كان لوركا شاعراً أوّلاً وأخيراً: شاعراً في حياته وفي موته المأسويّ، في قصائده الكثيرة وأناشيده، في أعماله المسرحية التي غزت مسارح العالم. شاعر المآسي الصغيرة جعل منه موته رمياً بالرصاص شاعراً مأسوياً بامتياز بل شهيد الشعراء، الشعراء الحالمين والملتزمين الذين يجسّدون آمال شعوبهم في التحرّر من الظلم والأسى والجوع. لكنّ لوركا الشاعر الواقعي والملتزم كان طوال حياته فريسة القلق الوجوديّ، فريسة أمنياته الضائعة ورؤاه التي جعلت منه كائناً رائياً وصوفياً. وإن جمع لوركا في شخصه ونتاجه كلّ مواصفات الشاعر فهو لم يكن متناقضاً في انتماءاته المختلفة. كانت عيناه ترنوان الى السماء فيما قدماه مغروستان في التراب، تراب الواقع والتاريخ. وان كان شاعر الضوء والسكون، شاعر القمر والظلال فهو كان أيضاً شاعر الأرض لا في حدائقها وينابيعها وحقولها فقط وإنّما في مآسيها وويلاتها. فالأرض أضحت في نظره هي "المملكة" الوحيدة التي ينبغي بناؤها. لكنّ لوركا لم يستطع أن يتخلّى عن عينه الرائية حتى في أشدّ فتراته التزاماً ونضالاً. كان لوركا في الحين نفسه شاعر الواقع واللاواقع، شاعر الحقيقة والحلم، شاعر التاريخ والماوراء. كان شاعر الحواس والروح، شاعر الرغبة والحنين، صوفياً ووثنياً، مؤمناً وملحداً. كان أكثر من شاعر كان وأكثر من مناضل: "لست انساناً ولا شاعراً ولا ورقة، لكنني نبض مجروح يسبر الأشياء من الجهة الأخرى" يقول لوركا. غير أنّ بعض النقاد الأسبان يحلو لهم أن يسمّوا لوركا شاعراً "ملعوناً" مرتكزين الى ثلاثة أمور وسمت سيرته: شذوذه الجنسيّ، انتماؤه اليساري الملتبس وموته المأسويّ. وإن كان لوركا شاذاً فهو لم يُعلن شذوذه أبداً بل ظلّ خفراً في نزعته تلك، خجولاً، ولم تحمل قصائده ومسرحياته عموماً أيّ أثر يشهد على شذوذه. ولعلّ مسرحيّته "الجمهور" التي كتبها بين نيويورك وهافانا عام 1930 ولم تطبع في حياته تثير قضية الشذوذ بخفر أيضاً من خلال قصة الحبّ الغامض والمستحيل التي يحياها البطل السلبيّ. وكان لوركا يدرك أنّ المسرحية هذه يصعب أن تخرج الى الضوء في تلك المرحلة الحاسمة من تاريخ اسبانيا تبعاً لجرأة موضوعها. وشكّلت "الجمهور" انقطاعاً عن عالم لوركا المسرحي المتجلّي في أعماله الرائجة. وقيل إنّ ديوانه "الشاعر في نيويورك" ضمّ بعض المقاطع التي تدلّ على مثليته في طريقة رمزيّة. ولعلّ مثلية لوركا وطبعه الشعريّ وشخصيّته قرّبته من الشاعر الفرنسيّ رامبو. فهو حلم مثله ب"شمس موشومة تنزل النهر" ومثله كان رائياً ينظر الى الحالم نظرة طفل عرف معنى الموت والزمن والحياة الغائبة. أمّا التباس الانتماء اليساري فأضفى على شخصية لوركا غنى وأحاط مغامرته الشعرية بهالة من الغموض الجميل. فهو كان يساريّ النزعة من دون أن يلتزم حزبياً وكان كذلك مناضلاً على طريقته، في شعره ومسرحه وفي أفكاره التي دفعته الى اختيار درب المضطهدين. ولم يكن