هل نستطيع ان نمضي أسرع من عصرنا؟ وهل نعرف حقيقة، ما هي التكنولوجيا التي تسود الساحة اليوم؟ وهل بادر أحد الى وضع اشارة استفهام امام هذه التكنولوجيا ومستقبلها في ظل هبوط اسهم شركات "الانترنت" واعلان الكثير من الشركات المصنعة لشرائح الكمبيوتر والاتصال عن تباطؤ الطلب على منتجاتها في انحاء العالم كافة؟... هذه الأسئلة وغيرها تطرحها خشية الشركات العاملة في مجال التكنولوجيا الحديثة من خسارة مبالغ طائلة، على غرار ما حدث مع "الانترنت"، وسط البحث المحموم عن جمع مفردات التكنولوجيا الحديثة من كمبيوتر وتلفزيون وهاتف محمول وما الى ذلك من مكونات الوسائط المتعددة في جهاز واحد كخطوة مهمة على طريق تحقيق ما يسمى بالمرونة الكاملة التي تداعب خيالات أقطاب رأس المال العالمي، الأمر الذي يصنع معظم التطور التكنولوجي وحدوده المرتهنة لنمط الانتاج السائد على بساط البحث من جديد للتدقيق في آلياته الوقوف على صحة المفاهيم التي رافقت انطلاقته الصاروخية. في مؤلفيه المعنونين: "الموجة الثالثة" و"المشروع المرن" والأخير هو تقرير أعده بناء على طلب وتمويل "اي تي تي" يعتبر المنظر الفين توفلر ان الثورة الزراعية التي حدثت قبل حوالى 10 آلاف سنة كانت الموجة الأولى للتطور التاريخي. أما الموجة الثانية فهي الثورة الصناعية التي تمخض عنها المجتمع الصناعي. فيما نعيش هذه الأيام، بحسب رأيه الموجة الثالثة المرتكزة على الثورة العلمية - التكنولوجيا في مجال المعلوماتية والتي تستعد لولادة حضارة جديدة تماماً يسميها بمجتمع "ما بعد الصناعة". ويقوم الانتاج في هذا المجتمع على أساس "المرونة" والتنوع وتجاوز النمطية. وواضح ان هذا التفسير مفصل بعناية للتعبير عن الطموح الذي يتملك أذهان أرباب الاحتكارات ويشكل هاجسهم الأكبر ألا وهو الوصول الى مرحلة "المرونة الكاملة" التي تعني رفع سرعة دوران رأس المال الى حدها الأقصى، وخفض كلفة الانتاج الى حدها الأدنى وزيادة مرونة الآلات القدرة على تنويع استخداماتها ومرونة العمل القدرة على توسيع أو تقليص كمية العمل المستخدم الى أعلى مستوى ممكن. ويعني هذا انتاجاً من دون مخزون أو تلف أو وقت ضائع أو عمل يزيد عن الحد الأدنى الضروري. أي باختصار انتاجاً وفق الطلب، يحقق معادلة الأصفار الخمسة: اختزال مخزون السلع والخامات الى الصفر، والوقت الضائع في الانتظار الى الصفر وعيوب الانتاج الى الصفر، والأخطاء الى الصفر، والعمل الورقي الى الصفر. لا شك في ان شوطاً مهماً قطع على طريق تحقيق المرونة، الا انه بقي ضمن حدود المرونة الجزئية في نطاق المؤسسة ككل، حيث انصب الجهد على تطوير الالكترونيات الدقيقة المايكر والكترونيكس التي تسمح بتطوير أنظمة خزن المعلومات ومعالجها وبرمجتها ونقلها، وباختزال حجم أجهزتها وتوسيع نطاق معالجتها واعادة برمجتها، كما جرى تطوير المعالج المصغر المايكروبروسسور، مما فتح الطريق لظهور الحاسب الالكتروني المصغر الميني كومبيوتر والتوسع والتطوير السريع لصناعة الرقائق الالكترونية الدقيقة المايكروتشيبس التي أزالت الحاجة الى الصحائف والأشرطة المثقبة كوسائل