} "شاعر في نيويورك" الديوان الذي كتبه الاسباني فديريكو غارسيا لوركا خلال اقامته في نيويورك قرابة عام يبدو اليوم أشبه ب"المرثية" التي يصف الشاعر فيها الحال المأسوية التي شهدتها المدينة أخيراً. تُرى هل هو حدس لوركا بمأساة نيويورك أم أنها الصدمة التي أحدثتها فيه مشاهد تلك المدينة الواقعية والخرافية، ودفعته الى كتابة قصائد تهذي بالعنف والجنون والموت؟ ليس فيديريكو غارسيا لوركا أول شاعر يكتب عن نيويورك ولم يكن الأخير طبعاً. شعراء كثر سبقوه، أميركيون أو من العالم أجمع، صدمتهم هذه المدينة الرهيبة، رمز العالم الجديد. وشعراء كثر أعقبوه كتبوا عنها كما ينبغي أن يُكتب عن مدينة هي بين أقصى الواقع وأقصى الخيال. إلا أن لوركا الذي أمضى قرابة عام في نيويورك 1929 - 1930 شاء أن يخصص لها ديواناً نظراً الى عمق الأثر الذي تركته فيه وحجم الصدمة التي أحدثتها فيه. إلا أنّ ديوانه الذي يحمل عنوان "شاعر في نيويورك" صدر بُعيد وفاته رمياً بالرصاص ولم يتسنّ له أن يرى قصائده الجديدة و"الغريبة" مجموعة بين دفّتيه. قتل لوركا في العام 1936 وصدر الديوان كاملاً العام 1940 وفي المكسيك وليس في اسبانيا الفاشية. لكن القصائد النيويوركية كانت كتبت بدءاً من العام 1929 أي بعد مرحلته المهمة الأولى المتمثلة في ديوانه الشهير "الأناشيد الغجرية" 1928 وقبل مرحلته الثالثة والأخيرة والمهمة أيضاً المتمثلة في كتابه "مرثية من أجل اغناثيوسانتشيس مخياس" 1935. ولم يمثل ديوان "شاعر في نيويورك" المرحلة الثانية من مسار لوركا الشعري تبعاً للتجربة الفريدة التي خاضها في نيويورك فحسب، وإنما لأن الشاعر يخرج في هذا الديوان عن معجمه الشعري السابق وعن جوّه الغنائي المشبع بأنفاس الأرض الأندلسية وعن الأشكال الشعرية المتوارثة. وراح يعلن بخفر انتماءه الى "مدرسة العصر" وأقصد السوريالية التي كانت بدأت تفرض حضورها انطلاقاً من "البيان السوريالي" الذي أصدره اندريه بروتون في العام 1924. وكان لوركا أصلاً اطلع على المبادئ السوريالية من خلال صديقيه الرسام سلفادور دالي والسينمائي لويس بونويل اللذين كانا شديدي الولع بهذه الثورة الجديدة. سافر لوركا الى نيويورك في صيف 1929 والهدف دراسة اللغة الانكليزية، لكنه التي عاد في ربيع 1930 من غير أن يفقه أسرار هذه اللغة. لم يستطع لوركا أن يقرأ ادغار ألن بو ووالت ويتمان وإليوت وسواهم في لغتهم الأم. ولم يستطع أيضاً أن يدخل في لعبة "التواطؤ" مع تلك اللغة التي ظلت غريبة عنه، هو الاسباني حتى العظم، كما يقال، بل الغرناطي والأندلسي، الصافي والبريء. لم تكن اللغة إلا مظهراً من مظاهر هذه الحضارة الجديدة التي صدمته، حضارة المعدن والاسفلت، حضارة البورصة والآلة، حضارة الزجاج والاسمنت... لكن لوركا لن ينفك يردد أن تجربة نيويورك كانت من "أكثر التجارب فائدة" في حياته. ترى ما سره هذه العلاقة بين شاعر أندلسي غريب ومدينة حديثة وقاسية؟ ما سرّ هذه العلاقة السلبية التي جمعت بينهما؟ ما سر هذا الحب الذي هو الوجه الآخر للكراهية وهذا الاعجاب الذي هو الوجه الآخر للرفض؟ كانت تلك الاقامة القصيرة في نيويورك شديدة الأثر إذاً على لوركا، شاعراً وانساناً معاً. فالشاعر أصلاً لا ينفصل عن الانسان في شخص لوركا وقد اكتشف نيويورك، رمز العالم الجديد، بعينيه المضاعفتين: شاعراً ساطع الموهبة واللغة وانساناً ضعيفاً وهامشياً و"فطرياً". وكان لا بد من أن يصدمه "اكتشاف" أميركا، بل اكتشاف نيويورك التي صدمت الكثيرين من قبله وبعده. إنها صدمة الحضارة الحديثة المختلفة تماماً عن الحضارة الاسبانية التي طالما تجلّت في فطريتها أو بدائيتها في قصائد لوركا. وحيال هذه الصورة الحديثة والغريبة لهذا العالم الجديد والمعاصر راح لوركا يبني عالماً شعرياً آخر على أنقاض الذاكرة الأولى، منفتحاً بعض الانفتاح على المعطيات الشعرية التي نادت السوريالية بها. كانت صدمة نيويورك أشبه باللقاء بين الثورة الحضارية والآلية والمدينية والثورة الحلمية و"الرغائبية" التي أطلقها السورياليون بعدما اجتازوا المرحلة الدادائية. راح لوركا يكتشف بعض المعالم التقنية الشعرية المختلفة: صور مدهشة وغريبة، حقول بصرية مفاجئة، علاقات لغوية منحرفة، كتابة شبه آلية، غنائية تخاطب العين... هكذا استطاع شعره أن يتجدد متخلياً عن الكثير من المواضيع القديمة والهموم الشعبية التي كان خير معبّر عنها خصوصاً في دواوينه: "الأناشيد الغجرية" و"انطباعات ومشاهد" و"قصائد". وبدا شعره "الأميركي" حافلاً بالصور النافذة والمجازات الغامضة والتشابيه النافرة. لكنه لم يتخلّ لحظة عن السحر الذي طالما وسم قصائده السابقة. ولعله السحر النابع من لاوعيه الفردي المغروس في أرض الشمس والضوء، في الأندلس التي تشبه الحلم. في تلك القصائد الجديدة ظل لوركا كما قال عن نفسه: "لست انساناً ولا شاعراً ولا ورقة، إنني نبض مجروح يسبر الأشياء من الجهة الأخرى". أما أكثر ما يلفت في ديوان "شاعر في نيويورك" فهما الانشودتان اللتان كتبهما لوركا وحملت الأولى عنوان "أنشودة الى والت ويتمان" والثانية "أنشودة الى مليك هارلم". ولعل الصورة الغريبة التي يرسمها لوركا للشاعر الاميركي الشهير 1892 - 1819 صاحب "أوراق العشب" تؤكّد كم أن لوركا ظل اسبانياً بل أندلسياً وربما مزارعاً بدائياً على رغم الصدمة التي أحدثتها فيه مظاهر الحضارة الحديثة وعلى رغم التحولات التي طرأت على شعره. فها هو في تلك "الأنشودة" يرثي نيويورك على طريقته الغنائية، رثاء شاعر عاشق ومفتون ومتألم في آن: "آهٍ يا نيويورك الوحل،/ يا نيويورك الأسلاك والموت./ أي ملاك يختبئ في وجنتك؟ أي صوت ناجز يبوح بحقائق القمح؟ أي صوت يبوح بالحلم الراعب لشقائق النعمان الملوّثة؟". يرسم لوركا لويتمان صورة شاعر عملاق، شاعر ريفي، هو أشبه بإله إغريقي، ديونيزيسي، بل أشبه بتمثال ضخم ممدد على ضفة نهر الهدسون. يخاطب لوركا "صديقه" والت ويتمان قائلاً: "ما من لحظة واحدة يا وولت ويتمان/ أيها العجوز الجميل/ غابت عن ناظري لحيتك المفعمة بالفراشات/ ولا كتفاك المخمليتان اللتان أضناهما القمر/ ولا فخذاك اللذان هما فخذا أبولون العذري/ ولا صوتك الذي يشبه عموداً من رماد/ أيها العجوز الجميل كالضباب/ الذي ينوح كعصفور...". لم يكن لوركا إذاً شخصاً مهيّأً لاكتشاف نيويورك أو أميركا. فهو لم يستطع أن يستوعب خلال تلك السنة الرهيبة ما شاهد وما لمس وما عاش. كانت "صدمة" الحداثة أقوى من ذاكرته الفردية والجماعية ووجدانه الانساني. لكنها لم تكن أقوى من مخيلته الشعرية الساحرة التي سرعان ما صاغت المشاهد اليومية والغريبة والشاذة في قصائد تطفح بالدهشة ممزوجة بالألم والغضب، وبالأمل ممزوجاً بالموت والخوف، وبالفرح ممزوجاً بالأسى واليأس، وبالورد ممزوجاً بالدم والرماد، وبالحلم ممزوجاً بالكابوس... في إحدى قصائده يكتب لوركا تحت وطأة الصدمة: "ليست الحياة حلماً" وكأنه يدرك في قرارته انه "يعارض" مواطنه كالدرون دولابركا الذي أكد أن "الحياة حلم". الحياة في نيويورك ليست حلماً، هكذا أراد لوركا أن يقول. الحياة كابوس. ولعل الحالة الكابوسية التي تشغل معظم قصائد الديوان تدل على المأساة التي عاشها الشاعر في تلك المدينة، مأساة الانفصام بين شخصين، واحد فطري وآخر حديث، بل بين بيئتين، واحدة فطرية أو بدائية وأخرى معاصرة وحديثة جداً. وكم يبدو غريباً هذا النَفَس الرثائي الذي يتخلل القصائد مصحوباً بما يقارب السخرية السوداء في المعنى السوريالي والعبث والجنون والهذيان. كأنّ لوركا لم ير في هذه المدينة التي بهرته وصدمته وأحبها وكرهها في آن واحد، إلا وجهها المأسوي. ولعل القصائد والمقاطع والجمل الكثيرة التي ترثي نيويورك وتصفها وصفاً مأسوياً "أبو كاليبسيا" أو رؤيوياً قد تدفع القارئ الى تبني نظرية الحدس أو التنبؤ. وهذان الأمران طالما عرف بهما الشعراء على مرّ العصور. إلا أن لوركا الذي تبدو بعض قصائده وكأنها مكتوبة للتوّ، عقب الانفجار الهائل الذي حل بالبرجين النيويوركيين، لم يكن يرثي المدينة حادساً ما ستؤول اليه. بل كان، على غرار الكثيرين من الشعراء والكتّاب ومنهم أدونيس في العالم العربي مبهوراً ومصدوماً بهذه الحضارة، حضارة الاسمنت والزجاج والأرقام والآلات. وراح يتخيل المصير المأسوي الذي ينتظر الانسان المقبل والحياة المقبلة. في قصيدته "رقصة الموت" يعرب الشاعر عن الخوف الذي أحدثه فيه "القناع الهائل"، الذي "انتقل من افريقيا الى نيويورك" ثم لا يتوانى عن رسم صورة مأسوية للمدينة: "خوف ينتشر فوق نيويورك" أو: "أصوات الذين يموتون ترنّ تحت السماء"، أو: "سيرقص القناع الهائل بين مواعيد الدم والأرقام"، أو: "موجة هائلة من الوحل والزجاج تلتمع فوق نيويورك". تحفل قصائد ديوان "شاعر في نيويورك" بما