دفع الباب بيديه، جلس أمامه على المقعد الرئيس الشاغر ليحدق في المرآة. التفت إلى محدثه، رمقه بنظرة ذات دلالة قائلاً: «شعري بس». قال الأخير: حمداً لله على السلامة يا سيد ونيس. كدت أشك في حضورك المعتاد. (كلما قصصت شعرك وتقدم بك العمر تطابقت ملامحك مع وجه أبيك. روحه تسري في كيانك تشكل حواسك. تخرج روحك لتطوف وتسعى). خرج موصداً من خلفه الأبواب. قابله وهو يتخطى الطوار. قال: نعيماً يا سيد ونيس. قال: أهلاً. لم يلتفت، وضع الرجل ذراعه على كتفه الأيمن، وقال: «حضر إليك مستر جورج وأخبرني بأن رحلة الشتاء المقبلة قد تتأخر عن موعدها، فالسفينة غيرت مسارها ومن الممكن أن ترسو في ميناء آخر». ألقى الرجل عبارته وتأمل وجهه بملامحه التي تتغير دوماً مع مطلع كل شهر عربي. - اذا أتاك فأخبره أنني بانتظاره. - وهل ستعود يا سيد ونيس؟ عبر الميدان قاصداً منزله. أغنية قديمة تصل إلى سمعه: «يلي بكايا شجاك». اندفع مهرولاً ليصعد درجات السلّم، هتفتُ به وهو متوجه إلى شقته من دون اكتراث: يا أستاذ ونيس. التفت يساراً مصوباً عينيه إلى بئر السلم. كانت العجوز تقف مستندة إلى ضلفة الباب. - موعد أربعين والدك بعد غد، فماذا أعددت؟ تلاشت نظراته مع بصيص النور الآتي من طاقة الجدار المطل على المنور. - شكراً يا ست. ربنا يرحم الأحياء والأموات. استدار. ركل الباب بقدميه. سمع رنين الهاتف. رفع السماعة. وضعها على المنضدة، ثمة من يتحدث بتعجل. شعر بإعياء شديد. توجه إلى دورة المياه ليقضي حاجته. كادت رأسه أن تصطدم بضلفة الباب الأرابيسك المعشق الفاصل بين الصالة وممر غرفته المعتم. أغلق شرفة الحمام المطلة على مطبخ الشقة المجاورة. استدار. انحنى برأسه، العرق يتصبب من بين فخذيه، قطراته تصل إلى جواربه. تأمل ساقيه الضامرتين وركبتيه الممصوصتين. رفع بنطاله، نظر في المرآة. أطال النظر، رفع سبابته اليمنى، طاف على خصلات لحيته الكثة. العيون غائرة. بقع صابون جافة منثورة على صفحة المرآة. دار بأنامله متأملاً شعر رأسه. خصلات بيضاء كثيفة تتوسط الفروة. تتمدد خلف أذنيه. تخط شاربه. تدنو من شفته العليا المصبوغة بلون قرمزي. خرج متوجهاً إلى الصالة. نظر إلى الصورة المعلقة على الحائط. يتوسطها شريط حريري أسود. كتب أسفلها بخط ذهبي بارز: «المغفور له – محمد عبد الإله عابد – 1952». حدق ملياً واغرورقت عيناه بالدموع. جثا. اقترب حتى أصبح على بعد خطوتين من الصورة. «إني أراني وقد خط الشيب رأسي. أراك وقد رحلت بعدما بلغت من الكبر عتياً». تمدد، فاستيقظ على أثر الصوت المنبثق من سماعة الهاتف الموضوعة على المنضدة. (سأنتظرك في العاشرة في مقهى «الفنار» قرب البحر). الساعة تقترب من السابعة. أطل من الشرفة. الفنار القديم يبدأ رحلته اليومية في استطلاع البحر، استدار ليعود إلى مقعده. مد أصابعه. فتح التلفاز، كان المؤذن قد شرع في رفع أذان المغرب، صوته يأتيه من زمن سحيق صافياً نقياً، يسري في كيانه. خشع فتوضأ فسجد. لاحقاً اقترب من دولاب ملابسه أخرج جواز سفره. قلّب في بعض الأوراق، تذكرة سفر قديمة. صورة لسفينة ترسو ليلاً في ميناء مجهول، صورة أمه التي ودعها قبل شهور على محطة القطار المتجه إلى الجنوب. أخرى لرجل يعرفه. يأتيه ليلاً. يطوف به فتصعد روحه، تحلق في السموات السبع، تناجي الفقراء واليتامى، ثم تهبط لتسكن في جُب عميق. أفاق على شعاع