بعد رواية "هلوسات ترشيش" الصادرة في المغرب العام 1996 ورواية "الآخرون" الصادرة في تونس العام 1998 صدرت اخيراً الرواية الثالثة للكاتب التونسي حسونة المصباحي "وداعاً روزلي" عن دار الجمل في مدينة كولونيا الألمانية. "وداعا روزلي" حكاية طافحة بالمرارة والخيبة... خيبة ميلود سعيدان الذي لجأ الى أوروبا معتقداً أنها الخلاص من "ذلك الشرق المتزمت" الذي هجره غير آسف منذ سنوات طويلة "لكنه يفشل في العثور على الاطمئنان وتستمر حياته في قاع من البؤس الإنساني ويبقى متأرجحاً بين الشرق والغرب فيقول واصفاً حالته بمرارة مؤلمة "أنا كائن لا شرقي ولا غربي فررت من الشرق فرفضني الغرب فمكثت معلقاً في الفراغ أنتظر ساعة الخلاص". هذا هو إذاً ميلود سعيدان الذي تبدو حياته من خلال الرواية التي تتشابك فيها الحكايات وتتقاطع وكأنها "جنازة دائمة" كما يقول واصفاً حياة صديقه سعيد مدرس اللغة العربية الذي خانته زوجته فأفنى جسده وروحه في الإدمان والسكائر حتى ينسى. فميلود سعيدان كائن بلا ملامح... فهو من مدينة اكتفى حسونة المصباحي ان يسميها مدينة "قاف" التي ندرك من خلال اوصافها والصورة التي رسمها لها ميلود سعيدان انها القيروان اولى عواصم العرب المسلمين في افريقيا وهو كاتب فاشل بقي طوال حياته يحلم بكتابة اشعار وروايات كان وعد بها صديقته زهرة لكنه يفشل في كل ما منى به نفسه والآخرين "على هاوية الخمسين ولا رصيد لي غير خيباتي وانكساراتي وفشلي" ص 151. يفشل ميلود سعيدان في الدراسة الجامعية... يخوض مغامرة يسارية فاشلة تنتهي به في السجن لأسابيع متتالية... يمنع من السفر... تبقى جراح حبه الخائب لنادية محفورة على جسده وإحساسه بعقدة ذنب بسبب موت والده الفران بسكتة قلبية خوفاً عليه من السياسة وأهلها. بعد كل هذه الفجائع والأوهام يعتقد ميلود سعيدان ان السفر الى أوروبا سينقذه من انكساراته وخيباته. "ذلك الغرب الذي كنت قد اعتقدت في تلك الأيام الكالحة من حياتي التي اعقبت خروجي من السجن انه قد يكون خلاصي. نعم اعتقدت ذلك اتذكر انني كنت أتجول مع زهرة في المدينة العتيقة حين قلت لها: - على أن أرحل! - إلى أين - إلى الغرب! - ولماذا؟ - أعتقد ان وجودي هنا خطأ! - وهل تعتقد ان الغرب يمكن ان يكون المكان المناسب لك؟! - أعتقد ذلك! وتبدأ رحلة ميلود سعيدان في الغرب انطلاقاً من باريس ليصل الى مدينة ميونيخ التي اختارها مقر إقامة ينقذه من كوابيس الشرق وانهياراته. ويكتشف ميلود سعيدان ان الغرب ليس منقذاً بل ان الحياة فيه كابوس لا يقل مرارة ولا ألماً عن الشرق البعيد الغارق في بؤسه الإنساني وجحيمه الأرضي. وفي المدينة التي اختارها مقراً للإقامة - لا اسم لها - يكتشف ميلود سعيدان ان الغرب الذي كان يحلم به انتهى وأن أوروبا الآن قارة عجوز... أوروبا العنف والعنصرية والرؤوس الحليقة... أوروبا الإدمان والشيخوخة والعزلة والكوابيس. فيقول بمرارة: "أنا الغريب الوحيد في هذه المدينة وعندئذ رأيت نفسي شيخاً قبيحاً، محدودب الظهر، محطم الأسنان، يئن من الوجع طوال النهار وطوال الليل بسبب الأمراض الكثيرة التي تنهش جسده ولا أحد يأتي ليواسيه أو يخفف عنه كآبة الوحدة. لا أحد يهتف إليه. لا أحد يرأف به. لا أحد يفكر فيه. لا أحد يكاتبه. لا أحد يعيره اهتماماً. وهو وحيد يتعفن في الشقة الضيقة المعتمة". هكذا إذاً تصور ميلود سعيدان ان الطريقة التي ستنتهي بها حياته في اوروبا استناداً الى اصدقائه في حانتي جوزفين والشاريفاري: جورجيو، ريتا، جانين، توماس، الفريد، كلارا الهولندية، ماكسيمليان، اغيديوس، ماريان، ريتا، حميد المغربي... وفي إحدى الليالي تعتدي عليه مجموعة من الشبان من جماعات الرؤوس الحليقة فيقرر العودة الى الشرق ويختار مدينة روزلي التي قد تصالحه مع الشرق لأنها في النقطة الفاصلة بين الشرق والغرب قريباً من كدوة الأندلس التي قطعها طارق بن زياد قبل مئات السنين انطلاقاً من مدينة "قاف" القيروان. وعلى رغم ان ميلود سعيدان لم يحدد اسم المدينة التي تقيم فيها حبيبته روزلي إلا أن الأوصاف التي جاءت في الرواية تؤكد انها "طنجة" ويكفي ان يكون فيها محمد شكري الذي اكتفى المصباحي بأن يسميه "الكاتب العاري". فهل تنقذه مدينة روزلي من القلق الذي يدمي روحه؟ في مدينة روزلي يهيم على وجهه بين الأنهج والحانات وبيوت الدعارة والنزل الحقيرة بحثاً عن حبيبته روزلي ولكن لا أثر لها وكل الذين سألهم عنها استغربوا سؤاله وأنكروا أية معرفة لهم بامرأة تحمل هذا الاسم. رشيد النادل - الحاج ميمون - زمردة - صوفي... كلهم أنكروا اية معرفة بروزلي مما أغضب ميلود سعيدان بل جعله يعتقد ان هناك مؤامرة تحاك ضده مثل كل المؤامرات التي تحاك في الشرق البائس ضد العشاق. وعلى رغم كل المتاعب التي يواجهها في بحثه غير المجدي عن "روزلي" يصر ميلود سعيدان على وهمه الى أن تضطر السلطات الأمنية الى ترحيله بعد تحذيره من نتائج اي عودة محتملة الى مدينة روزلي. فيرحل مضطراً عن مدينة روزلي ليواجه الضياع الكامل لتكون الرواية بهذه النهاية الفاجعة رواية السقوط واليأس والتيه في مدن الأرض بلا غاية ولا دليل. لينهي ميلود حكايته الحزينة المهذبة بقوله: "فكأني ما عشت وما كنت أبداً". ان رواية: "وداعاً روزلي" هي رواية السقوط والخيبة بامتياز... فميلود سعيدان صورة للمثقف العربي في نهاية القرن العشرين في علاقته بأوروبا التي افتتنت بها اجيال من المثقفين العرب في بداية القرن وقد عبرت الرواية العربية في عدد من الأعمال عن صورة الانبهار هذه في "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم و"أديب" لطه حسين و"الحي اللاتيني" لسهيل ادريس و"موسم الهجرة الى الشمال" للطيب صالح... ولكن الصورة التي يرسمها حسونة المصباحي في آخر اعماله: "وداعاً روزلي" من خلال غربة ميلود سعيدان وضياعه هي صورة اكثر قتامة، صورة تخلصت من اوهام المثقفين العرب وأحلامهم الكاذبة وسقوط كل الآمال التي كانوا ينتظرون تحقيقها من اوروبا نصيرة حقوق الإنسان والحرية. فأوروبا اواخر القرن العشرين هي اوروبا الشيخوخة والعنصرية والأمراض النفسية والشذوذ والإدمان، أوروبا بلا قيم ولا أنوار. في هذه الرواية تحضر القارة الافريقية بحروبها وآلامها ومجاعاتها من خلال شخصية "موابو الكونغولي" الذي يفر الى أوروبا هروباً من قسوة الحياة في دول افريقيا السوداء التي انهكتها الانقلابات العسكرية والمجاعة والصراعات الطائفية والقبلية. كما يبرز في "وداعاً روزلي" ما ترتب عن سقوط جدار برلين الذي كان يفصل بين المانياالشرقية بنظامها الاشتراكي وألمانيا الغربية بتوجهها الليبرالي. فسقوط جدار برلين كان نقطة فاصلة ليس في الحياة الألمانية فقط بل في التحولات العالمية في التسعينات التي كان انهيار المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي سابقاً أبرز علاماتها. تحضر أيضاً في "وداعاً روزلي" حرب الخليج الثانية التي كانت كارثة حقيقية حلت بالحياة العربية وزادتها تدهوراً وانهياراً. "وداعاً روزلي" صورت أيضاً معاناة المهاجرين العرب في أوروبا من خلال شخصيتي حميد التونسي ومصطفى المغربي فكلاهما يجسد معاناة المهاجرين العرب في أوروبا وما يعانونه من عنصرية وغربة بعيداً عن اوطانهم التي غادروها بحثاً عن فرص حياة اجمل. اما المشروع الذي حلم به المثقفون العرب في دول الاستقلال فقد انتهى الى الفشل والخيبة والسقوط وتجربة ميلود سعيدان مع نادية في الانتماء الى تنظيم يساري اكبر النماذج المعبرة عن فشل كل المشاريع الإيديولوجية في العالم العربي. ميلود سعيدان الذي نكتشف اسمه من خلال حكاياته المتشابكة صورة للمثقف العربي الذي حلم بالجنة الإيديولوجية فاكتشف انها سجن كبير وحلم بالغرب الذي سينقذه من بؤس الشرق فاكتشف ان الغرب لا يقل بؤساً عن الشرق فانتهى الى اليأس من كل شيء... فالحياة هي الجحيم الأرضي الذي نحترق فيه بأحلامنا وأوهامنا وكوابيسنا. "وداعاً روزلي" رواية تقطر مرارة ويأساً فهي يوميات شرقي ضائع اسمه ميلود سعيدان فشل في كل شيء، في السياسة والحب والكتابة ولم يجد منقذاً من أوجاعه وأوهامه فهو "كائن لا شرقي ولا غربي"... وتلك هي بعض حكايات المثقفين العرب الهاربين من بؤس الشرق الى أنوار اوروبا الكاذبة. * كاتب تونسي.