"مجد للاستثمار" و "عقارات السيف" تعلنان عن تحالف استراتيجي في المنطقة الشرقية    إطلاق مشروع «واجهة جدة» على مساحة مليون متر مربع باستثمارات تصل إلى 10 مليارات ريال    لاكروا: الأمم المتحدة ستعزز يونيفيل بعد التوصل لهدنة في لبنان    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    كوريا الجنوبية تهزم الكويت بثلاثية    تبرعات السعوديين للحملة السعودية لإغاثة غزة تتجاوز 701 مليون ريال    حسابات منتخب السعودية للوصول إلى كأس العالم 2026    رسميًا.. رانييري مدربًا لسعود عبد الحميد في روما    القبض على 3 إثيوبيين في نجران لتهريبهم 29,1 كجم "حشيش"    إجتماع مجلس إدارة اللجنة الأولمبية والبارالمبية السعودية    «الداخلية» تعلن عن كشف وضبط شبكة إجرامية لتهريب المخدرات إلى المملكة    انطلاق فعاليات المؤتمر السعودي 16 لطب التخدير    مركز الاتصال لشركة نجم الأفضل في تجربة العميل السعودية يستقبل أكثر من 3 مليون اتصال سنوياً    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة إلى 43736 شهيدًا    وزير الإعلام يلتقي في بكين مدير مكتب الإعلام بمجلس الدولة الصيني    المروعي.. رئيسة للاتحاد الآسيوي لرياضات اليوغا    أمير الرياض يستقبل أمين المنطقة    أمير المدينة يلتقي الأهالي ويتفقد حرس الحدود ويدشن مشروعات طبية بينبع    الذهب يتراجع لأدنى مستوى في شهرين مع قوة الدولار والتركيز على البيانات الأمريكية    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    الأمير عبدالعزيز بن سعود يرأس اجتماع الدورة الخمسين للمجلس الأعلى لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    صندوق الاستثمارات العامة يعلن إتمام بيع 100 مليون سهم في «stc»    اختتام مؤتمر شبكة الروابط العائلية للهلال الأحمر بالشرق الأدنى والأوسط    البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت    «هيئة الإحصاء»: معدل التضخم في السعودية يصل إلى 1.9% في أكتوبر 2024    وزير الخارجية يصل لباريس للمشاركة في اجتماع تطوير مشروع العلا    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    عصابات النسَّابة    رقمنة الثقافة    الوطن    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    أفراح النوب والجش    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    استعادة التنوع الأحيائي    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    أجواء شتوية    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    مقياس سميث للحسد    الذاكرة.. وحاسة الشم    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    تكريم الفائزين بجائزة الأمير سلطان العالمية للمياه في فيينا    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شاعر بحر قادش والأندلس والمنفى غاب عن 97 عاماً . رافائيل ألبرتي ناضل وغنى ورثى ... وراح ينتظر "على حافة فجر غامض"
نشر في الحياة يوم 31 - 10 - 1999