لخزن ونقل المعلومات. وتم بذلك تطوير الكمبيوتر الدقيق المايكروكومبيوتر، وأصبح بالامكان تطوير أجهزة التحكم في الآلات واختزال حجمها، ومن ثم تطوير الآلات القابلة لاعادة البرمجة عبر حاسب الكتروني مركب داخل هيكل الأدوات للآلة نفسها، مما يزيد من مرونتها وتطورت هذه الى الآلة المتعددة الجوانب التي تعاد برمجتها ذاتياً حيث تقوم بسلسلة كاملة من العمليات المختلفة بواسطة تغيير أدواتها ذاتياً. أما الخطوة التالية التي تقرب من "حلم المرونة الكاملة" فسوف تتمثل في جعل الآلات العاملة على خط الانتاج الواحد، ثم في المصنع الواحد، وصولاً الى المشروع ككل، قادرة على التواصل وتبادل المعلومات والتوجيهات بين بعضها البعض، وهو الأمر الذي ما زال حتى الآن في اطار "الأحلام اللذيذة". وبالطبع فإن الثورة التكنولوجية الأخيرة انطوت، اضافة الى "المعلوماتية"، التي تشكل محورها الرئيسي، على محاور أخرى كثيرة، وخصوصاً في مجال الكيمياء والكيمياء الحيوية والهندسة الوراثية هندسة الجينات، التي كان لها انعكاسات مهمة على بنية الزراعة وتربية الحيوانات وانتاج الغذاء عموماً. كما كان لتطور الكيمياء وتطبيقاها التكنولوجية كتخليق المعادن واللدائن والألياف الزجاجية والمطاط الصناعي والخيوط والأنسجة الاصطناعية، انعكاس مهم في احراز نسبة عالية من التوفير في الطاقة وفي استخدام الخامات وتأمين بدائل صناعية أقل كلفة، وفي تقليص نسبة التلف من الخامات أثناء عملية الانتاج، وزيادة القدرة على معالجة النفايات والاستفادة منها. الا ان كل ذلك لم يوصل الى الحلم بتحقيق مفهوم "المرونة الكاملة" التي يعتبرها بعض المنظرين المعاصرين خاصية من خواص نمط الانتاج الرأسمالي، وتحديداً في مرحلته المتطورة "الاحتكارية الدولية"، وربما من المستحيل الوصول الى اليوم الذي تحل فيه الآلة محل الانسان في شكل كامل، أو شبه كامل، في ظل نمط الانتاج الرأسمالي السائد وعلاقاته الاجتماعية، حيث ستبقى وتيرة التجدد التكنولوجي محكومة بقوانين تراكم رأس المال وبحاجات ومتطلبات هذا التراكم فهي تتسارع حين يتطلب التراكم ذلك، وتتباطأ حين يفيض تراكم رأس المال وتبدأ تتشكل عناصر الأزمة. واذا تجاوزنا قوانين تراكم رأس المال التي تحكم درجة التجديد والتقدم التكنولوجي الحقيقية، ونظرنا الى المسألة من زاوية تقنية صرفة، فإننا نجد ان زيادة انتاجية العمل التي حققتها الثورة التكنولوجية الحديثة، باعتبارها احدى أهم المرتكزات في الوصول الى مرحلة "المرونة الكاملة"، وبافتراض ان جميع المبتكرات الحديثة تجد تطبيقاتها فوراً في مجال الانتاج، لم تستطع ان تضاعف نفسها في مجال الصناعة إلا ست مرات خلال تسعين عاماً منذ مطلع القرن. فالروبوت، على سبيل المثال، يقوم بالعمل الذي يقوم به 7.2 عامل، وكل اثنين من الروبوتات بحاجة الى عامل واحد لمراقبتها وصيانتها، والأتمتة القصوى للمشروع المرن، ضمن الحدود المعروفة حتى الآن، تحل ستة عمال محل 32 عاملاً لانتاج الكمية نفسها من المنتجات في الفترة الزمنية نفسها. وبالمقارنة مع منجزات الثورة الصناعية للقرن الماضي، فإن استبدال