اليونيفيل : لم نسهّل أي عملية اختطاف أو أي انتهاك للسيادة اللبنانية    اكتشاف قرية أثرية من العصر البرونزي في واحة خيبر    الأردن: لن نسمح بمرور الصواريخ أو المسيرات عبر أجوائنا    رونالدو يعلق على تعادل النصر في ديربي الرياض    إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بن عبد العزيز الملكية    وسم تختتم مشاركتها في أبحاث وعلاج التصلب المتعدد MENACTRIMS بجدة    «الداخلية»: ضبط 21370 مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.    بلدية محافظة البكيرية تنفذ فرضية ارتفاع منسوب المياه وتجمعات سطحية    الهلال يتفوق على سلسلة الأهلي بعد ديربي الرياض    حقيقة انتقال نيمار إلى إنتر ميامي    السعودية تعرب عن قلقها إزاء استمرار القتال في السودان الشقيق وتصاعد أعمال العنف التي طالت المدنيين من نساء وأطفال    مرثية مشاري بن سعود بن ناصر بن فرحان آل سعود    الشيف الباكستانية نشوى.. حكاية نكهات تتلاقى من كراتشي إلى الرياض    المملكة "برؤية طموحة".. جعلتها وجهة سياحية عالمية    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    في الجوف: صالون أدب يعزف على زخات المطر    مثقفون يناقشون "علمانيون وإسلاميون: جدالات في الثقافة العربية"    معدل وفيات العاملين في السعودية.. ضمن الأدنى عالمياً    "الأرصاد": أمطار على منطقة المدينة المنورة    آلية جديدة لمراجعة أجور خدمات الأجرة عبر التطبيقات    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    انطلاق فعاليات "موسم التشجير السنوي 2024" ، تحت شعار "نزرعها لمستقبلنا"    هيئة الهلال الاحمر بالقصيم ترفع جاهزيتها استعداداً للحالة المطرية    جمعية البر بالجنينة في زيارة ل "بر أبها"    الكلية التقنية مع جامعة نجران تنظم ورشة عمل بعنوان "بوصلة البحث العلمي"    أمانة القصيم تقيم المعرض التوعوي بالأمن السيبراني لمنسوبيها    ضمك يتعادل إيجابياً مع الرياض في دوري روشن للمحترفين    تن هاج يشكر جماهير مانشستر يونايتد بعد إقالته    وقاء جازان ينفذ ورشة عمل عن تجربة المحاكاة في تفشي مرض حمى الوادي المتصدع    ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار سقف محطة قطار في صربيا إلى 14 قتيلاً    الشؤون الإسلامية في جازان تطلق مبادرة كسوة الشتاء    أروماتك تحتفل بزواج نجم الهلال "نيفيز" بالزي السعودي    تصعيد لفظي بين هاريس وترامب في الشوط الأخير من السباق للبيت الابيض    ماسك يتنبأ بفوز ترمب.. والاستطلاعات ترجح هاريس    الحمد ل«عكاظ»: مدران وديمبلي مفتاحا فوز الاتفاق    المذنب «A3» يودِّع سماء الحدود الشمالية في آخر ظهور له اليوم    الرياض تشهد انطلاق نهائيات رابطة محترفات التنس لأول مرةٍ في المملكة    حائل: إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بوادي السلف    البدء في تنفيذ جسر «مرحباً ألف» بأبها    مبدعون «في مهب رياح التواصل»    الطائرة الإغاثية السعودية السابعة عشرة تصل إلى لبنان    أمير المدينة يرعى حفل تكريم الفائزين بجوائز التميز السنوية بجامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز    ما الأفضل للتحكم بالسكري    صيغة تواصل    هاتف ذكي يتوهج في الظلام    الدبلة وخاتم بروميثيوس    أماكن خالدة.. المختبر الإقليمي بالرياض    السل أكبر الأمراض القاتلة    الأنساق التاريخية والثقافية    هوس التربية المثالية يقود الآباء للاحتراق النفسي    «الرؤية السعودية» تسبق رؤية الأمم المتحدة بمستقبل المدن الحضرية    عمليات التجميل: دعوة للتأني والوعي    المرأة السعودية.. تشارك العالم قصة نجاحها    عن فخ نجومية المثقف    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان ملك إسبانيا إثر الفيضانات التي اجتاحت جنوب شرق بلاده    مدير هيئة الأمر بالمعروف في منطقة نجران يزور مدير الشرطة    أمير منطقة تبوك ونائبه يزوران الشيخ أحمد الخريصي    لا تكذب ولا تتجمّل!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ناتالي حنظل على خطى لوركا
نشر في الحياة يوم 17 - 06 - 2012

تواصل الشاعرة الأميركية، الفلسطينية الاصل، ناتالي حنظل، سبر ينابيعها الشعرية، والغوص في أصقاع ذاتها، بحثاً عن جذور هويتها، التي صقلتها مؤثرات غربية ومشرقية، في ديوانها الجديد «شاعرة في الأندلس»، الصادر بالإنكليزية، في الولايات المتحدة الأميركية، عن منشورات جامعة بيتسبرغ، 2012. تعود الشاعرة إلى الأندلس لتستعيد أصداء تلك الحقبة الذهبية من تاريخ العرب، عبر استحضار فضاء حضاري فريد انصهرت في بوتقته أنماط فكرية وفلسفية وشعرية شتى. تلتقط الشاعرة نبض الأندلس وروحها في قصائد يغلب على الطابع السردي، تجمع بين النثرة العاطفية والترنيمة الصوفية، وتنضحُ عذوبة ورقة، كأن الموشّح ركيزة لأسلوبها، حيث نجد اقتباسات وشذرات شتى لشعراء أندلسيين تتوزع أسماؤهم بين دفّتي الديوان، مثل ابن زيدون وابن حزم وابن فرج وسواهم.