لا يذكر قارىء الشعر الإسباني رافائيل ألبرتي حتى يتذكر الشاعر فديريكو غارسيا لوركا، ولا يذكر القارىء كلا الشاعرين حتى يتذكّر الجيل الشعري الذي جمع بينهما وسمّي "جيل 1927" وقد ضمّ أبرز الشعراء الإسبان في تلك الحقبة ومنهم خورخي غيللان، بيدرو ساليناس، لويس سيرنودا وفيسنته السكندري الشاعر الذي حاز جائزة نوبل في العام 1977 وهو العام الذي عاد فيه البرتي الى اسبانيا بعد منفى طويل دام قرابة أربعين عاماً. والكلام عن أيّ شاعر من هؤلاء يحمل على الكلام عن هذا الجيل الذي لم تعرف اسبانيا مثيلاً له ليس في الشعر فحسب وإنّما في الإلتزام السياسي أيضاً والجمع بين نزعتي الإبداع والتحرّر الوطني. ولم يكن انطلاق هذا الجيل في ذاك العام إلا مصادفة إذ التقى الشعراء الجدد ليحيوا ذكرى ثلاث مئة عام على وفاة الشاعر الإسباني النهضوي الكبير غونغورا معلنين انتماءهم الى عالمه الشعري ولغته ولكن من خلال رؤيتهم الحديثة وقراءتهم الثورية. واستعادة الشاعر القرطبي غونغورا الذي لم ينعم بشهرة كبيرة خارج اسبانيا حرّضتهم على استرجاع مقولة "الشعر الصافي" والبعد الميتافيزيقي اضافة الى الأنواع الشعرية الأصيلة كالسونيته والرومانس وسواهما. إلا أن أثر هذا الشاعر النهضوي لم يتبدَّ واضحاً إلا في شعر لوركا والبرتي ولا سيّما في غنائيّتهما المتوهّجة ونزعتهما الوجدانية اللتين قرّبتاهما من الذاكرة الشعبية. ولم تكن المقارنة بين الشاعرين في مقتبل حياتهما الشعرية التي عمد اليها بعض النقاد، إلا ترسيخاً لمنطلقهما الشعري والأفق الذي ضمّهما الواحد الى الآخر. وكان لوركا يكبر ألبرتي سنواتٍ أربع وقد سبقه في النشر وسوف يسبقه كثيراً في الموت إذ أعدم في العام 1936 إبّان الحرب الأهلية عن عمر يناهز ثمانية وثلاثين عاماً. أمّا ألبرتي فعاش عمراً مديداً كاد يقارب قرناً بكامله ومات عن سبعة وتسعين عاماً أمضى نحو أربعين منها في المنفى.
قد لا ينكر القارىء والناقد أيضاً على رافائيل البرتي حقّه إذا أعاده الى "جيل 1927" فهو كان من شعرائه المجدّدين وربما الأشدّ حماسة والأعمق تأثراً ب"المرجع" الشعري التاريخي مدرسة غونغورا والأكثر انفتاحاً على العصر الذي عاشه كاملاً تقريباً في مآسيه وآماله، في خيباته ومُثله. وقد أدرك عمق ارتباطه ب"عصر التناقضات"، عصر الآلة والموت، عصر الرجاء والخوف فقال: "يعكس شعري هذا العصر الكبير والرهيب الذي نعيشه: يميل حيناً الى القرنفل وحيناً الى السيف. انني تلقائياً أميل الى القرنفل. وكم يسرّني للغاية أن أتأمّل الغيوم، البحر، الأشجار والأزهار عوض أن أحمل بين يديّ سيفاً قاتلاً". هكذا شاء ألبرتي فعلاً أن يكون شاعراً ضحية بل شاعراً شاهداً على المأساة التي وقعت في اسبانيا. وان لم يحمل البندقية على غرار الجمهوريين والثوار الحمر فهو شهر قصائده في وجه الفاشية والديكتاتورية وناضل على طريقته شاعراً "شعبياً" وملتزماً. لكنه لم يدفع ثمن نضاله من دمه كما دفعه رفيقه لوركا بل من حياته التي أمضى سحابة كبيرة منها منفياً ومقتلعاً.
