يكتب الروائي التونسي حسونة المصباحي في "وداعاً روزالي" الصادرة عن منشورات الجمل، كولونيا، المانيا، رواية الخيبة والفشل لجماعة من المهاجرين الذين رفضوا وضعهم في بلادهم وعجزوا عن ايجاد مكان لهم في مغتربهم. خائبون، هامشيون، منفيون يجمعهم الليل والادمان ويؤلبهم واحداً ضد الآخر، وكتلة ضد الأخرى. لا يقدم الغرب حلاً لمشاكل الانتماء والقبول لكنه لا ينحصر في الوقت نفسه بامرأة تمثله مقابل الرجل الذي يخضعها ويرمز الى شرقه. "وداعاً روزالي" ليست مطية لانتقام الشرق المستعمَر المتخلف من الغرب الفاتح المتقدم بل مجرد ملاذ للهاربين من الجهل المتفشي والأنظمة البوليسية. والأوروبية التي تحضن الشرقي وتهيم به هي نفسها التي تتركه من أجل آخر، قد يكون شرقياً أيضاً وغنياً، فتتسبب بانهياره ودماره. لا انتصارية حضارية أو فردية، والغالب يواجه هزيمته غالباً. ميلود، بطل الرواية، يكرر الإشارة الى "الشرق الذي هجرته غير آسف" لكنه يعود اليه ساعياً الى خلاصه على يد امرأة. لماذا تتحمل النساء عبء الانقاذ والمصالحة مع الذات والعالم عند كتاب من أجيال مختلفة؟ هل لأنها رمز الى بداية جديدة ويكفي قبولها للرجل على علاته سبباً للوجود وحاضراً على الواجهة مجدداً، أو لأنها حقاً النصف الآخر الذي يطلب منه الرجل المنهزم لعب دور الانعاش والعناية الفائقة ليتمكن من حمل السلاح ثانية. ميلود الضائع المشوش يصل الى نهاية مغلقة عندما يتبين أن روزالي وهم من صنع يأسه البالغ، وكان متعلقاً بها خشبة خلاص وحيدة تعيد اليه توازنه. زهرة، ابنة بلاده وصديقته الوحيدة، حذرته من الرهان على الآخرين: "خلاصك ليس مرهوناً بالأمكنة وانما بك أنت" ص140. وكان يمكنها ان تمسك بيده وتوقف مسيرته نحو الهاوية، هي الواقعة الحانية معاً، لكن ميلود الدائر حول نفسه عزز قتامها عندما وضع البديل من حياته في وهم. ويبلغ الموقف الكافكاوي ذروته عندما يصل الى مدينة روزالي الموعودة ويجد كل من وما يعرفه فيها عداها. تمسك بها رجاء وحيداً وإذا به يفقد كل شيء بما في ذلك عقله ووجوده: "فكأني ما عشت وما كنت أبداً" يقول في نهاية الرواية. يلخص ميلود حياته بقوله: "أردت ان اتملص من الشرق لأتطبع بطبائع الغرب فخسرت الاثنين معاً" ص140. كان طفلاً حاد الذهن حفظ في السابعة كلام الله عن ظهر قلب بالسماع فأشرق الأمل في الأسرة الفقيرة التي رجت ان ينجح وينشلها من لعنة الفشل والعوز. تفوق في دراسته ونعم بحب أسرته لكن عنوسة شقيقته حليمة حملت اليأس للجميع. ذبلت الفتاة وساءت صحة والده وشاخت والدته قبل الأوان، ولكأنه رفض دور المنقذ الثقيل عندما بدأ يفقد ايمانه بالثوابت ويتمرد عليها. كانت قصص الأولياء والصالحين تفتنه وتنسيه الفقر والأحزان لكن الدين لم يعد يقدم الأجوبة في مرحلة المراهقة. لاحظ فجأة ان مدينته التي يسميها "قاق" وقد تكون القيروان في تونس محاطة بالمقابر فقرر انها مدفن يجلب النهاية لسكانها وحمّلها مسؤولية "بوار" أخته وأمراض والده وهرم والدته وترمل خالته المبكر. كانت المدينة مباركة ذات ماضٍ مجيد لمشاركة ابنائها في الفتح العربي، وباتت مصدر الشقاء والمحل الذي يسقط عليه إحباطه. انفصل عن ماضيه عندما دخن أول سيجارة في اول ايام الصوم، وعندما قرأ "الغريب" لألبير كامو أزاحت الرواية الوجودية "جداراً سميكاً عن اسئلة كنت اخشاها وأتجنب طرحها". هرع في الماضي الى الجامع لينهي الشك ويطمس الأسئلة التي عرف انها ادت الى "الظلال أو الجنون" ص112 لكن الثوابت ارتجت