نجحت أخيراً الجهود المبذولة بين وزارة العدل اللبنانية ومركز الأممالمتحدة لمكافحة الجريمة في تفعيل مصلحة الأحداث المنحرفين الملحوظة في المرسوم الاشتراعي الرقم 151 تاريخ 16/9/1983 لتنظيم وزارة العدل. وتم استحداث ملف قضائي خاص بمحاكم الأحداث، وتنظيم المعلوماتية المركزية لدى مصلحة الأحداث، وإنشاء خلية اختصاصيين متطوعين لحضور التحقيق الأولي مع الحدث، وجرى تنظيم دورات تدريبية عن عدالة الأحداث شملت القضاة والعاملين الاجتماعيين وقوى الأمن الداخلي. على ان مشروع تعديل المرسوم الاشتراعي 119/83 الخاص بالأحداث الذي أقرّه مجلس الوزراء في ايلول سبتمبر 1999 وأقرته اخيراً لجنة الإدارة والعدل بانتظار إقراره في المجلس النيابي قانوناً جديداً لحماية الأحداث المنحرفين يبقى إنجازاً ينتظره كل المعنيين بحقوق الطفل والأحداث. ويتميز هذا المشروع باستحداث تدابير تربوية وتأهيلية بديلة للعقوبات الملحوظة في المرسوم الاشتراعي 119/83 اضافة الى تدبيرين اصبح مضمونهما قديماً من منظار العلوم العقابية الحديثة، لتصبح العقوبة استثنائية لا يمكن اللجوء إليها إلا في حالات محددة. ويتميز ايضاً بإيجاد نظام حماية متكامل للأحداث المعرضين لخطر الانحراف. ويستفيد الحدث المخالف للقانون من معاملة منصفة وإنسانية خلال اجراءات الملاحقة القانونية والتحقيق معه ومحاكمته تعتمد أصلاً على تدابير غير مانعة للحرية، ولا تعتمد التدابير المانعة للحرية إلا في احتمالات اخيرة واستثنائية ولا يتم حجز الحدث عند الاقتضاء مع الراشدين. اما التدابير غير المانعة للحرية فهي اللوم والوضع قيد الاختبار والحماية والحرية المراقبة والعمل للمنفعة العامة أو العمل تعويضاً للضحية. ونظم مشروع القانون وسائل اطلاع قاضي الأحداث على حال الحدث المعرض للخطر إذ يكون تدخله جائزاً بالاستناد الى اخبار أو شكوى أحد الوالدين أو الأولياء أو المسؤولين عنه او المندوب الاجتماعي أو النيابة العامة، كما لحظ إمكان تدخل القاضي تلقائياً في الحالات التي تستدعي العجلة، وأعطي الحدث الحق بتقديم شكوى يعرض فيها الظروف التي تجعله معرضاً للخطر. وهنا قراءة في واقع الاحداث اللبنانيين وراء القضبان: من قال ان السجن للرجال فقط؟ بل للأطفال أيضاً، وفي سجن رومية الذي يعتبر السجن المركزي في لبنان ثمة طفل لا يتجاوز عمره 12 عاماً موقوف بتهمة سرقة زعتر أخضر من إحدى بسطات الخضار وآخر بتهمة سرقة حذاء من أمام مسجد. مصلحة الأحداث في وزارة العدل لاحظت في دراسة احصائية لها عن واقع الأحداث المخالفين للقوانين الجزائية أو المعتدى عليهم، ان نسبة مرتكبي الجرم من الأحداث الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و14 عاماً ارتفعت الى 4،18 في المئة العام الماضي، ما اعتبرته ظاهرة خطرة تستدعي التوقف عندها لا سيما في مجال الوقاية من الانحراف. ويبقى جرم السرقة الأكثر رواجاً على الأراضي اللبنانية من جانب قاصرين، إن في الجنح أو في الجنايات، على أن استقرار الأرقام على 75 في المئة بالنسبة الى الجنح و25 في المئة بالنسبة الى الجنايات لا يزال ظرفياً وغير جنائي. ومع اقتراب كل عام من منتصفه تضيق المخافر والسجن المركزي في رومية وسجون المناطق بعشرات الموقوفين من الأحداث. فكثيرة هي مغريات الانحراف بعد انقضاء فصل الشتاء واغلاق المدارس، وكثرة الملاهي والمراقص التي تستقبل قاصرين حتى الفجر الى جانب التفكك العائلي الذي يفتك بعائلات دمرها الفقر أو الاهمال، لكن ثمة حاجة الى التمييز بين الولد المنحرف ومن هو في دائرة خطر الانحراف والولد الضحية، والأخير لا يصل الى المحاكم دائماً ولا امكان