إلا أنّ البرتي لم يكن شاعراً مناضلاً فحسب فالشعر النضالي الذي كتبه إبّان حركة التحرّر التي شهدتتها اسبانيا وانتهت في الحرب الأهلية لم يكن إلا مرحلة من مراحله الشعرية المتعددة. فهو شاعر المراحل والحقبات، يجتازها من غير تناقض. بل ان مراحله يكمّل بعضها بعضاً حتى وان بدت على قدْر من الاختلاف في قضاياها ولغاتها والأساليب الشعرية والتقنيات. وقد ظلّ طوال حياته الحافلة والمديدة وارث الحضارة الأندلسية والمنتمي الى حضارة الأطلسي في الحين عينه. كان ألبرتي شاعراً أندلسياً وأطلسياً في كلّ ما كتب وعاش، شاعر البحر والشمس وشاعر الطبيعة الساحرة والغناء والموسيقى والإيقاع. ولعلّ سنوات الطفولة واليفاع التي أمضاها على شاطىء بحر قادش في مرفأ "سانتا مارّيا" الشهير ظلّت ترافقه طوال حياته ومنفاه. وظلّت زرقة البحر وذهب الشمس يلمعان في عينيه حتى في أشدّ ظروفه حلكة وقتامة. وان استحق البرتي لقب شاعر المنفى بامتياز فهو استحق أيضاً لقب شاعر البحر والشمس بامتياز. "البحر، البحر، البحر. لا شيء سوى البحر": هكذا قال في مطلع حياته الشعرية وهكذا ردّد في سنواته الأخيرة وما سبقها. وفي احدى مراحله التي أعقبت ما سمّي لديه "نزعة سوريالية" يدرك ألبرتي أزمة شعرية ووجودية حادة تبعاً ل"تغرّبه" أو "اغترابه" عن منابته الأولى فيروح يسأل نفسه عن الأسباب التي فصلته عن "الضوء" وعن "النشيد"، وعن المراكب والملاّحات والشواطىء. ويقول في مذكراته الجميلة: "لقد فقدت فردوسي، فردوس سنواتي العذبة، سنوات فتوّتي الأولى، النقية الهانئة والسعيدة". وان استهل ألبرتي حياته كرسام وخبر معنى الفشل منذ المعرض الفردي الأول الذي أقامه في مدريد 1920 فهو ظلّ رساماً في شعره، مسحوراً بالضوء والألوان، وقد حلّ عليه الشعر كالمعجزة ليلة وفاة والده. ففي تلك الليلة كتب أولى قصائده مخاطباً فيها والده الراحل واصفاً اياه على سرير الموت: "جسدك / الطويل والمكسوّ بالقماش / مثل تماثيل عصر النهضة / وبضع زهرات كئيبة / بيضاء بياض المرض". ومنذ تلك الليلة المأسوية راحت تفيض الكلمات كما لو من "نبع سرّي" كما يقول.
عاش رافائيل ألبرتي حياة صاخبة كالعصر الذي كان شاهداً عليه، حياة ملؤها المآسي والآمال، الخيبات والأحلام، المنفى والانتظار، النضال والعزلة، الشهرة واليأس، الفقر والفرح... ومن يقرأ سيرة حياته يدرك كم أنّها فعلاً سيرة جيل وتاريخ، سيرة حروب وثورات، سيرة اسبانيا ومدريد... إلا أنّ هذه الحياة على ما عرفت من صخب وهزائم و"أمجاد" ظلّت حياة شاعر "يكتب كالمجنون" كما يقول ألبرتي، حياة شاعر لم يغادر أرض الحنين الأوّل ولم يهجر بساطة البحّارة ولا ألفة الملاّحين. وعلى الرغم من نهمه إلى القراءة وشغفه الثقافي وانفتاحه على آداب القرن والشعوب انطلاقاً من شيوعيّته اللاحقة فأن البرتي ظلّ ذلك الشاعر الغنائي بل الوجداني الذي يضجّ عالمه بهدير البحر وسطوع الشمس، بتفاصيل الحياة اليومية والصبوات الميتافيزيقية، بالذكريات والأوهام العذبة، بالألم والأطياف. ولم تكن السوريالية التي اجتازها في مرحلة من مراحله إلاّ سوريالية شاعر أندلسيّ وأطلسي يصغي حيناً تلو آخر الى نداءات اللاوعي والغريزة. لكنّه كان سرعان ما يرجع الى حالات النقاء الأولى، الى أفياء الفردوس المفقود. وفي كلّ ما كتب من قصائد غنائية أو ملتزمة، وجدانية أو واقعية، حلمية أو نضالية اقتفى ألبرتي كما يقول "جمال اللغة" و"مثل مجنون".
وان كان رصد المراحل الشعرية التي اجتازها رافائيل ألبرتي يفترض اعتماد مبدأ "الكرونولوجيا" التاريخية والعودة الى سيرته في تفاصيلها الصغيرة فأنّ من الممكن الوقوف على مراحل أربع بدت شبه منفصلة بعضها عن بعض زمنياً وشعريّاً على الرغم من تداخلها الخفر أو تشابكها وكأن المرحلة تكمل الأخرى أو كأنّ الواحدة تندّ عن الأخرى وتجيب عن أسئلتها.