لوركا يتوانى عن هجاء البورجوازية والعسكر والسلطات الأخرى معلناً موقفه المبدئيّ ضدّ صعود الفاشية الاسبانية. وعشية الحرب الأهلية التي اندلعت بين الجمهوريين واليمينيين دعا المثقفين والفنانين الى الغوص في "الوحل" ليساعدوا المواطنين الذين يبحثون عن "الزنبق". كان لوركا يساريّاً في المعنى الإنساني العميق فقد هاله منذ يفاعه "الظلم البشري الرهيب" كما يعبّر وهو تمثل في الجوع والبؤس والمرض وسواها من المآسي. وموقفه السياسي جعله يرتبط بما سمّي "قدر" الشعب الإسباني و"قدر" البشريّة جمعاء. وقد دعا لوركا أيضاً الى ما سمّاه هو "تضامناً روحياً" فغاية الشعر في نظره أن يرسّخ التواصل بين الإنسان والحياة، وبين أبناء الأرض على اختلاف هوياتهم. وفي سنواته الأخيرة تخلّى لوركا بعض التخلّي عن براءته وفطريّته وحلميّته وسعى كما يقول إلى أن يجعل من "حديقة" مراهقته الرومانطيقية "بستان فاكهة" يقبل عليه الجائعون والفقراء. هكذا بدت الأرض هي "المملكة" التي وُعِد الانسان بها وبدا "التواصل" غاية الحياة والهدف الأسمى للشعر والمسرح. ولا غرابة أن يؤثر الشاعر المسرح على الشعر فالمسرح يتيح فرصة اللقاء الحيّ والمباشر مع الجمهور فيما يظل الشعر صنيعاً فرديّاً حتى وان انتشر على أفواه الناس. لم ينفصل التزام لوركا السياسي إذن عن التزامه الجماليّ، ونزعته الإنسانية الرحبة لم تنفصل بدورها عن نزعته الرؤيوية. أمّا واقعيّته فكانت شعرية صرفة، إنّها الواقعية السحريّة المتجلّية في أبعادها الغنائية والماورائية. وإذا كان موت لوركا جزءاً من تلك "اللعنة" التي حلّت عليه فهو سرعان ما تحوّل الى شهادة امتزج فيها الشعر والدم ليكتبا اسطورة شاعر صمد أمام سطوة التاريخ. بل ان موت لوركا جعل منه شخصية مسرحية ومثالاً شعرياً وأضفى على نتاجه ناراً حارقة هي نار الحقيقة الأليمة، نار القدر. كان لوركا يحلم في أن تبقى نافذته مفتوحة عندما يموت. لكنّ حلمه لم يتحقق إذ قُتل عند الفجر قرب نبع يُدعى "نبع الدموع". مات قتلاً في غرناطة وليس على طريق قرطبة كما يبوح في احدى قصائده قائلاً "آهٍ، إنّه الموت الذي ينتظرني على طريق قرطبة". ينتمي لوركا الى الجيل الشعري الاسباني الذي سمّي "جيل 1927" وضمّ شعراء معروفين من أمثال رافاييل البرتي وفيسنّته الكسندري وخورخي غيلان وبيدرو ساليناس وسواهم. لكنّ موته الباكر لم يسمح له في مواصلة مسيرة هذا الجيل علماً أنّه استطاع أن يؤسس عالمه الشعريّ الخاصّ وأن يفرض حضوره كشاعر أصيل ومجدّد، طليعيّ وشعبي. ويقول عنه رفيقه ساليناس: "كنّا نتبعه كلّنا لأنّه كان العيد وكان الفرح". وكان لوركا شاعراً أندلسيّاً بامتياز، أندلسيّاً في شعره وقامته وفي ميله الطاغي الى الموسيقى والغناء. ولعلّ قصائده الأولى هي خير شاهدٍ على أندلسيّته إذ بدت أقرب الى الأغنيات والأناشيد. كان لوركا أيضاً شاعراً حرّاً كلّ الحريّة ولم يلتزم أيّ مدرسة