والشاعرة حنظل في ديوانها تقتفي خطوات الشاعر الإسباني الشهير غارثيا لوركا، وارث الأندلسيين في غنائيته وشفافيته ورقّته، في رحلة تبدأها من نيويورك باتجاه الأندلس، وليس العكس كما فعل لوركا عام 1929، حين زار مدينة الناطحات ومكث فيها لتسعة أشهر، كتب خلالها ديوانه الشهير «شاعر في نيويورك»، الذي رأى النور بعد مقتله في الحرب الأهلية الإسبانية. تأتي حنظل وتتلقف عنواناً مماثلاً لديوانها، وتنسج رحلة موازية لرحلة لوركا، في محاكاة تكاملية، وليست ضدية، لرؤيا الشاعر الإسباني. يمكث لوركا في مدينة مانهاتن بين عامي 1929-1930، وينشر قصائده عن المدينة في ديوانه الذي رأى النور عام 1940. هنا، وبعد مرور أكثر من ثمانين عاماً، تذهب الشاعرة حنظل من نيويورك إلى إسبانيا، في رحلة عكسية، لتكتب قصائد ديوانها «شاعرة في الأندلس»، التي تحمل الكثير من رجع الصدى الأندلسي، أسلوباً ومجازاً ورؤى، كتلك التي لا نخطئها في صوت لوركا وروحه. وكما وصف لوركا شوارع نيويورك وضفاف نهر هدسون الذي يحيط بجزيرة مانهاتن كالسوار، تسرد الشاعرة تفاصيل رحلتها إلى الأندلس، وتصف شوارع وتلال وقلاع قرطبة وإشبيلية وغرناطة، وسواها من المدن والقرى والبلدات.
حب وحنين
تفتتح حنظل ديوانها باقتباس من لوركا يخاطب فيه الشاعر الرائي وولت ويتمان بالقول: «أما أنتَ، يا وولت ويتمان، البهيّ، فابقَ غافياً على ضفافِ هدسون، لحيتُكَ مشرّعةٌ باتجاه القصيّ البعيد»، تتبعه ببيت للشاعر الأندلسي ابن زيدون من قصيدة «إنّي ذكرتكِ بالزّهراء» يخاطب فيه حبيبته ولادة بنت المستكفي قائلاً: «كلّ يهيجُ لنا ذكرى تشوّقِنا/ إليكِ، لم يعْدُ عنها الصّدرُ أن ضاقا»، كأنّها، بذلك، ترى لوركا، وتالياً الأندلس، من منظورين متناغمين، أولهما، ويتمان، الذي ترك أثراً عميقاً في شعر لوركا، وثانيهما، ابن زيدون الذي تتغلغل روحه في معظم قصائد لوركا عن الحب والعشق والحنين.
وحنظل المتأثرة بكل من لوركا وويتمان وابن زيدون، تذهب إلى إسبانيا باحثة عن جذورها المتوسطية، والشرق أوسطية: «من قريةٍ إلى قريةٍ/ أمشي،/ أجمعُ الملحَ،/ وبعضَ الياسمين،/ وأتساءلُ ما الذي سيقولُهُ الطّللُ!» إنه الطلل الأندلسي الماثل في ذاكرتها، المشعّ حنيناً وشغفاً وعشقاً. وكما تشير حنظل في مقدمتها للكتاب، فإنّ الأندلس تمثّلُ المكانَ الذي تنصهر فيه مكونات دينية وإثنية وعرقية، حيث ظلّت التقاليدُ اليهوديةُ والمسيحيةُ والإسلاميةُ تشكّل مرآةً للماضي، المخيف والجميل معاً. من هنا يُعتَبرُ ديوانها «شاعرة في الأندلس» تأمّلاً في الماضي والحاضر، وربما المستقبل، بما أنه يتناول، شعرياً، تلك المنطقة التي تبدو كأنّها لا تزال تحملُ نبضَ كوكبنا، وتحتشد فيها معظم حكاياتنا وسردياتنا: «ليس التاريخُ سوى رائحة النّدى في عظامِنا / ولكن حتّى النّدى يؤلمُ/ حين يقتحمُ القلبَ».