وأولى هذه المراحل تتمثل في النتاج الشعري اليانع الذي كان بمثابة الخطوات الأولى التي رسّخت للشاعر الشاب موقعاً داخل الحركة الشعرية الجديدة. لكنّ البرتي في نتاجه الأول هذا بدا شاعراً متمرّساً في أصول الصناعة الشعرية وسليل عصر الباروك ومدرسة غونغورا والمناخ الأندلسيّ. وفاز ديوانه الأوّل "بحّار أرضي" في العام 1925 بجائزة الأدب الوطنية وكان سماه من قبل "بحر وأرض" مرسّخاً انتماءه المزدوج الى بحر قادش وأرض الأندلس. والديوان والجائزة شقّا الطريق أمامه ليدخل المعترك الشعري الإسباني ويحظى بحدب شاعر رائد آنذاك هو خيمينيز وإعجاب كاتب ومفكّر هو أورتيغا ياغاسيت. في تلك الفترة التي عاش خلالها في مدريد التقى ألبرتي صديقه لوركا ولوي بونويل وسلفادور دالي ووصفه ب"الخجول جداً والقليل الكلام". ولم يلبث أن أصدر ديوانه الثاني "العاشقة" وديوانه الثالث "فجر المنثور" لينضما الى الديوان الأول ولتمثل الثلاثة معاً مرحلته الغنائية الأولى. وتفاوتت قصائد هذه المرحلة 1924 - 1926 بين القصائد القصيرة "المموسقة" و"الموقّعة" والقصائد الدرامية التي تستوحي بعض الأشكال القديمة والمتوارثة. وبدا شغفه باللغة والصور والبهجة والحبور والمجازات بيّنا جداً وعاصفاً. وبدا شعره غنائياً بامتياز مجبولاً بالدفء والضوء ومفعماً بالحنين الى حالات الصفاء والبراءة والحرية.
وهد المرحلة - مرحلة البحر والغناء والحنين - التي لم تخلُ من الطرافة والدعابة تمثّل فعلاً عالماً بذاته، عالماً فريداً تماماً مثل العالم الذي رسّخته المرحلة الثانية من شعره وهي الثالثة زمنياً إذ سبقتها مرحلة وسيطة تسمّى مرحلة التحوّل. ومرحلة التحوّل هذه أو المرحلة الثانية هي التي انتهت الى النتاج الذي وُسم ب"الطريقة التعبيرية الثانية" وقد استسلم الشاعر فيها الى التجربة النضالية فكان "شاعراً في الشارع" كما يعبّر عنوان احدى قصائده أو دواوينه وأعلن آنذاك "فجر الأيدي في الهواء". في هذه المرحلة الثالثة ينخرط ألبرتي في الحركة الثورية بعدما كان وجد سلامه الداخلي، أو سلامه الحارق، في الحبّ. ولا غرابة أن تنهض هذه المرحلة في سنوات ما قبل الحرب الأهلية وأن تتخلّلها قبل أن يدبر الشاعر الى منفاه ويمكن حصرها زمنياً بين العامين 1930 و1939. ولعلّ دواوين من مثل "المرثية الوطنية" و"فرائض" و"ثلاث عشرة ضمادة وثماني وأربعون نجمة" وسواها، تمثّل خير تمثيل "الواقع" الذي آل اليه شعر ألبرتي. أصبحت القصيدة هنا سلاحاً أشدّ مضاء من البندقية والسيف: إنها القصيدة التي يرددها الثوار والجمهوريون، القصيدة التي لا تثير حماستهم فقط وإنما تمنح نضالهم معنى إنسانياً وبعداً وجدانياً. وراح ألبرتي في بعض القصائد يشجب الذل الذي خلّفه الحكم الديكتاتوري والملكي في حياة المواطنين داعياً اياهم الى رفضه وتخطّيه والى المقاومة والوحدة. ودعت إحدى قصائده الملتزمة الشعوب والأمم الى التمرد ضدّ الإمبريالية التي تجسّدها نيويورك. وراح يغنّي الأخوّة العالمية مستخدماً إيقاع رقصة "الصون" الذي عرّفه اليه صديقه الشاعر التشيلي بابلو نيرودا. وكانا كلاهما على صداقة حميمة بدأت في المراسلة وانتهت في المنفى الباريسي بعدما توطّدت في مدريد حيث كان نيرودا قنصل بلاده في إسبانيا. وخلال الحرب الأهلية الطويلة راح ألبرتي يرثي المقاتلين الجمهوريين والحمر ورثى كذلك صديقه القتيل لوركا مثلما رثاه معظم شعراء الجيل الواحد وكذلك بابلو نيرودا. وفي قصيدة شهيرة هي "عاصمة المجد" يتغنى ألبرتي ب"مدريد" التي "تحمل في أحشائها بذرة الحياة المقبلة". ويخاطب رفاقه في القصيدة قائلاً "أيتها الأخوة: مدريد بإسمكم تكبر وتستنير".
