوقي أدنى، سوف يعملان على تسمين مداخيل الشرائح الأغنى. واذا لم يتزايد الانفاق الحكومي على التقاعد والصحة بشكل مناسب، فستنشأ طبقة جديدة من المسنين المعوزين. كذلك فان الاعتبارات الايكولوجية المتضاربة قد تعزز أيضاً الاتجاه نحو مزيد من التفاوت، لا سيما وان الأفقر ينفقون على الطعام وسلع تجديد الطاقة نسبة من مداخيلهم أعلى بكثير من التي ينفقها الأغنياء قياساً بمداخيلهم. وهكذا فإن كل ارتفاع في أسعار الغذاء ومواد الاستهلاك الخام بفعل العوامل البيئية سيكون أثره أثقل على الفقراء. وهذا نقد يخالف كارل ماركس في افتراضه أن الرأسمالية ستنهار، خصوصاً أن برايور لا يرى في الأفق بروليتاريا بأي معنى كان للكلمة ذات سلطة وتنظيم يتيحان لها انتاج التوجه الايديولوجي المتماسك والضروري للثورة. كما أن الاختلالات المنقودة في عمل الرأسمالية ليست، في رأيه، حادة الى درجة تفضي الى انفجار راديكالي. كذلك يخالف الباحثُ السوسيولوجيَ الأميركي دانيال بيل لأنه لا يرى أننا بلغنا "نهاية الايديولوجيا"، رغم موت المفاضلات بين الرأسمالية التقليدية والاشتراكية. فإذا صح ان الخطاب الايديولوجي في الولاياتالمتحدة في ما خص الاقتصاد لا يزال معتدلا، كما لا يزال السجال السياسي متركّزا أساساً على فوارق تفصيلية، الا أن من غير المستحيل ظهور نمط آخر من النضال الايديولوجي في المستقبل، شاملاً قضايا كإعادة توزيع المداخيل او درجة سيطرة العمال على شروط عملهم. وبرايور يعارض فرانسيس فوكوياما إذ لا يظن أننا بلغنا "نهاية التاريخ". لا بل، وكما نجد على امتداد الكتاب، لا يزال النظام الاقتصادي الاميركي مرشحاً لاحتمالات عدة ليس الزاهي بينها هو الطاغي عليها بالضرورة. والمؤكد، عنده، أن الرأسمالية الليبرالية في الولاياتالمتحدة لن تثبت على شكلها الراهن بصفته المطاف الأخير. وهو أيضاً يعارض "الأرميات" جمع أرميا التوراتي المنذر بالخراب الأيكولوجيين كلستر براون وبول إهرليش وغيرهما. فهو شكّاك بأن تقود المشاكل الناتجة عن تزايد السكان والتلوث والتسخين الحراري وندرة المصادر قيادةً "مباشرةً" الى تغيرات بارزة في النظام الاقتصادي. لكنه، على عكس دعاة الوفرة والازدهار، كهيرمان كاهن وجوليان سايمون، يرى أن التدمير البيئي يرتّب من الآثار ما يدعو إلى بذل بعض الجهد في متابعة الانعكاس السيء على توزيع المداخيل. وهو أخيراً يعارض نورمن ماكراي إذ لا يؤمن بحتمية تكنولوجية ملزمة. فماكراي يحاجّ بأن هبوط أكلاف المواصلات والاتصالات وتوسع دور الانترنت عالمياً، سوف يقلّص المعامل كما المشاريع، فيما سينتقل تسيير المؤسسات والمنظمات الى مجرد علاقة بين شخص وشخص عبر البريد الاليكتروني. وبنتيجة هذه الثورة التكنولوجية سوف يرتفع الانتاج العالمي بنسبة 5 في المئة سنوياً، بينما يتولى ارتفاع مستوى الانتاجية تضييق الهوّة بين الأمم وحل مشكلات نقص الغذاء. ولا يشارك برايور ماكراي إيمانه بأن التكنولوجيا يمكن أن تؤشّر بطريقة لا لبس فيها الى اقتصاد بديل باهر النجاح، يتحقق نجاحه بمعزل عن كل استثمار أو ادّخار. لكن اللوحة الداكنة للاقتصاد الأميركي لا ترسمها خطوط اقتصادية فحسب. فهناك أيضاً الناتج السلبي الذي ترتّبه تحولات الثقافة والقيم. ذاك أن "روحية الرأسمالية" بالمعنى الفيبري تعرضت وتتعرض للتآكل، وهو ما رده دانيال بيل الى أواسط السبعينات، حيث شرعت الحداثة والمتعوية في تقويضها. فقد تراجعت "القيم البورجوازية" الأقدم عهداً التي تعطي الأولوية للسيطرة على النفس والعمل الشاق والتوفير والعقلانية والتخطيط. وقد رأى بيل أن السبب الأهم في تحطيم الأخلاقية البروتستانتية هو بطاقات الإئتمان Credit Cards حيث لم يعد التوفير شرطاً للاستهلاك، زاعماً ان الحداثة في تمادي تطورها استهدفت قتل النظرة البورجوازية التقليدية إلى العالم التي اتسمت بالعقلانية والبراغماتية. وجاء هذا الإنكار، أولاً، عن طريق إنكار القيم في الفن ثم تسفيل طريقة الحياة نفسها. فالثقافة اليوم عند بيل "مسرفة، مشوّشة، يتحكّم بها الطبع اللاعقلاني واللاثقافي حيث النفس حجر الزاوية في الأحكام الثقافية جميعاً، فيما الأثر على النفس معيار الجدوى الجمالية للتجربة". وهذا النقد الذي لا يخفى قدمه الذي تتردد أصداؤه في اليمين كما في اليسار، تكمّله انتقادات لتعاظم دور الدين في الحياة الثقافية الأميركية. فإلى سطوع القيم المادية يتسع التمرد على العقلانية ويتزايد المؤمنون بقوة العناصر الروحانية الخفية. ومن الواضح تبعاً للانهيارات المصرفية وتنامي ديون بطاقات الائتمان، أن الأميركيين باتوا يوفّرون أقل، فيما يتقلص الزمن الفعلي لأسبوع العمل ويتزايد التغيّب ووقت الفراغ، وبالطبع تضعف ثقافة صاحب المشروع - المؤسس. تنبؤات برايور قد لا تصح. لكنها تبقى جديرة بأن يُحسب لها حساب، ولو تلوّنت ببعض الولاء للعالم والاقتصاد القديمين. ففضلاً عن عمله في معظم الجامعات البارزة في الولاياتالمتحدة، خدم البنك الدولي والحكومة الهولندية وعدداً من الوزارات الاميركية، كما عمل لمجموعة سوروس الاقتصادية ومؤسسة بروكنغز وغيرهما. وهو، في النهاية، ينجح في إقناع قارئه بأن قوة أميركا وأهميتها ليستا حائلاً دون إعادة النظر ببعض ما يُعتبر ثوابت راسخة فيها وفي اقتصادها.