أ- أليست الحركة هي البرهان على أن الإنسان من أهل البركة؟ وإذا كان الناس قد أدخلوا مفهوم بركة التسخير، فخلطوا بين البركة المرتبطة باستخلاف الإنسان، والبركة المترتبة على الإيمان، فقد أخلوا كرة أخرى أفدح وأخطر، عندما أوهوا ارتباط البركة الإلهية بالحركة الإيمانبة، فأفضى الخلط بين المصطلحات، إلى خلل في سلم القيم، برر الصوفية، فألغى الاختيار، وركز على عالم الغيب، فهمش عالم الشهادة. لأن البركة الإلهية،التي تخرق قانون الطبيعة، وتخرق قانون السببية الاجتماعية، إنما هي شذوذ على القاعدة، واستثناء من القانون لا يقاس عليه. فقد تحصل للبشر من الصالحين، "كرامات" ولكن الإسلام لم يأمر الإنسان بأن يعطل الأسباب، وينتظر الكرامات من رحم الغيب من دون سعي منه، بل إن الذي يدعي الكرامة - من الصالحين -، ليس على الناس تصديق ما ادعاه من الكرامة، ولا الاستدلال بها على أنه من أهل الاستقامة، فضلاً عن التعويل على هذا الأسلوب في معالجة المشكلات، فلو صحت الكرامة، لما كانت دليلاً على أنه وهب الاستقامة، لأن اعتبار الكرامة دليلاً على المعرفة أو الاستقامة، حكم غيبي من العسير الجزم به، إذ يختلط فيه ما يصدر من الكاهن والساحر، وشياطين الجن، بما يصدر من الولي الصالح، أو المصادفات. ولأن التعويل عليه يعطل الأسباب، ويجعل تقدم أهل الإيمان مقصوراً على أمور غيبة، لا يستطيعون ممارسة التكليف الشرعي من خلالها، فيئد إرادة الإنسان وحريته وبصيرته، التي هي مناط التكليف، لأن خوارق العادات التي يجب التصديق بها، إنما هي المعجزات، التي يستدل بها على صدق الأنبياء، وليس بعد الأنبياء من معجزات، ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم. فقد انغلق باب الاحتجاج الشرعي القطعي بالاستثناء الغيبي من عالم الشهادة. والتعويل على البركة والكرامة" من المفاهيم المبتدعة التي ينخر سوسها في كثير من الشرائح الاجتماعية، ليس من الطائفين حول الأضرحة والقبور والمقامات فحسب، ولا من الصوفيين الذين ينادون أسيادهم، راجينهم العون والمدد، بل من عامة الناس أيضاً، ومن الخاصة من أهل الرأي والعلم، الذين يهملون التخطيط الاستراتيجي، ويبررون ذلك بالعلاقة المختلة - في نظرهم - بين البركة والحركة. ب - هل التعويل على بركة اللطف الخفي مشروع؟ ولعل من المناسب التذكير بأن بركة اللطف الإلهي حقيقة شرعية ولكنها أمر خاص بالصفوة الأخيار، فهي مثل اصطفاء الله عباده بزيادة الفضل الموهوب، بنقلهم من الصالحين الذين أرادوا التوفيق وسعوا إليه فبلغوه إلى صف الصفوة، الذين أكرمهم الله بالمزيد، ولا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده. مثل اصطفاء الرسل والأنبياء. والله ينقل غير الصالحين إلى صف الصالحين، فهو متصرف في ملكوته، يختص بمغفرته من يشاء ممن لا يشرك به، كما قال: "إن الله لا يغفر أن بشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء". ولكن من المهم بيان أن هذا أمر خاص بالصفوة التي توافرت فيها شروط الاصطفاء، فهولاء يجُبُّ قانون التكليف العام، الذي يربط بين جهد الإنسان وجزائه، ولا ينبغي للناس أن يتذرعوا به، لتعطيل الأسباب. ولكن الله لا ينقل الصالحين - بإرادتهم وسعيهم - إلى صف