كانت هذه المرحلة التي يمكن أن تُسمى مرحلة النضال والإلتزام مرحلة مختلفة عن الأولى والثانية مرحلة التحوّل على الرغم من الغنائية العالية التي سطعت عبر قصائد الشاعر المناضل. بدت القصيدة هنا فضفاضة وبسيطة في غنائيتها وحماستها الوجدانية وبدت الموضوعات الشعرية من "أنبل" الموضوعات كما عبّر الشاعر: الحرية، رفض البؤس والجهل، الألم أمام الموت، رفض الطغيان، الحلم، الرجاء، العدالة. لكنّ هذه المرحلة لم تنتهِ إلا في خيبة الثوريين والجمهوريين الذين هزموا أمام "كتائب" الجنرال فرنكو وفي خيبة المنفى الذي انتهى الشاعر فيه.
مرحلة التحول
أمّا مرحلة التحول فهي قد تكون من أهم مراحله شعرياً إذ أنها كانت وسيطة بين نقاء البدايات والجذور وحماسة القصائد الثورية والمناضلة. وهنا بدا الشاعر أشدّ نضجاً وعمقاً وتخييلاً وأشد إغراقاً كذلك في حالاته الداخلية والحلمية. وكان هو "فريسة" نزعتين شبه متناقضتين: النزعة الناجمة عن طغيان الشاعر النهضوي غونغورا عليه وعلى وجدانه الشعري والنزعة السوريالية التي اكتشفها بنفسه أكثر ممّا أخذها عن السورياليين الفرنسيين وثورتهم الحلمية. فهو لم يكن يقرأ الفرنسية ولم يكن السورياليون قد تُرجموا آنذاك الى الإسبانية. ومثلما قرأ غونغورا وتأثر به على طريقته كان ألبرتي سوريالياً على طريقته أيضاً. والمرحلة هذه، مرحلة التحوّل والغموض والغرابة يمكن حصرها زمنياً خلال الأعوام 1927 و1930. ولعلّ ديوانه الغريب "عن الملائكة" يمثل هذه المرحلة على أفضل وجه إذ غدا أشبه بالسفر المضني الى "الذات" التي يصفها الشاعر ب"المغارة المملوءة بالشياطين والأرق الطويل والكوابيس". في تلك الفترة عاش ألبرتي ما يشبه "النوبة" الصوفية غير الدينية فاعتزل المعترك الأدبي وانسحب الى حال من العزلة المشبعة بالحنين الغامض والأحاسيس الكامدة و"الإشراق" والعدم. وقيل عن الديوان هذا انّه "عدمي" وقال أحد النقاد أن قصائده لمست "ذرى الشعر الأعلى". ومَن يقرأ الديوان الآن يدرك فعلاً أنّه حالة خاصة في نتائج ألبرتي حالة هي ثمرة المرحلة التي اجتازها من غير أن يستوعبها كلية. والديوان إذ يتبدّى سماوياً في ظاهره يغدو "أرضياً" في عمقه أو باطنه. فالحاضر هنا ينازع الماضي، حقيقة الروح تنازع حقيقة العالم، الغموض ينازع الوضوح وكذلك الحلمُ الكابوسَ. أما زمن القصائد فهو "عدم العالم" ويظهر الشاعر فيه حاملاً ملاكه الميت يبحث مستميتاً عن فردوسه المفقود. ولا يتوانى عن وصف روحه في كونها "وحيدة / بلا أثاث ولا أسرّة / ومهجورة". ويدرك كلّ الإدراك أنه لم يبق كائناً بل أضحى "ثقباً أسود". ولكن في هذا "النفق" القاتم والضبابي وهو "روح الشاعر" يظهر ملاك الخير أو ملاك الضوء ثمّ تتراءى ملائكة الشر والحرب والغضب... وفي هذه المرحلة يكتب ألبرتي قصائد "غربية" أخرى ضمّهما ديوان "عظات ومنازل" و"متين ومغنّى" وكذلك نصّه الدرامي الرهيب "الرجل الخالي". وفي هذا النصّ السوريالي - الديني بامتياز يخرج ذلك "الرجل" للتوّ من سفر التكوين ليرى أمام عينيه رجالاً ونساء "بلا ذاكرة ولا روح"، بشراً هم "موتى وقوفاً". وهؤلاء "الموتى" يتحدّث الشاعر عنهم في احدى قصائد "عظات ومنازل" قائلاً: "محاط بالموتى، ماذا تراني أنتظر على حافّة فجر غامض؟".