أو مذهب ورفض أن يتبنّى نظرية شعريّة جاهزة. فهو يعيش الشعر كمغامرة مشرعة على الحياة مقدار انفتاحها على اللغة، ويسعى الى التعبير عمّا "لا يُعبّر عنه" من خلال الصوت الشعريّ. فالشاعر الحقيقي في نظره لا يملك سوى صوته: صوته الخاص وصوته البشريّ. يقول لوركا في أحد أحاديثه النادرة: "ليس لديّ أيّ مرجع من المدارس الجمالية ولا تعوزني التسميات كأنْ يقال عنّي أنني تقليدي وكلاسيكي أو عصريّ. أنا شاعر طبيعي". وكان في شعره غنائياً متوهّجاً في غنائيته مجروحاً وصافياً. ولم يخل مسرحه بدوره من الشعر والكثافات الشعرية. إلا أنّ غنائيته لم تحل دون وعيه الفنّ الشعريّ والتقنيات التي يفترضها هذا الصنيع المميّز. فكان واعياً اصول اللعبة الشعرية ومدركاً أسرارها بل كان معلّماً كما يقال، سواء في نسج القصيدة نسجاً ايقاعياً أم في حبك المشاهد ورسم الصور. وقد وظّف ذاكرته الموسيقية والبصرية إذ كان رسّاماً أيضاً في صوغ القصائد الأليفة والعميقة والشديدة الشفافية والعابقة بالألوان والظلال والروائح العطرة روائح الأندلس وألوانها. ولئن اتسمت قصائده بالبساطة والعفوية فهي تخفي وراء بساطتها وعفويّتها الكثير من العمق والمهارة والحذاقة. إنها البساطة الصعبة والممتنعة، تشف وتضيء جاعلة من اللغة مادّة جوهرية نقية كالماء وصافية كشمس غرناطة. أمّا تجربته الشعريّة فيمكن حصرها ضمن أعمال رئيسية وأعمال ثانويّة. وإذا كانت دواوينه الأولى تنتمي الى الأعمال الثانويّة تبعاً لمناخها النضر وعفويّتها وفطريتها ونزعتها الغنائية فأنّ دواوينه التاليه تنتمي الى ذروة نتاجه الشعريّ لما حوت من نضج وصفاء وقوّة. ومن دواوينه الأولى: "انطباعات ومشاهد" 1918، "قصائد" 1921 وسواهما. أما كتبه المهمّة فمنها: "الأناشيد الغجريّة" 1928، "مرثية من أجل اغناثيوسانتشيس مخياس" 1935 و"شاعر في نيويورك" صدر بعد موته في العام 1940. لا شك أنّ ديوان "الأناشيد الغجرية" هو الذي صنع مجد لوركا ورسّخ حضوره لا في اسبانيا فحسب وإنّما في العالم. وقد ترجم الديوان الى لغات عدّة وغدا مرجعاً بارزاً لقراءة لوركا والاطلاع على عالمه الشعريّ. وفي قصائد الديوان تتجلّى الينابيع القروية التي استوحاها لوركا وغرف منها: إنّها أساطير الناس العاديين، الحصّادين والفلاّحين، بل أساطير الغجر أولئك الذين وجد فيهم لوركا أمثلة عن الكائنات التي قاومت اغراءات العصر ولم تتجرّد من البراءة والفطرة. وكان هو على علاقة شديدة بهؤلاء الغجر، شعراء اسبانيا وموسيقييها الأصليين، وكان يشيع بين رفاقه أنّ في عروقه دماً غجرياً. وكم حلا للبعض أن يسمّوه "البلبل الغجري". وفي الديوان تبرز أيضاً طبيعة الأندلس البهية عبر مساكب الياسمين والقرنفل والناردين والريحان وعبر اليمام والخيل وعبر القمر والحدائق والحقول. وطبعاً لم تغب عن الديوان صورة الأندلس البهية كأرض للأديان الثلاثة فإذا الملائكة والقديسون