اعتدل في رقدته على السرير. حاول ان يفتح عينيه، بيد ان النعاس لا يزال جاثماً فيهما بسلطانه الثقيل، شعاع بسيط من النور يتسرب من شيش النافذة، صوت بائعي الفول والبليلة يطرق وعيه المشوش، رفع ساعة يده ذات العقارب الفوسفورية الى مستوى وجهه ليرى الوقت. حملق بعين لا تكاد ترى. والأخرى لم يستطع ان يفتحها بعد، السادسة إلا دقائق. تناهى الى سمعه صوت خطوات اقدام يرافقها طرطقة النعال متثاقلة وهي تقترب من باب الغرفة. المقبض يدور ليفتح الباب عن زوجته خيرية بشعرها المنكوش، كعادتها عندما تستيقظ لتوها من النوم. - صباح الخير يا عبده. قالت هذه الكلمات وهي تتحسس بيدها في ظلام الغرفة ازرار النور على الجدار. - اهلاً! أضاءت النور، ثم استندت بكتفها إلى حلق الباب، وقالت، وهي تتثاءب واضعة يدها على فمها: - شاي؟ اومأ برأسه ايجاباً، ثم رفع الغطاء عن جسمه، وجلس على حافة السرير بينما انصرفت هي للمطبخ لتعد الشاي. تثاءب، ثم نهض متجهاً الى الحمام، ليضع رأسه تحت الماء الدافئ. ثم اقفل الصنبور ووضع المنشفة على رأسه المبلل لينشف شعره، ثم رماها على كتفه. خرج من الحمام واتجه لباب الشقة ليفتحه، ويتناول الجرائد التي كان البواب تركها عالقة في مقبض الباب. اغلق الباب، وعرج على غرفة الأطفال. فتح الباب برفق، وضغط زر النور، ونظر الى الفتى الصغير الراقد على سريره الطفولي الصغير، فرآه يحكم اغلاق عينيه ليتفادى النور. وضع يده برفق على جبينه الملتهب. فقرر ألا يوقظه، واستدار، وأغلق زر النور في الطريق وكذلك الباب. واتجه الى الحمام ماراً على المطبخ ليجد المرأة خارجة بفنجان الشاي. فتناوله منها ثم اشار بذقنه لغرفة الطفل وقال بعد ان ارتشف رشفة من الفنجان: - الولد سخن... لن يذهب للمدرسة اليوم. ثم اخذ الجرائز من على خوان في طريقه واتجه للحمام. ابتدأ كديدنه بصفحة الرياضة، يبحث عن موعد مباراة المنتخب اليوم مع تونس. ثم بدأ يتصفح الصحيفة من اولها، قافزاً بين العناوين، حتى اذا وجد ما يشد انتباهه توقف ليقرأه. التحقيقات لا تزال مستمرة في مأساة قطار الصعيد، تداعيات حادث قطار الصعيد لن تنتهي قريباً، ثمة رؤوس سيتم التضحية بها ليعيش الباقون، فرص عمل جديدة لألف خريج، كذب، ولا الهواء. رسالة الى الرئيس من بوش، عسى الدافع خيراً. ارتفاع اليورو في مقابل الدولار، هه! حلوة، العقبى للموكوس!. وضع الصحيفة على حجره ومد يده ليحتسي رشفة من الشاي. صرف تعويضات لأهالي الضحايا، والله عال! يشترون الأرواح بملاليم. الزمالك الى نهائي الكأس، بلا قرف، خليهم يأخذوا البطولة. حادث اغتيال ديانا، هه! العبد لله اول من فطن الى انه حادث، والله يا عبدالسلام لماح! اكتشاف الجين المسؤول عن...، كلام فارغ، هي ناقصة امراض!. القمة العربية المقبلة تعقد.... اغاظه العنوان، فوضع الصحيفة على فخذيه، وجز على اسنانه ونفرت عروق عنقه. ورفع الجريدة مجدداً ثم قلب الصفحة. نظر الى العناوين سريعاً، لم يستوقفه ما يستحق القراءة في نظره. وقلب صفحة اخرى، والثالثه، وهكذا اخذ يقلب الصفحات حتى وصل الى صفحة الأدب. عندما وقعت عيناه على قصيدة لفتت نظره جزالة البيت الأول منها، فقرر ان يكملها. رفع نظره الى العنوان فوجده الحلم، تتحدث عن المجد الزائل، وعن قصة وامعتصماه، ويوم دخول القدس، والوحدة وما إلى ذلك. التهمها بعينه وفكره. ذلك النوع من القصائد الذي يجبرك على ان تقشعر. وهو على رغم بساطته وضآلة طموحه عربي، مسلم، يحب امته ودينه ويغار عليهما. لما انتهى منها لم يمنع دمعة طفرت من دون ارادته من عينه. فهو يعلم ان الحلم بعيد المنال، ويعلم انه وكثيرين مقصرون تجاه فلسطين. أطرق ينظر ساهماً، الى ارضية الحمام، سرح قليلاً. جيشان عاطفي. اضطرمت النار في كيانه. لم يعد يتحمل مزيداً من القهر. يشعر ان روحه وحدها كفيلة بحل المشكلة. غاص بكينونته كلها في الفكرة التي ملأت جنبات روحه. اندمج فيها اندماجاً كلياً حتى لم يعد يشعر بالوجود حوله. نظر الى ساعته، ورفع عقيرته صائحاً من مكانه: - اكو لي القميص يا خيرية، القميص الأسود... القاهرة - احمد مجدي همام طالب بكلية التربية، قسم اللغة العربية