ضوء الفنار وقد اخترق الشرفة بعدما حل الظلام. ارتدى ملابسه وهبط درجات السلّم، سار في ممر معتم أفضى به إلى طوار طويل قريب من البحر. عبر الساتر الرملي. ترجل تحت الأعمدة ليراقب شعاع الفنار وهو يطوف في شكل بانورامي كاشفاً السفن والبحر... تذكر العبارة: «العاشرة في مقهى الفنار قرب البحر». الموعد نفسه، يوم سفر أبيه الأخير، ذهبت سفينته. ها هو يسير فوق رمال صفراء. ينظر في ساعته. التاسعة ويزيد. ردد المؤذن: «الله أكبر... الله أكبر. لا إله إلا الله...». النداء نفسه بالصوت ذاته يناجيه من زمن آخر. انبثقت الدموع من عينيه: «إني أراكم في ظلام دافئ، تشاركونني طعام الفطور في رمضان. تتجمعون حول طبلية من نحاس. تتبادلون اللقيمات. تطعمونني. أناديك. تبتسمين وحبات العرق منثورة على صفحة وجهك الملائكي. ظمآن. اسقيني يا أمي. وتنصرفون بغتة من دون وداع». اتجه ناحية المقهى. ألقى السلام بصوت منخفض. اقترب منه النادل - عمت مساء يا سيد ونيس. (أبلغني مستر جورج من خلال الهاتف بأنه قد أعد لك مقعداً فاخراً في غرفة متوسطة على المركب اليوناني «فيكتوريا»، وأن ركاب الرحلة سيكتملون بعد سبعة أيام، وستبحر السفينة من ميناء الإسكندرية منتصف الليل كالعادة). - يا سيد ونيس، أيوجد مكان لأسافر معك؟ قال: ألم يأتك بجديد عن موعدنا في العاشرة؟ اذا حضر أبلغه بأنني صرفت النظر. وسأسافر على مركب آخر بمفردي. - وهل ستعود يا سيد ونيس؟ - سأذهب للقاء كفيل آخر. وسأعود بعد ساعتين. ترجل في الظلام حتى اقترب من ماء البحر. الفنار العتيق يرسل منشوره الضوئي وسط الماء. موج يصعد أبيض. نظر في الفراغ. رجال حرس الحدود بزيهم الكاكي يجوبون الشاطئ. يتبادلون مواقع الحراسة. يقتربون من الشاطئ ليعودوا مرة أخرى. ينظر إلى السفن المتراصة. ثمة بوارج صغيرة. زوارق مطاطية تطوف حول سفن عتيقة. لا يزال يترجل. هاله الضوء والصخب الآتي من المبنى الخرساني الضخم المطل على بوغاز الميناء. اقترب محدقاً: «نادي الصيد». رائحة العطور تخترق أنفه. نساء يجلسن أسفل خيام وردية تحجب الندى الليلي. يضحكن بسخرية/ ملابسهن المزركشة تتلألأ تحت الأضواء الناعمة، خدر يسري في جسده، أعاد الكرة قاصداً مقهى «الفنار». المقاعد شبه خالية إلا من رجلين مرتجفين يحتسيان الشاي في ركن مظلم يسار المقهى. سار أمام المقاعد. أطل على الشارع الطويل المؤدي إلى منزله، رجل كهل يسير متباطئاً. يحمل حقيبة بالية يضعها على كتفه الأيمن. في يده سيجار مشتعل. يقربه من فيه. ينفث الدخان في الهواء. ها هو يقترب منه حتى أصبح في مواجهته. هاله بريق عينيه. قدماه يضربهما في الرمل والهواء. ونيس يتوارى مستنداً الى حائط المقهى الخشبي، يتأمل العجوز وهو يتقافز بحقيبته مخترقاً الظلام، قاصداً الشاطئ، متأبطاً ذراع رجل آخر، سار معه لخطوات، ثم تركه وحيداً ليجثو على الرمال القريبة من الماء. أنزل الحقيبة. خلع حذاءه. تمدد على ظهره مطلاً على صفحة الماء. النادل يترك صحن المقهى. يخرج مهرولاً. يصرخ. يستغيث وهو يبحث عن ونيس. صرخة أخيرة في الظلام وفضاء البحر. الرجلان منكفآن. مذياع يبث الأغنية القديمة نفسها. ونيس يقترب من الشاطئ يبحث عن العجوز الممدد. ينظر إلى السفن وقد بدأت في الرحيل. يتجرد من ملابسه. يقذفها في الهواء. يجري عارياً في اتجاه البحر وشعاع الفنار. صفحة السماء مفتوحة لمطر يهطل بغزارة.