يطوفون في أجواء القصائد العالية كالقباب والرحبة كالردهات القديمة في قصور الأندلس. أمّا قصيدته "المرثية" فهي مرثية حقيقية وقد رثى بها صديقه اغناثيو المصارع الذي غدر به الثور وقتله. وكان لوركا يعشق مصارعة الثيران مثل معظم مواطنيه ويجد فيها اقتراباً حقيقياً من الموت. وقد بنى لوركا مرثيّته بناء رصيناً ومتماسكاً وضمّنها أربع حركات: الأولى تهيء جوّ النزاع المميت، والثانية ترسم سقوط المصارع، والثالثة تعبّر عن الألم الذي حل بعد موت المصارع وتستحيل الرابعة إلى نشيد وفيها يرتفع الانشاد جارفاً كالنهر. وسعى لوركا في هذه القصيدة الطويلة يعتبرها البعض من أهم قصائده الى اعتماد ايقاع الحادثة التي الهمتها: فهو يستهلّها في ايقاع سريع لا يلبث أن يهدأ حتى تأخذ القصيدة وقع المرثية. وفي ديوانه المهمّ الذي سمّاه "الشاعر في نيويورك" يعبّر لوركا عن الصدمة، صدمة "العالم الجديد" التي عاشها خلال زيارة قام بها الى نيويورك في العام 1930. في تلك الزيارة اكتشف لوركا الأندلسيّ الحضارة الحديثة وذهل حيالها وأمام الحياة الآلية والصاخبة. وفي نيويورك استمع لوركا الى موسيقى الجاز وقرأ والت ويتمان وتعرّف الى نواحي أخرى من الحياة والعالم. وتحت وطأة هذا الاكتشاف كتب لوركا قصائده "النيويوركية" ومن أبرزها "نشيد الى والت ويتمان" و"نشيد الى ملك هارلم". وإن ظهرت بعض الملامح الجديدة في قصائد هذا الديوان فأنّ لوركا ظلّ ذلك الاسباني بل ذلك الأندلسيّ ولكن المصدوم طبعاً أمام حضارة العصر الأخرى. وأدرك الشاعر أنّه لم يكن مهيّأ لأن يكتشف نيويورك، تلك المدينة التي من "وحل" كما يعبّر. وكان عليه أن يخاطب والت ويتمان قائلاً: "ما من لحظة أيّها العجوز الجميل، لم أنثنِ عن رؤية لحيتك ملأى بالفراشات". وفي قصائد هذا الديوان لاحت بوضوح آثار السوريالية والمستقبلية. ولوركا أصلاً لم يكن غريباً عن الحركة السوريالية إذ تعرّف اليها من خلال صديقه ورفيقه سلفادور دالي، وكذلك عبر صديقه الآخر لويس بونويل السينمائي المعروف. وقد اقترب لوركا من السوريالية من غير أن يكون سوريالياً وتأثّر ببعض نظرياتها من دون أن يتبنّاها. ولم يتوقّف كثيراً عند عقيدتها بل استعار بعض تقنياتها دامجاً ايّاها في مصهر تجربته الذاتية. إلا أنّ لوركا هو في الختام لوركا نفسه، الشاعر الأندلسيّ بل "آخر الشعراء والمنشدين" كما قال فيه ماتشادو، شاعر غرناطة، شاعر الينابيع والقمر والشمس، شاعر الطبيعة، شاعر الأرض، شاعر الفقراء والمضطهدين، شاعر الماوراء. إنّه كما وصفه دالي "الماسة من نار منكسفة". فالشاعر الذي قال عن نفسه "انني الظلّ الهائل لدموعي" جسّد مأساة الشاعر الذي جاء غريباً الى العالم ورحل عنه غريباً. ومثلما قال أيضاً: "على الشاعر في عصرنا أن يفتح شرايينه أمام الآخرين"، فتح لوركا شرايينه لترتوي الأرض "مملكة" الانسان من دمه وليرتوي الشعر أيضاً من دمه الذي لم يجف.