اليوم واليوم فقط تنبه إلى أنه لم يعد يليق به هذا، كان لكلمات أستاذه الجليل الشيخ أحمد دور كبير في تنبيهه، استوقفه وهو يسير في الشارع مع مجموعة من المراهقين، جذبه بلطف من بينهم، انفرد به في ركن بعيد وقال له بلهجة الأب الناصح: «لا يليق بك هذا، أنت لم تعد شاباً صغيراً حتى نلتمس لك الأعذار، انظر إلى نفسك في المرآة، هل يليق برجل في مثل سنك أن يطلق شعره هكذا ويسدله على كتفيه كالفتاة، ويسير وسط الشارع مع صبية في سن أولاده؟ إذا كنت يئست من حالك فلا تفسد علينا شباب القرية». كم مرة سمع مثل هذا الكلام؟ وكم مرة أعرض عنه وكأنه لا يعنيه؟ ولكنه اليوم، واليوم فقط أحس للكلمات وقعاً مختلفاً، شعر بها نصالاً حادة تنغرس في القلب مباشرة، انسل من بين رفاقه بهدوء، وعاد إلى غرفته منهكاً وجريحاً. لم يكن يدري ماذا يفعل على وجه التحديد، كان يريد أن يبكي، وكان يريد أن ينظر إلى وجهه ملياً في المرآة، وكان يريد أن يستلقي على فراشه لينام، فالنوم ملاذه الوحيد كلما شعر بأنه عاجز حتى عن التفكير، وكان يريد أن ينتزع الحراب الحادة المغروسة في قلبه، وكان يريد.. لم يعد يدري ماذا يريد؟ وقف طويلاً أمام باب غرفته، وللمرة الأولى يدرك أنها تشبهه، هي تقف على هامش المنزل، في الركن الغربي من الفناء تطل على الشارع مباشرة منفصلة عن بقية غرف المنزل، وهو يقف على هامش الحياة! ضحك في سرّه لهذه الفكرة، وأدار مفتاح الغرفة ودخل. استلقى على فراشه ببرود غريب، مدّ يده إلى الصحيفة الملقاة بجواره، وضعها على صدره، شعر أنه عاجز حتى عن فتح الصحيفة، فكرّ في إعادتها إلى مكانها على أرضية الغرفة لكنه لم يقدر، قال في نفسه: ما الفرق؟ هنا وهناك شيء واحد. بقي ممداً على فراشه وقتاً طويلاً لا يعرف مدته بالضبط، لكنه يتذكر أنه دخل إلى غرفته والشمس تمد شعاعاً كسولاً من النافذة الغربية، والآن يطبق الظلام على غرفته، وعلى كل شيء حوله، وهو لا يستطيع أن يمد يده إلى زر اللمبة القريب منه، تمنى لو أن أحداً يجيء الآن ليطلب منه أن يضيء اللمبة ويمضي، سمع خطوات تقترب من حجرته، سمع طرقات تتوالى برفق على النافذة الشرقية المطلة على فناء منزلهم، همزة الوصل بينه وبين أهله، فعبرها يصل إليه الطعام والشاي والقهوة، وإذا أراد الوصول إلى أهله فعليه أن يأخذ دورة كاملة على السور ليدخل من بابه الرئيس، سمع صوت أمه وهي تنادي: «ناصر.. ناصر.. المغرب سرى يا ولدي»، فتح فمه ليجيب فلم يجد صوته، تمنى لو كانت النافذة باباً، لتدخل إليه أمه، وتضيء الحجرة وتأخذ بيديه لتنهضه، لكن النافذة لم تكن أبداً باباً، وأمه لم تدخل، وها إنها تمضي وهو يسمع وقع خطواتها المبتعدة، ودعاءها المتصل له بالهداية، ويسمع.. لم يعد يسمع سوى كلمات أستاذه: «لا يليق بك هذا، أنت لم تعد شاباً صغيراً..»، تمنى لو تأتي إليه المرآة لينظر إلى نفسه، هل شاخ فعلاً؟ وتمنى أن يثب من مكانه دفعة واحدة لينفي عن نفسه التهمة، وتمنى أنه لم يخرج هذه الليلة، ولم يقابل أستاذه، ولم يسمع منه هذه الكلمات المسنونة. مدّ يده بتثاقل إلى زر اللمبة البعيد عنه بمقدار ذراع، ضغطه إلى أسفل، أضاءت اللمبة وانطفأت، ثم أضاءت وانطفأت، ثم أضاءت دفعة واحدة غامرة الغرفة بضوء أبيض فضح كل سوءاتها، استوى جالساً في فراشه، الفراش الوحيد في الغرفة، نظر حوله فهالته الفوضى التي تحيط به، زولية كانت زرقاء قبل أن تلطخها بقع الشاي والعصير المتناثرة في كل أرجائها، خمس علب بيبسي مملوءة بأعقاب السجائر تغمر الغرفة برائحتها العطنة، ثلاث وسائد شاهت ألبستها، أكوام من الصحف والمجلات في كل الزوايا، كوب شاي مملوء إلى منتصفه بشاي أسود كالقطران، تطفو فوقه بضع سجائر، ينتظر من يلكزه ليضيف بقعة جديدة إلى الزولية التي كانت زرقاء، جدران انقشع طلاؤها في أماكن عدة، حول جهاز التكييف، وحول النافذتين، وفي الجدار الملاصق للحمام الملحق بالغرفة طاولة عتيقة تحت جهاز التكييف بمتر ونصف تقريباً، يقبع فوقها تلفزيون «سوني» 20 بوصة تكسوه الأتربة، وفي الدرج الأسفل للطاولة جهاز فيديو «بانوسينك»، وأشرطة متناثرة كلها ممنوعة، وحشة وكآبة تملآن الغرفة، لم يرها بمثل هذا الوضوح الذي يراه الآن. ماذا يفعل ليبدّد هذه الوحشة؟ لينسى كلمات أستاذه؟ «هل يليق برجل في مثل سنك».. ترن الجمل في أذنه كالصواعق، كم ِسنّه الآن؟ أخرج بطاقته من جيبه، قرأ تاريخ الميلاد 1376ه، بحسبة سريعة أدرك أنه في عامه ال43، هزته هذه الحقيقة، يا الله! 43 عاماً! كيف جرت بهذا السرعة؟ وهو لا يزال يشعر أنه في عقده الثاني، كل شيء يدل على أنه في عقده الثاني، تصرفاته وأصدقاؤه وحياته، آه حياته! هل هذه حياة؟ لم يسأل نفسه هذا السؤال من قبل! كل شيء ينهض الآن رقدته، تكر السنين راجعة. طفولته التي امتدت 15 عاماً، صباه، آه صباه! هو الآن لا يزال يشعر أنه في صباه، فلماذا يريدون أن يسرقوا منه عمره؟ ولكنه في ال43! البطاقة والزمن، وكلمات أستاذه، كّلها تؤكد ذلك، لكنه أبداً لم يشعر أنه فارق صباه، الذين فارقوا صباهم شبوا وكبروا، وتزوجوا وأنجبوا. وهو الوحيد الذي لم يفعل، هجره أصدقاؤه الصغار الذين كبروا وتزوجوا، فصاحب غيرهم في سنهم، وكلما كبروا صاحب غيرهم، فلماذا كان يفعل ذلك؟ لماذا كان يقف في المكان نفسه، بينما كل من حوله وما حوله يتغير؟ الآن يدرك أن شيئاً ما كان ينقصه، شيء لا يستطيع أن يبوح به لأي أحد! فلماذا يريدون منه الآن أن ينهزم بعد 43 عاماً من الصبر والمراوغة والمكابرة والادعاء. يتذكر الآن دموع أمه بعد تخرجه من الجامعة بأربعة أعوام! يتذكر محاولاتها الدؤوبة لتزويجه! يتذكر محاولات أبيه، محاولات إخوانه وأخواته، محاولات القرية كلها، ويتذكر رفضه وادعاءه بأنه لا يريد أن يرتبط وأنه يريد أن يعيش حراً، ويتذكر كم ليلة بات يبكي وحده من دون أن يشعر به أحد، كان يتمنى أن يكون مثل إخوته، لكنه لم يكن مثلهم لم يكن شيء يتحرك في داخله، لم يشعر في أي يوم أنه جاوز سن الصبا، هل يحسدونه لأنه لم يجاوز صباه؟ هل يحسدونه لأن الصبية الصغار ينجذبون إليه ويصاحبونه؟ ضحك في سره على هذه الحيلة، الآن يدرك في قرارة نفسه أكثر من أي وقت مضى أنها مجرد حيلة متبادلة! هو يجذب الصبية إليه بنكاته ولباسه المراهق وأفلامه الممنوعة، وهم ينجذبون إليه طمعاً في سهرات مجانية وأفلام ونكات وضحك، وفي النهاية يحظى بتهمة «البزرنجي» التي تنفخه كالديك وتصرف عنه أية تهمة أخرى. طوال عمره وهو يحاول أن يصرف عن نفسه التهمة الأخرى، فلماذا يغضب الآن؟ لماذا ينهار أمام كلمات أستاذه وقد سمع مثلها آلاف المرات؟ لماذا يشعر بكل هذا العجز والخذلان؟ هل فعلاً شاخ إلى هذا الحد؟ تلفت حوله، شعر بوهن غريب يطبق عليه، حاول أن ينتزع نفسه من فراشه فلم يقدر، تمنى لو تأتي إليه المرآة، لكنها أبداً لن تأتي، «لا بد من فعل شيء»، قال لنفسه بصوت مسموع، ثم نهض دفعة واحدة وسار بخطى مدروسة، محاذراً الاصطدام بالأشياء المتناثرة حوله، دفع باب الحمام واستوى واقفاً أمام المرآة، نظر ملياً إلى صورته المرسومة أمامه، للمرة الأولى يرى نفسه بهذا الوضوح، وللمرة الأولى يرى ملامحه الحقيقية التي لم يكن يراها، كان يقف أمام المرآة يسرح شعره الطويل إلى الوراء، ويغمز بعينه اليمنى ويبتسم لنفسه ويمضي، الآن يقف مدهوشاً أمام صورته، تصعقه التجاعيد المحفورة في زاويتي عينيه، ويغرقه في الحيرة بحر السواد المستقر تحتهما، كيف ومتى تكوّن هذا السواد؟ هل هو النوم الكثير؟ أم السهر الطويل؟ أم أنها النظارة؟ لا بد أنها هي، سيتخلص منها هذه اللعينة، مرر يده على الأخدودين الغائرين في صفحتي خديه وتمنى لو يرفع يده ولا يرى لهما أثراً، لكن أمنيته تبخرت أدراج الرياح حين نظر إلى جبهته فرأى أربعة حبال فوق بعضها على امتداد جبهته، حبال طويلة وغائرة كيف لها أن تمّحي؟ نقل يده إلى شعره، شعره الذي يعتز به، فهاله الفراغ الهائل في مقدمة رأسه، لكنه استراح قليلاً ويده تسير منسابة مع شعره الناعم المتبقي المنسدل إلى الكتفين، هذا الشعر المنسدل الذي أزعج أستاذه وأزعج كل الناس، «لماذا يريدون مني أن أقصه وهو الشيء الوحيد الذي بقي لي»؟ تذكر كلمات أبيه التي قالها له العام الماضي: «لكل سن زينتها! في سنك هذا لم يعد يليق بك الشعر الطويل، تكون أجمل حين ترتدي الغترة والعقال»، لكنه لا يحب الغترة والعقال، لا يحب أن يسجن رأسه، ولا يحب أن يخفي شعره الناعم الذي كان ولا يزال مصدر فخره واعتزازه، هو الوحيد من بين إخوته جاء شعره حريرياً ناعماً كشعر أمه، أما بقية إخوانه وأخواته فكان شعرهم مجعداً كشعر أبيه، وعلى امتداد سني عمره كان شعره مصدر غيرة إخوانه، وهو طفل كانوا يغافلون أمهم ويقصون شعره وهو يبكي، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً سوى أن يهرع إلى حضن أمه يبث إليها شكاته، فتمسح رأسه بيديها، وتقول له: «غداً يكبر شعرك وتكيدهم» فيبكي.. يبكي حتى ينام منتظراً هذا الغد. وحينما كبر وأصبح قادراً على الدفاع عن نفسه والاحتفاظ بشعره الناعم الطويل، عمد إخوانه إلى تعييره ب«الفتاة»، وتحريض أبيهم عليه، ليبادر بتوبيخه وأخذه عنوة إلى الحلاق، والليلة يعيده أستاذه إلى قضيته الأزلية: «هل يليق برجل في مثل سنك أن يطلق شعره هكذا ويسدله على كتفيه كالفتاة»، نعم يليق يا أستاذ أنت لا تدري! لا أحد يدري! هذا فقط ما تبقى لي! شعر بتنمل في أطرافه، أدرك أنه وقف طويلاً أمام المرآة، فكّر في العودة إلى فراشه، لكنه لمح مقصاً على حوض المغسلة أمامه، تناوله بسرعة قبل أن تتبخر الفكرة، انتشله من مكانه، غرس سبابته وإبهامه في دائرتي المقص، وساقه إلى شعره الطويل الناعم والمنسدل على كتفيه، جزّه دفعة واحدة، فسقط خلفه متناثراً على أرضية الحمام، نظر إلى نفسه في المرآة فبدا كديك بلا عرف. * أكاديمي وقاص سعودي.