الفاسدين، كما توحي لنا الصورة التراثية العباسية، لاحتمالات سوء الخاتمة، لأن سوء الخاتمة لا يكون لمن صلح ظاهره وباطنه، كما ذكر أيوب السختياني، لأن القول بذلك يتنافى مع عدل الله الذي قرر "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى" فضلاً عن كرمه ورحمته. إذاً البركة والكرامة أمران صحيحان، ولكن الكرامة التي يحصل بها خرق الحتمية الطبيعية والسببية الاجتماعية، تتسم بأمرين: الأول: الندرة التي تجعلها شذوذاً عن القاعدة، وكل شيء غير مطرد العلاقة، بين السبب والنتيجة، لا ينبغي أن يعد أساساً يعول عليه في العمل الفردي أو الجماعي، لأنه استثناء من قانون الطبيعة الكونية، والسببية الاجتماعية. الثاني: أن دورها تكليل لعمل الإنسان، ولذلك سميت كرامة، لم تسم جزاءً ولا أجراً ولا ثواباً، وتكريم الله، لا يكون للكسالى ولا للقاعدين، ولا للغافلين عن السنة الطبيعية والاجتماعية، إنما يكون لمن أحسنوا التفكير والتدبير معاً وعملوا وفق السنن. وهذا ما فهمه النبي صلى الله عليه وسلم، من وظيفة الدعاء، فعندما خشي قريشاً، أعد لها الجيش، ولم يقعد في المدينة متترساً، بدعاء ولا قنوت ولا صلاة، إنما قابل الرأي بالرأي والجيش بالجيش، والإرادة بالإرادة، ثم لما برز في الميدان - حانت ساعة الدعاء - دعا ربه وأناب فاستجاب، وأمد المسلمين بالملائكة. وهذا الموقف عند طالوت أيضاً، الذي أعد العدة والعدد لجالوت، وخرج بجنوده، وواجهوا جالوت، "ولما برزوا لجالوت وجنوده، قالوا: ربنا أفرغ علينا صبراً". فالبركة والكرامة لا توهبان، إلا لألى الأيدي والأبصار، الذين يعملون وتتواكب أقوالهم مع أعمالهم، ويصبح طلبهم البركة موقفاً عملياً نفسياً حياً، لا موقفاً قولياً بلاغياً ساكناً. على أن العلاقة بين الدعاء والاستجابة ليست آلية، فكثيراً ما يدعو الصالحون ولا يستجاب لهم، حتى لو استقاموا، ولذلك نبه الله أنبياءه - كمحمد وإبراهيم ونوح عليهم الصلاة والسلام، إلى انه لم يستجب لهم، على رغم مشروعية دعائهم. وبذلك يتبين حصول الكرامة والبركة أو انتظارها، لم يكن - إعفاءً للإنسان من دوره، بل هو تتويج له، يتميز به المؤمن عن الكافر، وهو يزيد المؤمن حرصاً على القيام بالدور، وليس تبريراً للهروب من التبعة والمسؤولية. وعندما نغرق في الدعاء والرجاء عن العمل، ينبغي ألا نتوقع البركة ولا الكرامة، لأن هذا التوقع من الأوهام المرضية التي تتقنع عباءة الإيمان، لأننا بخمولنا وتشاؤمنا وصحراويتنا قد نكون مِمَن استحق الإهانة والمحق، وهذا ما ذكَّر به سفيان الثوري قوماً أمثالنا، يتوقعون البركة دون حركة، فذكرهم أنه لا يتوقع أن تنزل عليهم كرامة ولا بركة، إنما يخشى أن تصيبهم حجارة من السماء، ولم تنزل علينا الحجارة من السماء السابعة، بل سلط الله علينا أهل الحركة الحضارية، بحجارة من سماء العلم التقني الغلاب. أفلا ينبغي لنا ترك التعويل على انتظار البركة الغيبية الاستثنائية، التي أشاعتها الذهنية الصوفية في تراثنا، حتى عطل الناس الأخذ بالأسباب، إلى نطاق البركة المشروعة، في خطاب التكليف، فالاستقامة هي البركة والكرامة، ولقد حاول أحد علماء سلفنا الصالح - في العصر العباسي - لجم الروح الغيبية الصوفية، التي