لا يُحصى من الصور والتشابيه المأسوية ومن المفردات التي تنتمي الى معجم الموت أو الخراب. لعل نيويورك هي "الأرض الخراب" كما تمثلها إليوت الشاعر الأميركي الذي هاجر الى لندن. وقد يكفي استعراض بعض الجمل والتعابير التي وردت في قصائد لوركا لتأليف مشهد مأسوي بانورامي يشبه تماماً ما قد يكتبه شاعر عن الانفجار العنيف الذي هزّ نيويورك أخيراً: "نواح منتصف الليل"، "نار دائمة/ تغفو في حجارة الصوان"، "انها المقابر، أعرف. إنها المقابر/ وآلام المطابخ المدفونة تحت الرمال"، "ارتفعت الصرخات من غابة القيء/ مع النسوة الخاويات، مع أطفال من شمع ذائب،/ مع أشجار متخثرة..."، "ذلك الميت الذي لم يبق لديه إلا رأسه وفردة حذاء"، "خيطان رقيقان من الدم يشقّان السماء الصلبة"، "أحشاء الشيطان ترنّ في الوديان/ وها هي ضربات الأجساد اللدنة وأصداؤها تتردد"، "تعاني التماثيل آلاماً في عيونها/ مع ظلمة التوابيت"، "وأنا على حافة السطوح/ أي ملائكة من نار أنشد؟"، "القمر الذي حطّم رابية الزهرة، وأغرق المقابر العتيقة في الدماء والرماد"، "عندما تلمس الجثث بأقدامها/ الضوء الرهيب لقمر آخر مدفون"، "موتى يخلعون كل يوم ثوب الدم"، "نسوة غارقات في الزيوت المعدنية"، "السماء تصب بين الجسور والسطوح/ قطعاناً من الثيران/ تسوقها الريح الى الأمام"، "أجساد الموتى تتحلل تحت ساعات المدن"، "أميركا تُغرق نفسها/ في الآلات والنحيب". قد تستحيل تسمية ديوان لوركا "شاعر في نيويورك" ب"الكتاب الرؤيوي" على رغم صور الدمار والخراب وروائح الحرائق والدخان وصرخات الرعب والاستغاثة التي يحفل بها. فالشاعر الاسباني الذي حدس بمقتله المأسوي والذي شهد على ويلات الحرب العالمية الأولى أفلت عنان مخيلته لترسم صورة حقيقية للمصير الدرامي الذي ستنتهي اليه الحياة المعاصرة. ولعله وجد في مدينة نيويورك نموذجاً صارخاً عن هذا المصير القدري الذي يشبه النهايات الخرافية في كتب التاريخ. وكان لوركا أصلاً قدّم ديوانه أو قصائده النيويوركية في محاضرة هي عبارة عن نص جميل تحدث فيه عن تلك الصدمة العميقة التي هزّت كيانه.يقول لوركا: قلت: "شاعر في نيويورك" فيما كان يفترض بي أن أقول: "نيويورك في شاعر". ثم يتحدث عن "المعمار الفوق - انساني والايقاع المحموم "اللذين تتميز بهما هذه المدينة واصفاً إياهما ب"الهندسة والأسى". نيويورك "عالم بلا جذور" كما يعبّر، "جحافل من نوافذ عظيمة، حيثما لا أحد يملك الوقت كي يراقب سحابة أو يتحادث مع نسمة...". ويتحدث عن الجموع مقارناً بينها وبين عزلته قائلاً: "ثم هناك جموع البشر! لا يمكن أي امرئ أن يتخيل كيف هي الجموع في نيويورك!". ويضيف: "لا يمكن أحداً أن يتخيل حال العزلة التي يشعر بها الاسباني هناك وخصوصاً الأندلسي". انها عزلة لوركا الأندلسي في عالم مغرقٍ في حداثته حتى الهذيان، عزلة شاعر المآسي الذي جعل منه موته المأسوي شهيد الشعراء!