لمحاكمة المعتدي عليه. سجن رومية في سجن رومية حالياً نحو 170 موقوفاً ومحكوماً في جناح الأحداث، والرقم قابل للارتفاع في شهر آب اغسطس بسبب العطلة القضائية. وكانت احصاءات وزارة العدل سجلت 2359 حدثاً على خلاف مع القانون في العام الماضي، 5،95 في المئة منهم من الذكور حيال 5،4 في المئة من الاناث. وبين هؤلاء جميعاً خمسة أطفال لم تتجاوز اعمارهم السنوات السبع فيما بلغت نسبة الذين بين الثامنة والحادية عشرة 49 حدثاً، وبين 12 و14 عاماً 434 حدثاً، وبين 15 و18 عاماً 1609 أحداث، ليخفض العدد الى 66 حدثاً للذين تتراوح أعمارهم بين 19 و21 عاماً. وأكثرية هؤلاء الأحداث المنحرفين من اللبنانيين 64 في المئة في حين شكل السوريون ما نسبته 16 في المئة والفلسطينيون 6،9 في المئة. أما من هم من جنسيات أخرى مختلفة فبلغت نسبتهم 6،4 في المئة. وتبين الملفات القضائية ان 5،66 في المئة من الأحداث الموقوفين أو المحكومين في العام الماضي هم من المتعلمين، في حين ان 2،18 في المئة منهم أميون، ما يشير الى ظاهرة اخرى هي التسرب المدرسي في المرحلة الابتدائية، ذلك ان 51 في المئة من هؤلاء الأحداث من العاملين، في حين أن 9،16 في المئة منهم طلاب، أما "العاطلون" من العمل فيشكلون نسبة 5،7 في المئة، ما يعني أن ارتكاب الجرم في معظم الاحيان يحصل لدى الأطفال الذين تركوا المدرسة وانخرطوا في سوق العمل وتراجعت سلطة الأب والأم عليهم، علماً أن الطفل الذي يعمل يتقاضى اجره عن كل يوم عمل. الجنح والجناية واذا كانت أكثرية الجرائم التي ارتكبها هؤلاء الأحداث تقع تحت خانة الجنح 74 في المئة في حين ان 7،24 في المئة منها تقع تحت خانة الجناية، فإن بعض الجرائم المرتكبة تعتبر هفوات، كما يقول مسؤول أمني يعمل مع الاحداث، وتودي بصاحبها الى السجن فيما ينجو آخرون، ومن هذه الهفوات مثلاً شراء المسروق، على ان سرقة دراجة نارية تعتبر في حكم القانون اللبناني جناية وليست جنحة وعقوبتها السجن لمدة تتراوح بين 6 أشهر و3 سنوات. وتظهر ملفات الأحداث ان 54 في المئة من الانحراف في لبنان فردي و14 في المئة من الجرائم ارتكبتها مجموعة احداث و27 في المئة برفقة كبار على أن هذه النسبة ترتفع الى 42 في المئة في محافظة جبل لبنان وحدها. وشكل جرم السرقة في العام الماضي 3،40 في المئة من نسبة الجرائم المرتكبة من الأحداث، في حين بلغت نسبة ايذاء اشخاص 9 في المئة و6،8 في المئة نسبة التعدي على ممتلكات، وواحد في المئة فقط نسبة مرتكبي جريمة القتل، وهنا نتحدث عن "جرائم الشرف"، ذلك ان الكبار يفضلون ان يرتكب القاصرون هذه الجريمة على اعتبار ان عقوبتها مخففة بالنسبة الى القاصر، غير ان الدولة اللبنانية عدلت اخيراً هذه العقوبة فساوت بين الراشد والقاصر في محاولة لمنع المحرضين على الجريمة من ظلم قاصر بدفعه الى ارتكابها. اما الدخول خلسة الى الأراضي اللبنانية وأكثر مرتكبي هذا الجرم من العراقيين وتتراوح اعمارهم بين 16 و17 عاماً فبلغت نسبة الموقوفين والمحكومين بسببها 7،6 في المئة، لترتفع الى 2،14 في المئة بالنسبة الى مرتكبي مخالفات، وتخفض الى 5،1 في المئة بالنسبة الى مرتكبي جرم التعامل مع العدو، ذلك ان اهالي الشريط الحدودي المحتل سابقاً كان أولادهم الذكور عرضة للتجنيد الاجباري من جانب جيش لبنان الجنوبي الموالي لاسرائيل. اعمال منافية للحشمة ومن الجرائم المرتكبة من جانب الأحداث: أعمال منافية للحشمة اللواط وتبلغ نسبتها العام الماضي 7،2 في المئة، وحيازة اسلحة 8،3 في المئة اكثر الحالات في منطقة البقاع واعمال شغب 2،7 في المئة لتتدنى النسبة الى 08،0 في المئة لمرتكبي