تفك الارتباط بين التبرك والتحرك، فصاغ هذا المبدأ بالعبارة الموحية "الاستقامة أفضل كرامة"، أي أن الاستقامة في العمل، هي الدليل على أن الإنسان من أهل الكرامة. وبمكن بلورة المفهوم الشرعي للبركة بالقول: "إن الحركة المكسوبة هي البرهان على أن المرء من أهل البركة الموهوبة" لكي لا ننخدع بالسذج والدراويش ومدعي الكرامات، وذوي الحماسة والإخلاص، الذين يقدمون لنا الفشل التربوي والشلل الاجتماعي، فوق أطباق من النيات الطيبة. ج - عندما جعلنا الشاذ هو القاعدة: أجل بركة اللطف الخفي مفهوم شرعي صحيح، ولكنه استثنائي خاص، وعندما جعلناه قاعدة لتصرفنا، أورثنا خللاً في الثقافة المجتمعية، حاصله تضعيف ارتباط النتائج بالمقدمات، فصار كل منا لا يحاول إصلاح الخلل، ما دامت أمور زواجنا وعملنا ونجاحنا وإخفاقنا، من باب "القسمة والنصيب"، كالفوز في جوائز اليانصيب. وبذلك يتعايش الإنسان مع نكد العمل أو الزواج، على أنه قدر مكتوب على الجبين، فتقل فينا الحيوية والإنتاج، أو ننحرف ونغوى، ثم نعتبر ما أصابنا حرماناً إلهياً من البركة، وقدراً مقدوراً مهما حاولنا، فلن يوفقنا الله إلى علاجه، من دون أن نحاول معرفة الخلل، فضلاً عن التماس العلاج. وربما اعتبرنا التهميش والنكد في الدنيا، علامة على أننا من أهل الصدارة والسعد في الآخرة، وهكذا تمدنا الذهنية الإسفنجية، بتبريرات متناقضة، فإن كنا أغنياء بررنا ثراءنا وقصورنا وضياعنا ومناصبنا، بأنها من "عاجل بشرى المؤمن"، وإن كنا بائسين بررنا بؤسنا وقهرنا ومرضنا بأن "الدنيا جنة الكافر وسجن المؤمن"، وهكذا نلوي أعناق النصوص الشرعية، لضرب السنن الكونية. د- معنى "الذين اهتدوا زادهم هدى" وننسى أن البركة المشروعة في خطاب التكليف هي الآلية بين السبب والنتيجة وهي مفهوم يعني أن العمل صالح في ميزان الشرع في عالم الدنيا، وعالم الآخرة معاً، حيث تفضي إرادة المؤمن التوفيق الشرعي بالسعي إليه، فيتكلل جهده بالنجاح والتوفيق بإذن الله، فالبركة الإلهية هنا بمعنى فتح المجال أمام الحركة الإنسانية، ليتجسد العمل الصالح إن كان أخروياً خالصاً لوجهه، بنجاح أخروي مطلق، ونجاح دنيوي كبير أو صغير. وهي مسألة آلية. فالله لا يظلم من أحسن عملاً، وهي كخروج الماء من البئر، توفيق الله لمن أراد الماء، ففتل حبال الوصول إليه، وأنزل الدلو والرشاء إلى البئر، كما قررت آية الربط بين الإرادة الإنسانية والتمكين الإلهي، كقوله تعالى: "إن تنصروا الله ينصركم"، ولكن للنصر شروطاً موضوعية، بأن يعرف المرء حجم قدرته، كما يعرف قانون الإمكان والاحتمال، في السنن الطبيعية والاجتماعية، فإن لم يدرك ذلك فلن يحصل على بركة ولا نصر- أيضاً - مهما أكثر الحركة. وهذا الربط بين البركة الإلهية والحركة الإنسانية، ورد في آيات كثر، كقوله تعالى: "والذين اهتدوا زادهم هدى"، فالله يزيد الذين اهتدوا هدى، لأنه ييسر لهم تنفيذ إرادتهم بالاهتداء، فهم يطلبون الهداية، وهو إذاً يهديهم أي يمكنهم من الاهتداء، فهو تكريم لمن طلب الكرامة، بأن يجعل الله الأسباب مفضية إلى النتائج، كما أن الذين يضلون، يزيدهم الله ضلالاً، أي يمهد لهم سبيل تنفيذ إرادتهم، فهم يطلبون الضلال، وهو إذاً يضلهم، أي يمكنهم من