ولئن بدت قصائد المرحلة هذه، مرحلة "النوبة" أو مرحلة "الاحتضار" والعزلة، مرحلة "الأزمة الروحية والداخلية" على قدْر كبير من الغموض و"الهرمسية" فلأنها قصائد الحلم واللاوعي، قصائد الوهم والخوف، قصائد الاختناق والموت. يقول الشاعر: "روحي ما عادت قادرة على تحمّل كلّ هذا العبء". إنّها قصائد المرحلة السوريالية الخاصة جداً المختلطة في جو دني ميتافيزيقي نمّ عنه تأثر ألبرتي بشاعره الإسباني غونغورا. أما المنفى الذي بدأه البرتي في باريس وواصله في الأرجنتين وانتهى به في روما وقارب نحو أربعين عاماً فكانت له قصائده الكثيرة المفعمة بالحنين الى الأرض الأولى وكذلك بالحبّ والحلم، وفي هذه القصائد استعاد الشاعر لغته الإولى ومصطلحاته ولكن استعادة "المعلّم" الماهر في صوغ الصور وبناء التراكيب واحياء اللغة. واستعاد كذلك معظم الأشكال الشعرية الإسبانية والأنواع ليتمكّن من التعبير عن أحوال المنفى ومقامات الشاعر المنفيّ والحالم أبداً بالعودة والمنتظر أبداً سطوع الشمس في بحر قادش.
وإذ بدا ألبرتي شاعراً غزيراً يدفق شعره دفق الماء فهو ظلّ محافظاً على جزالته ومتانته وعلى غنائيته التي كانت قادرة وحدها على انقاذه من أيّ شرك أو منزلق يتهدّدانه. وان مال البعض عن شعره المناضل الذي أصبح من التراث الثوري والملتزم فأنّ معظم شعره استطاع أن يملك سرّ الحياة وأكسير "البقاء". ولعلّ أبرز ما يميّز ألبرتي هو رحابة عالمه وشساعة أجوائه الشعرية وتعدّد أساليبه والأشكال التي اعتمدها. ومن خلالها استطاع أن يصالح بين انتمائه الى عصر النهضة والى القرن العشرين، قرن السينما والسيّارة والطائرة والتراموي وجميعها دخلت شعره في إحدى حقباته لترسيخ حداثته الخاصة جداً. ومَن يكتب عن رافائيل ألبرتي يشعر أنّ الكلام عنه يصعب أن ينتهي: كيف يمكن الكلام أن يحصر شاعراً هو شاعر المراحل، شاعر البحر والشمس، شاعر المنفى بامتياز؟.
مختارات من شعر رفائيل ألبرتي
1 - أغنية رقم 8
جاءني السحاب اليوم
بخارطة اسبانيا طائرة في الهواء
يا له من ظل صغير على النهر،
كبير فوق السهل،
دخلتُ ظلها،
وأنا على صهوة الحصان،
بحثتُ عن قريتي وبيتي،
دخلت البهو الذي
كان يوماً نافورة ومياهاً،
خريراً لا ينقطع،
لكنه توقف،
وعاد ليقدم لي مياها
2 - عندما أغادر روما
عندما أغادر روما
من يتذكرني؟
اسألوا عني القط،
اسألوا الكلب،
والحذاء الممزق.