جرمي المخدرات والدعارة، أما التسول فبلغت نسبة مرتكبيها 6،1 في المئة. ومن مفارقات قانون العقوبات في لبنان ان ضبط شخص يقوم بعملية خلع وكسر بقصد السرقة فإن جرمه يعتبر سرقة موصوفة حتى ولو لم يكن في المكان الذي قصده سوى ألف ليرة أقل من دولار واحد ويصنّف الجرم كجناية، في حين ان اقدام شخص على سرقة محفظة احدهم من دون استخدام السلاح فان جرمه يعتبر جنحة حتى لو كان في المحفظة أكثر من ألفي دولار على سبيل المثال، على أن عقوبة الجنحة تصل في اقصاها الى ستة أشهر في حين ان عقوبة الجناية تتراوح بين ستة أشهر وثلاث سنوات. يحرص المولجون متابعة قضايا الاحداث على الحؤول دون وصول الحدث الموقوف الى السجن، ذلك ان توقيفه أسبوعاً او اسبوعين كفيل بضياعه، فلا امكان لتأهيله ضمن هذه الفترة الزمنية القصيرة، وجل ما ستسفر عنه تجربة السجن تعرف الطفل الى اشخاص كان من الممكن الاستغناء عن معرفته بهم. على ان الموقوفين في حالات كثيرة يمضون فترات طويلة قبل أن تجرى محاكمتهم وقد يخرجون باكتفاء مدة لأنهم أمضوا فترات في السجن تفوق فترة عقوبتهم المستحقة. وفي المحاكم اللبنانية العشرات من الملفات القضائية القديمة التي اذا ما تحركت بعد زمن فإنها قد تودي الى مآزق لا تخطر على بال، وكان مطار بيروت شهد قبل فترة توقيف مهندس لبناني كان عائداً الى بلده بعدما استقر في كندا حيث تابع تعليمه وتزوج وشارف على سن الثلاثين وذلك بتهمة جرم ارتكبه حين كان قاصراً فتم سجنه ستة أشهر. تقول احدى المرشدات الاجتماعيات اللواتي يعملن مع الأحداث في سجن رومية ان أصعب تجربة قد يمر بها القاصر هي رحلته بين المخفر والسجن لقضاء العقوبة، فهو يصله مصدوماً ليجد دركاً وجدراناً رمادية وقضبان حديد سوداً، وغرفة ينحشر فيها شبان لا يعرفهم ليخضع بعدها الى نظام يقوم على "الريس" و"الواسطة"، ويحتاج الى ثلاثة اسابيع للتأقلم مع الأجواء. واذا كانت فترة عقوبته طويلة فإنه ينضم الى برامج تأهيل عدة، ومع اقتراب موعد مغادرته السجن يصبح أكثر حماسة للعودة الى الأهل والعمل، إلا ان شعوراً بالخوف ينتابه فجأة وتكثر اسئلته: ماذا سيقول الناس عني؟ كيف سيستقبلونني؟ ماذا عن الأهل والأصدقاء؟ وكثيراً ما يشهد سجن روميه عودة قاصرين سيقوا اليه بتهم مختلفة على رغم خضوعهم لبرامج تأهيلية نسبة الذين يعادون الى السجن 7 في المئة. ومن الأمثلة الفاقعة على هذه العودة شاب قاصر قضى عقوبته وغادر السجن لكنه لم يجد طعاماً في منزل عائلته فعاد بتهمة السرقة...! لا يخفي المسؤولون الأمنيون المولجون التعامل مع الأحداث صعوبة هذه التجربة "لأن الحدث هو مراهق في حال رفض دائم، يرفضون تناول الطعام أو الشراب وينطون على أنفسهم ما يجعلنا نحثهم على الانخراط في نشاطات رياضية وحرفية وترفيهية، حتى تكاد الحياة داخل السجن تتحول الى حياة داخل مخيم". لكن الحدث الموقوف أو السجين بحاجة الى سلطة كما يقول مسؤولو الأمن "نمارسها من دون صراخ أو ضرب وهم يتقبلونها لأن لو وجد من يضبط سلوكهم لما وصلوا الى السجن، وعلى الحدث أن يتعلم ان الحياة ليست سهلة وان الحرية ليست تفلتاً وان عليهم الا يخطئوا مرة ثانية". ما يلاحظه المسؤولون الأمنيون ان الاحداث يتميزون بذكاء حاد ووعي يتجاوز اعمارهم وان ما ينقصهم هو الحنان وثمة من يستمع اليهم. وتعتقد مرشدة اجتماعية ان الطعام في السجن مهم جداً ولا سيما المشروبات الغازية التي تشعرهم بأنهم على علاقة بالحياة خارج السجن. لكن قلق الأحداث كبير لأن ثمة شعوراً لديهم بأن حقوقهم مهضومة مهما قدمنا لهم. وهم مقتنعون بأنهم لا يستحقون السجن لأنهم ضحايا مذنبين آخرين ظلوا خارجه.