الضلال. فهو إهانة لمن طلب الهوان، بأن يجعل الله الأسباب مفضية إلى النتائج. ولكن بما أن الأسباب الاجتماعية والطبيعية، منها ما هو معلوم قد كشفه العلم، وفيها ما هو مجهول لم يكتشفه علم الإنسان، فإننا نتصور أن تلك العلاقة السببية، مجرد ارتباطية واهية، أو مجرد مصادفة لا يقاس عليها، فنتصور أنه من الطبيعي أن نرى إنساناً يدلي في البئر رشاء قوياً فإذا بالرشاء ينقطع، وأن يدلي آخر في البئر رشاء ضعيفاً، فإذا به يمتح الماء متحاً، ومن هذه الحال النادرة، نضع قاعدة عامة راسخة، هي ضعف ترتيب النتائج على المقدمات، ثم نردد مع الشاعرالصوفي: حرى قلم القضاء بما يكون/ فسيان التحرك والسكون أو نردد شعر العفوية والسذاجة: وعلي أن أسعى وليس علي إدراك النجاح وندع النجاح للأمم الحية التي ربت أبناءها، على أن القاعدة الذهبية، هي ارتباط النجاح بالسعي المخطط المدروس. د - لمن تكون بركة القرآن: ومثل ذلك بركة الأشخاص والأشياء والأزمنة والأمكنة" فهي أيضاً من المفاهيم التي أفرغها التأويل التراثي العباسي، من مضمونها الحيوي، في الثقافة المجتمعية إلى مفهوم خامل. كبركة كتب الله المنزلة وأنبيائه، وبعض الأمكنة والأزمنة: كبركة الحرمين والمسجد الأقصى، كرمضان والعشر الأواخر من ذي الحجة، وبركتها نوعان: بركة ذاتية، ولذلك تضاعف عقوبة من انتهك حرمتها، كما قال تعالى: "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم" نذقه من عذاب أليم"، وبركة غيرية متعدية: لا تتحقق إلا لمن اهتدى بها فدلته على الطاعة، أو أشاعت جواً روحانياً ينتشله من ظلمة الفساد، فولدت طاقة الحيوية والنشاط، والعمل الصالح الذي ينتفع به المؤمن، فهي أمكنة وأزمنة مباركة، للذين يريدون الهداية ويسعون إليها، ولكن الذين لا يريدون الهداية، أو يريدونها ولا يسعون إليها، لن يحصلوا على أي بركة، ولو أقاموا بالبيت الحرام ألف عام،ولن يستفيدوا من القرآن" ولو قرأوه ألف مرة، فهذه الأشياء والأشخاص المباركة، كأجهزة الشحن وتوليد الطاقة، بركتها أنها تولد الطاقة وتشحن الوجدان، ولكن نور الكهرباء لن يفيد الأعمى، فهي مباركة بنفسها ولغيرها، ولكن تصل بركتها للآخرين إلا إذا رغبوا وعملوا وأنتجوا. وعلى هذا المعنى ترد بركة القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: "كتاب أنزلناه إليك مبارك، ليدبروا آياته، وليتذكر أولو الألباب". فالبركة معنوية متصلة بالعمل الحسي، وهو التدبر والتذكر والعمل، وهذا المعنى يتكرر في وصف القرآن الكريم: "كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه، واتقوا لعلكم ترحمون" الأنعام: 155، وورد المعنى في وصف البيت الحرام "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة، مباركاً وهدى للعالمين" آل عمران: 96. وهذا ما فهمه السابقون الأولون من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم إحسان الذين أشادوا حضارة الإيمان والعمل الصالح الذين تحلوا بالعقلانية، التي جسدها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، - وكأنه ينبه كثيراً منا نحن الغارقين في الصوفية الجديدة - للمفهوم الشرعي للتبرك بالحجر الأسود "إنني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك". ه - من نتائج فك ارتباط البركة الإلهية بالحركة الإنسانية: لكن الناس بمرور الزمن أخلوا بهذا المفهوم، فدرجوا على فك ارتباط البركة الإلهية بالحركة الانسانية، ولما فك الراكدون المأولون ارتباط البركة الإلهية بالحركة الإنسانية، جرهم هذا الخطأ إلى خطأ آخر، ففكوا بين ارتباط الأجر على القرآن الكريم، العمل بما فيه، فظنوا أن القرآن يقرأ للبركة، أي أن يحصل الإنسان أيضاً على أجر القراءة، ولو لم تشعل وجدانه بالحركة. وهكذا يجر تأويل المفاهيم الإسلامية الناهضة، وهي تصورات، إلى الخلل في القيم الاجتماعية وهي تصرفات، وتتداعى الإخلالات وتتناسل، بعضها يجر إلى بعض، كالخلل في أساس المبنى، يفضي إلى اختلالات عديدة، في السقوف والجدران والمرافق، حتى ينهد الكيان. ثم تستقر هذه المفاهيم التراثية المنطفئة، في الثقافة المجتمعية، فإذا بها تورث الخمول، وتجر إلى تكرار وتراكم الفشل والخسارة، فإذا خسر الناس وفشلوا، لم يحاسبوا أنفسهم، وينقدوا أفكارهم ومناهجهم، بل اعتبروا أن مسألة الفشل والنجاح، مسألة توفيق وبركة إلهية، لا علاقة لها بالحركة الإنسانية، وبذلك يزكي الناس أنفسهم، ويعتبرون أنهم قاموا بما ينبغي عليهم، من دون أن يخضعوا أعمالهم للمحاسبة والتقويم، الناتج من التقييم والوزن. ولذلك ينجرون إلى التقاعس عن الحركة، ما دام قد رسخ في عقولهم أن علاقة المقدمات بالنتائج ليست هي القاعدة والسنة الاجتماعية. فاستقر لدى عديد من الناس، إن لم يكن من حيث الأقوال، فمن حيث الأفعال، بأن البركة الإلهية هي شيء يهبه الله الناس من دون جهد منهم ولا عمل، ولا تخطيط ولا إعداد، وكثر العلماء والوعاظ والخطباء بل والعلماء والفقهاء، الذين لا يربطون بين مفهومي الحركة والبركة. عند ذلك صار التبرك بديلاً من التحرك، أمام الملمات والكوارث الاجتماعية، التي لجهد الإنسان فيها تأثير أو تغيير، أو دفع أو منع، فرأينا الناس يهرعون - كما تروى كتب التاريخ - عند مجيء التتار والصليبيين -، إلى المساجد، يقنتون ويتبركون بقراءة القرآن الكريم، في حالة انكفاء وإحجام، عن حيوية الحركة والثبات. و- تصفية المفاهيم قبل التربية والتعليم: عندما سيطر الهامش على المتن، ثم تحويل مفاهيم الوحيين المنشطة، إلى مفاهيم مثبطة، فدمرت الزراعة والصناعة، والحرف والتجارة، والعدل والعمران، وهلكت عباد، وهزمت جيوش، واستبيحت بلاد، كما انهزم الجيش المصري الذي يحارب في شرق أفريقية، على رغم أن الخديوي جمع علماء الأزهر، وأمرهم بقراءة صحيح البخاري، من أجل الدعاء والتوسل، لكي ينتصر الجيش الذي لم ينتصر: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها / إن السفينة لا تجري على اليبس. ألا يمكن أن نستنتج من ذلك أولية تصحيح المفاهيم والمصطلحات وتحديدها، على تطبيق برامج التربية والتعليم، بإزالة الصدأ الذي ران عليها، من الشروح والتفاسير، والهوامش والحواشي، التي تراكمت عليها، عبر مسيرة التراث. وهل يمكن محاربة العلمنة في عصر العولمة والحفاظ على القيم الدينية، إلا بتفعيل القيم الدينية لكي يمكن إنهاض مجتمعاتنا بالإسلام، ولا يمكن ذلك إلا بعد تخليص الثقافة الموروثة من تلك الشروح والحواشي والهوامش". * كاتب سعودي.