اسألوا الفانوس التائه،
الحصان النافق،
والنافذة الجريحة!
اسألوا الريح التي تمر،
البوابة المظلمة،
التي لا تؤدي الى أي بيت.
اسألوا الماء الجاري،
الذي يكتب أسمي
تحت الجسر.
عندما أغادر روما اسألوهم عني!
3 - تحولات القرنفل
في سنواتي الأولى
أردت أن أكون فرساً،
بين البحر والنهر.
شواطىء الجذوع كانت ريحاً ومهرات،
أردت أن أكون فرساً.
كانت الذيول المشهرة تكنس النجوم،
أردت أن أكون فرساً،
أماه، أنصتي الى خببي الطويل في الشواطىء،
أردت أن أكون فرساً.
أماه، منذ الغد،
سوف أعيش جوار الماء،
أردت أن أكون فرساً.
سارقة الفجر كانت تنام في العمق،
أردت أن أكون فرساً.
* * *
طلب الفرس شراشف
مضفورة كالأنهار،
شراشف بيضاء.
أريد أن أكون رجلاً لليلة واحدة،
نبهني في الفجر.
لم يعد الفرس الى إسطبله أبداً
* * *
أخطأت الحمامة،
أخطأت.
أرادت الشمال، فاتجهت جنوباً،
اعتقدت أن القمح ماء،
أخطأت.
اعتقدت أن البحر سماء
أن الليل صبح،
أخطأت.
اعتقدت أن النجوم ندى،
ان الحرارة برد،
أخطأت.
اعتقدت أن تنورتك قميصها،
أن قلبك بيتها،
أخطأت.
نامت على الشاطىء،
وأنت في أعلى الفروع
* * *
في الفجر،
أصابت الديك دهشة،
أعاد اليه الفجر،
صوت صبي.
وجد الديك فيه اشارات ذكورة،
أصابت الديك دهشة،
عينان من الحب والمصارعة،
قفز على حديقة البرتقال،
ومن حديقة البرتقال الى أشجار الليمون،
من الليمون الى الساحة،
من الساحة، قفز الى الحجرة،
الديك.
عانقته المرأة النائمة
هناك،
أصابت الديك دهشة.
* * *
رضع الثور،
رضع من حليب الجبلية،
للثور عينا صبية،
ما دمت ثوراً يا بني
والحرارة برداً،
أخطأت.
اعتقدت أن تنورتك قميصها،
أن قلبك بيتها،
أخطأت.
نامت على الشاطىء،
وأنت في أعلى الفروع
* * *
في الفجر،
أصابت الديك دهشة،
أعاد اليه الفجر،
صوت صبي.
وجد الديك فيه اشارات ذكورة،
أصابت الديك دهشة،
عينان من الحب والمصارعة،
قفز إلى حديقة البرتقال،
من حديقة البرتقال الى أشجار الليمون،
من الليمون الى الساحة،
ومن الساحة، قفز الى الحجرة،
الديك.
عانقته المرأة النائمة
هناك،
أصابت الديك دهشة.
* * *
رضع الثور،
رضع من حليب الجبلية،
للثور عينا صبية،
ما دمت ثوراً يا بني
انطحني،
سوف ترى أنني أمتلك ثوراً آخر،
بين أحشائي
تحولت الأم حشائش،
الثور، ثوراً من المياه.
4 - ليلية
خذ،
خذ مفتاح روما،
في روما شارع،
في الشارع بيت،
في البيت حجرة،
في الحجرة سرير،
في السرير امرأة،
امرأة عاشقة.
تأخذ المفتاح،
تغادر السرير،
تغادر البيت،
تصل الى الشارع،
في يدها سيف،
تجري في الليل،
تقتل كل من يمر.
تعود الى شارعها،
تعود الى بيتها،
تصعد الى غرفتها،
تدخل سريرها،
تخفي المفتاح،
تخفي السيف،
تبقى روما
بلا ناس تسير
بلا موتى، بلا ليل،
بلا مفتاح،
ولا امرأة
ترجمة: طلعت شاهين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.