وتزعزعت وافتقر عالمه الى السلام الداخلي. بدأ كامو الرواية ب"ماتت امي اليوم او امس، لست اكيداً" فبهر ميلود باللامبالاة التامة ووجد الجواب فيها، على انه جهل ان الكاتب لم يكن ميرسولي بطل الرواية وأنه عبد امه في الواقع و قال: "أؤمن بالعدالة لكنني سأدافع عن امي قبل العدالة". مات ميلود "الصالح" المتمسك بالعائلة والوطن والدين وظهر مشاغباً يرتكب الممنوعات ويجعل المحرمات شعاره. لم تعد مثله العليا شخصيات الفتح العربي والزاهدون الهاربون من شرور العالم بل كائنات الأدب الوجودي القلقة الحائرة التي تراقب العالم بلامبالاة مطلقة، ص113. وكان شكه في تحوله قصير الأمد اذ اعتبر حياته الماضية قفصاً حديداً، لكن صراعه مع نفسه أثقله بالذنب والإحباط فترك الجامعة من دون ان يكمل الدراسة ليقطع بذلك علاقته مع نظام اجتماعي آخر بعد الدين والأسرة. ينبذ ميلود قيمه الشرقية لكنه لا يربح شيئاً غير الحرية في الغرب. تنقل بين اميركا وأوروبا واستقر في ألمانيا وعرف التشرد والجوع لكنه كان سعيداً مع ذلك لأنه نعم بالحرية التي حرم اياها في وطنه، ص23. على انه لم يجد نفسه وسلام روحه، واستسلم للهزيمة في الغرب كما في الشرق: "أنا الغريب المثقل بالأحزان المكسور الجناحين الذابل الروح" ص36. حسونة المصباحي يجرد بطله من جذوره ولا يعوض عليه ببديل من الماضي او الحاضر او المستقبل. في رحلة العودة يرى امرأة تعود الى بلادها بسبع حقائب ضخمة تمثل لها غنيمتها من الهجرة: "اوروبا بكل ما فيها في هذه الحقائب". يسخر ميلود من تملكها ولا يعتبرها رابحة فهي من المهاجرين الذين "طردهم" الشرق ومع ذلك ازدادوا تمسكاً به وبتقاليده و"نمط حياته البائسة". لكنه اذ انفصل عن وطنه وشرقه ولم يستطع الانتماء في غربته تحول الى رجل معلق في الهواء في حين احتفظوا بحلم العودة وسعوا الى الربح من اوطان الآخرين. تنازلوا وساوموا وعاشوا في وطنين وثقافتين في آن، اما هو فأدار الظهر من غير ان يجد وجهه. يشكو ميلود الضياع شرقاً وغرباً لكن ما قضيته بالضبط؟ شاكٍ باكٍ هش ينهار منذ الضربة الأولى علماً انه عدائي يبحث عن المعارك التي يعرف مسبقاً انه سيهزم فيها. يتحدث فقط عن النساء والادمان في مدينته الألمانية لكن ما الذي اوصله الى حال تسود فيها المرأة والادمان؟ الخيبة وحدها؟ يا سلام. يتحدث عن كسل الشرق وفوضاه ورتابته ونفاقه وتزمته وشعوذته وخرافاته وتخلفه، لكن ما الذي فعله ليكافح ذلك؟ ترك كل شيء وما كان اقترب من الطلاب الشيوعيين لولا طمعه بعلاقة مع ناديا. هربت هذه من بلادها لتحارب مع الفلسطينيين في لبنان، وموابو عاد الى بلاده بعدما درس في الخارج ليساهم في بنائه لكنه ما لبث ان هرب من الديكتاتورية في بلاده والقارة الافريقية. مع ذلك تابع احوال بلاده يومياً في المهجر ولم يفقد الأمل في بناء وطن حر متقدم. ميلود يسخر من اعتقاده "أن تأسيس الجمهورية الفاضلة ممكن على الأرض وتحديداً على أرض افريقيا" في حين يكتفي شاكياً "بواقعي الرمادي، المر، المفتوح على أفق خال إلا من حبي لروزالي" ص31. وكل هذا الاتكال على المرأة يطفئ القلب، فالحزن يغرس "مخالبه في جسدي" لأن كارلا تنقطع عن الاتصال به اسبوعاً، و"كل الهزائم التي منيت بها في هذه المدينة سوف تمحى حالما تحتضنني روزالي". لكن ميلود في الخمسين من عمره وآن له ان يتكل على نفسه من دون حبيبة - ام تدافع عنه، ولا ذكر للمعارك في "وداعاً روزالي" غير الحرب النفسية بين رفاق الادمان، فمن اين اتت الهزائم الكبيرة إذاً؟