إنه تأمّلٌ في معنى الألم أو الفقدان، وقراءة في تلك الأسرار التي تصدمنا وتقلقنا بغموضِها، وتأمّلٌ في قصائد لوركا نفسها التي لا تزالُ تحضّنا على طرح الأسئلة حول جوهرِ كينونتنا. في قصيدة لها تحاكي إحدى مقاطع لوركا الشهيرة التي يقول فيها: «إذا متّ/ فدعوا الشرفة مفتوحة»، تلتقط حنظل لحظة رحيل مشابهة، تتمرأى فيها صورة لوركا، الشاعر الذي واجه موته وحيداً، دفاعاً عن الحلم: «حين أموتُ/ سوف تُعلّقُ خريطةُ العالمِ/ فوق سريري،/ المكتبةُ الصغيرةُ في ميجاس/ حيث قرأتُ لوركا للمرّة الأولى/ سوف تصبحُ مقهى،/ أشجارُ الزّيتونِ/ التي لا أستطيعُ العيشَ من دونِها/ ستكونُ في أزهى براعمِها،/ سوف أرى الموتَ من بعيدٍ/ ينتظرني/ لكنّني لن أحرّكَ ساكناً».
ليس خافياً أن حنظل تركّز كثيراً على استعادة غنائية لوركا، وبخاصة فكرته عن الحنين، هي الفلسطينية، المقتلعة من أرضها، الحالمة بالعودة إلى وطنها، حالها كحال درويش الحاضر في أكثر من قصيدة. لكن حنين حنظل، في الديوان، ينصب على الأندلس، هذه المرة، كمن يريد استعادة وديانها وسهولها وزهورها، حتى أن بعض قصائدها تتماهى أو تنصهر مع المكان، وتنضح حسيةً بما تختزنه من تفاصيل ومنمنمات محلية، فإذا غاب كلّ شيء، لا تغيب صورة الأندلس، وتظل ماثلة في القلب، كما في مجازات القصيدة: «ولّى الآن،/ ولكن ليس حائط قرطبة،/ ولا قصائد المتصوّفة،/ ولا اللّغة الإسبانية،/ ليس الأندلس،/ برمّانها، وبندقها،/ وبرتقالها، وتفّاحها،/ جدرانُها العتيقةُ،/ وقلبُها،/ أكتافُها، لسانُها،/ ظهرُها، ذراعاها، يدُها،/ رجفتُها/ على طولِ الغيابِ.» إنه حنين عابر للأزمنة، بالنسبة الى حنظل، التي قُدّر لحياتها الشخصية أن ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمنفى، هي المولودة في إحدى جزر البحر الكاريبي لعائلة فلسطينية نزحت من بيت لحم. ومثل قصائد لوركا التي تتحدّثُ عن اكتشاف ذاتٍ ضائعة، تتحدث حنظل عن الضياع ذاته، وتنضحُ استعاراتها بالحنين إلى مكانٍ لا تهزّه النوائب، ولا يكون عرضة للتصدّع والانزياح. ولطالما تحدث لوركا عن «الظلم الاجتماعي والحبّ القاتم»، وعن مفهوم «الآخر» المختلف، المؤتلف، وهذا ما تحاول حنظل استعادته، من خلال بحثها المستمرّ عن هويتها، ككائن مستلب وضائع في التاريخ، مع رفضها البقاء في ذاك الظلام الدامس.
وكما تشير الشاعرة الأمريكية أليس ووكر في كلمة لها تذيّل غلاف الديوان فإن قصائد حنظل تحمل عمقاً وثقلاً لأن هاجسها هو الحنين الأبدي لجنّتها المفقودة. صوتُها محيّرٌ لأنه يمثّل إيقاع حياتها المتنقّلة أبداً، وهو الصوت الكوزموبوليتي، العابر للتخوم، المنتمي الى العائلة الإنسانية. وحنظل في ديوانها تنجح في استعادة تلك الروح الإنسانية التي تغنىّ بها لوركا في شعره، وترمزُ إليها الأندلس بوصفها حاضناً حضارياً فريداً لأكثر من ثقافة، ونقطة التقاء قصوى بين الغرب والشرق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.