دولاب الغزل اليدوي بمغزل آلي كان يترتب عليه زيادة انتاجية العامل الواحد بحوالى مائة وثمانين مرة! كما ان العامل الحرفي متوسط القوة والمهارة، كان في اطار نظام التعاون الحرفي، في القرن الثامن عشر، قادراً على انتاج 4800 ابرة في اليوم، بينما في منتصف القرن التاسع عشر، فإن عاملاً عادياً، من دون خبرة يمكنه ان يشرف على عمل أربع ماكنات لصنع الأبر وينتج حوالى 600 الف ابرة في اليوم. أي ان الصناعة الآلية والمانيفاكتورة، أدت الى زيادة انتاجية العمل، في المتوسط، بوتيرة تفوق ثلاثين مرة ما يمكن ان تؤدي اليه الأتمتة القصوى بحدودها المعروفة حتى الآن. لقد بدا للبعض ان الثورة التكنولوجية هي السبب في وصول تمركز رأس المال الاحتكاري الى ذراه الشاهقة، وتحويل العلم الى سلعة، وانها جعلت من البحث العلمي عملاً جماعياً، فيما العكس تماماً هو الصحيح. فالشركات الاحتكارية تعتبر ان شراء براءات الاختراع التي تتعلق بمجال نشاطها الانتاجي، واحتكار العلم والخبرة التكنولوجية، من أهم مستلزمات اهتماماتها. ومنذ الخمسينات، وفي شكل أكثر تطوراً منذ السبعينات، أضحت وحدات البحث العلمي التابعة للاحتكارات وحدات انتاجية قائمة بذاتها تستخدم المئات من العلماء والمهندسين والعمال والتقنيين، ويسودها الانضباط الصارم وتقسيم العمل السائد في المصانع. أما التطبيق الفعلي لمبتكرات هؤلاء فيبقى مرهوناً بمتطلبات تراكم رأس المال وقوانين المنافسة الاحتكارية. ولكن، في شكل عام، فإن تطبيق الخبرة التكنولوجية المتراكمة يصب، في النهاية باتجاه ابطاء وتيرة التجدد التكنولوجي على المدى البعيد. وذلك بعكس الحال في ظل المنافسة الحرة، أو في المراحل الأولى من نمو الرأسمالية الاحتكارية، لأن الاحتكارات لا تميل الى الاقدام على استثمارات ضخمة في الوسائل التكنولوجية الحديثة الا عندما يصبح ذلك الاقدام ضرورة موضوعية تفرضها المنافسة. وتتطلبها موجبات الاندماج والاستيلاء واعادة الهيكلة، التي تبتلع الاحتكارات بعضها البعض خلالها، وخصوصاً خلال الأزمات وعلى سبيل المثال، فإن شركة جنرال موتورز لا تستغل أكثر من واحد في المئة من مجموع براءات الاختراع التي تمتلكها. وبالإجمال، فإن وهم "المرونة الكاملة" الذي يفترض تطوراً تكنولوجياً متكاملاً لن يجد له، في المدى المنظور، وفي ظل العلاقات الرأسمالية السائدة، مكاناً له تحت الشمس فيما يقود التطور التكنولوجي الجاري حالياً الى تضخيم جيش العمل الاحتياطي وتعجيل نمو فيض السكان النسبي، وتتحول البطالة الى ظاهرة مزمنة تتعاظم معدلاتها، باضطراد، على المدى الطويل، ويسقط عشرات الملايين تحت وطأة الجوع على رغم الزيادة الهائلة في الانتاج الزراعي، وفي الوقت الذي تتوافر فيه الشروط لإلغاء التناقض بين الريف والمدينة، وبين الزراعة والصناعة، تتفاقم أزمة القطاع الزراعي ويزداد تخلفه عن الصناعة، ويتفاقم التهميش الاجتماعي المضطرد لقطاعات واسعة من البشر، ويتعمق امتهان العمل الذهني، الى جانب اليدوي. وبينما ينطلق العمل لغزو الفضاء تتعاظم نسب الأمية والجهل حتى في قلب المراكز الرأسمالية الأكثر تقدماً.