هل الإسلام تقدمي، أي مشروع تنوير وتحرير ونهوض، ولذلك أنشأ الحضارة الإسلامية الأولى؟ كيف صار هذا الأمر اليوم بحاجة إلى برهنة؟ إنحرفت مفاهيم الدين وقيمه عبر العصور، فامتصت أوشاباً من المفاهيم المتناقضة، وإن بقي على شكله الظاهري كما تبقى الاسفنجة على شكلها الظاهري؟ كيف حُرف الإسلام لكي يكون للتخلف ظهيراً عبرالتأويل والتعطيل؟ عند ذلك خبا تنويره، وتحول إلى مهادنة الظلام تارة وإنتاجه تارة أخرى. هل كان الدين مشروعاً للحضارة الإنسانية العالمية، أم مجرد مشروعية لوجود دولة وقانون واستقرار؟ أولم يكن الدين موجوداً حاضراً في الخلافة العثمانية، فلماذا لم تؤسلم به العثمانية الحداثة بدلاً من أن يتعلمن الأتراك والمسلمون؟ وفي محاولة الإجابة نعود إلى التاريخ. ففي الزمن القديم، ارتبطت مشروعية الدولة العربية والإسلامية بالدين كما لاحظ ابن خلدون، ونشطت مذاهب واتجاهات احتضنتها دول ومجتمعات على أساس أن لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم. أو على أساس المقولة السائرة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه "لا بد للناس من حكومة عادلة أو جائرة". واستمرت الدول واستقرت بقدر ما فيها من عدل. وغض الناس الطرف عن جور الدولة خوفاً من البديل الأسوأ، وهو الفوضى السياسية. وكانت الصورة العملية تتراوح بين "حراسة" الدين و"سياسة" الدنيا، على حد مصطلحات الفكر الإسلامي العباسي، عند أمثال الماوردي وأبي يعلى. وهكذا صار الدين محتاجاً إلى حراسة، والذي يحرسه هو الذي يسوس الدنيا، بدلاً من أن يكون هو الحارس والسائس، وأن يكون دور الدولة تنفيذ تعاليمه. وليس هذا مجال مناقشة هذا التصور، ولكن المقصود بيان كيف بدأت ثنائية الدين والدنيا كشيئين متقاطعين أو متقابلين أو متجاورين، أو نظامين للعمل إن لم نقل نظامين للحياة، وإن لم نقل ضدين. وهذه المقابلة بين الدنيا والدين صكت على أساسها مفاهيم وآليات كثيرة، على أن المقابلة نفسها لم ترد في أي نص شرعي قطعي، فالذي ورد في القرآن هو المقابلة بين الدنيا والآخرة في مئات الآيات. لكن الانحراف في المفهوم أنتج ثنائية الحراسة والسياسة، والذي يحرس لا بد أن يقبض أجرة الحراسة. ومن ثم جاءت العلاقة بين خدمة الدين واستخدامه. على أن العلاقة الطبيعية هي أن الدولة هي التي تنفذ الدين. فليس في المفاهيم القرآنية ما يدل على أن الدين يخدم أحداً أو يحتاج إلى خدمة أحد. فالله غني عن العالمين، إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم وإن أساؤوا فعليها. إنهم يخدمون أنفسهم إذن. وعندما استخدم الدين أو جُهل فهمه، كان ما كان في عصورنا القديمة من فتن وتمزيق للسلام الاجتماعي ووأد للحرية وقمع للفكر وفقدان للفعالية الذهنية والحيوية الاجتماعية. وعندما فُهِمَ الدين ساسَ الأمة وحرس الدولة، وكان ما كان من إيمان وعدل وعمران. وظلت العلاقة المختلة مستمرة لأن الأمة لم تتعرض لامتحان جدي خارجي، فلم يتعرض مفهوم العلاقة بين خدمة الدين واستخدامه للتشكيك الجدي إلا أمام التحدي التتري والصليبي. بعد مجيء التتار، أدرك مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون ظواهر كثيرة تتصل بعلاقة الديني بالسياسي، واكتشف مبدأ الحتمية أو السببية الاجتماعية قبل أوغست كنت ومنتسكيو وفيكو. وبيّن أن الظواهر الاجتماعية لا تسير حسب المصادفات ولا حسب رغبات الأفراد، وأن أثر الخلل الاجتماعي أو الاقتصادي قد لا يظهر إلا بعد حين قد يمتد إلى ربع قرن أو نصفه، لكنه أمر محتوم. وربط ربطاً تراتبياً بين دركات سقوط الحضارة، أي الاستبداد فالاحتكار فضعف الفاعلية فدمار الاقتصاد فشيوع الفساد فالخراب، كما في فصل "الظلم مؤذن بخراب العمران"، وقال "إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه. ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عزة للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل للمال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل". لم ترسخ الثقافة الدينية مفاهيم اجتماعية في الفكر الديني كالارتباط بين الاستئثار والظلم، وبين الاستبداد وانهيار الاقتصاد، وبين خراب العمران وانهيارالدين بشكل آلي. أي لم تكن علاقة الجانب العمراني من العبادة بالجانب الروحي منها واضحة ولا عميقة في كتابات دينية كثيرة. وألقى آخرون كلمات لا ترقى إلى خطاب، فضلاً عن نظرية تربط الدين بالعدل. لم تعد القضية قضية حكم جائر يحتمل جوره أو لا يحتمل. الأزمة تجاوزت مشروعية الدولة أو شعبيتها إلى مشروعية تأويل الدين وشعبيته نفسه. فالدولة صارت - بسبب الجور - تتهاوى أمام قوى خارجية غير إسلامية لا أمام قوى محلية إسلامية. اكتشف الكاتب الديني علاقة الاستبداد بتدمير الاقتصاد، ولكنه لم يأخذ مسألة الإصلاح الثقافي مأخذاً جدياً. فما كتب لا يكاد يأخذ جزءاً من مئة جزء من الجهود التي عالجت موضوعات غيبية في علم العقيدة والكلام، مثل القول بعدم خلق القرآن أو بخلقه. ولم تنظر مسألة إنكار المنكر الاجتماعي بأسلوب سلمي، حتى المعتزلة الذي انتسبوا إلى العقلانية شغلهم التأكد من "عدل" الله في السماء عن التأكد من عدل البشر في الأرض. ولم يدرك الكاتب الديني أن المنكر الاجتماعي لا تمكن إزالته إلا عبر ثقافة تكتفي بما أطلعها الله عليه من علم الغيب، وتنشغل بعالم الشهادة الذي استعمرها الله فيه واستخلفها. ولذلك امتلأت الثقافة الإسلامية بتهميش مسألة الاصلاح الاجتماعي، وحصر الدين في الأمور الفردية والشعائر الروحية وكثرة الجدل في الغيبيات. ومن كثرة استقرار هذه القيم في المجتمع، صار الناس لا يدركون ارتباط العدل والإدارة والحضارة بالدين. وظلت "كلمة الحق أمام السلطان الجائر" والعادل مجرد كلمة عابرة تقال، وموقفاً يسجل في كتاب أو ذاكرة مع اطمئنان القائل إلى أنها رفع عتب أو براءة ذمة، بينما هي مفهوم يمكن أن تؤسس عليه نظرية في "الإصلاح المدني" في الإسلام. ولو تحولت هذه الثقافة إلى قيم وأعراف اجتماعية، لجنبت المسلمين كثيراً من الفتن والدماء. صاغ ابن تيمية فكرة سائرة: "إن الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة على الدولة الجائرة ولو كانت مسلمة". ومعنى العبارة ان الله ينصر أهل الكفر العادلين على أهل الإسلام الجائرين. وهذه فكرة بديهية تذكّر بعناوين ابن خلدون الموجزة المعبرة، وقد قال بها آخرون. ولعل صياغة آخر - كالغساني - أدق من صياغة ابن تيمية، ولكن الفكرة ارتبطت بابن تيمية لأنه كان رمزاً من رموز الإصلاح والفكر. ولكنها لم تتحول إلى مفهوم معمق فضلاً عن خطاب أو نظرية، فلم تصل إلى التصور الثقافي الذي يمكن أن يحولها إلى تصرف اجتماعي. ورأي علي بن أبي طالب كان حلاً اضطرارياً في لحظة أزمة اختلال اجتماعي. ورأي ابن تيمية "عبرة" تبرز نتيجة تحول حالة الاضطرار المؤقتة إلى اختيار دائم. فهو يستنطق عبر التاريخ، ويضع الإصبع على مصدر اختلال الحضارة الاسلامية. الحضارة تشيخ لم يستوعب المسلمون الأفكار الاجتماعية عند أمثال ابن خلدون على أن عدداً من قوانين قيام الحضارة وسقوطها يمكن استنباطه من تفسير القرآن ومن عِبر التاريخ لأن الحضارة قد شاخت أو لأن صياغة الأفكار تحتاج إلى خلطة للتقدم يجتمع فيها الحس الاجتماعي بالفهم الديني وفق مزاوجة بين صلاحية الأفكار وصحتها. وجاءت الدولة العثمانية، فكرست العلاقة التقليدية العباسية ايضاً، أي استخدام الدين وخدمته. ولكنها لم تنتبه الى أن ما حفظ دولاً سابقة سيقضي عليها، لأن رياح الأطلسي هبّت عليها بالحداثة، فلم تدرك أن المشروعية الدينية لن تحميها ولن تحمي الأمة إذا كان معنى الدين سكونياً جامداً، وإذا استخدم الدين لتبرير التخلف، وإذا استخدم الدين غطاءً للجور ولقمع كرامة الإنسان. ودرج العثمانيون على استخدام الدين عند الحاجة إليه كتوزيع نسخ من صحيح البخاري على جنود الأسطول المحارب. وقد يكون التوزيع من أجل شحن همم الجنود بأحاديث الجهاد، وقد يكون من أجل التبرك بقراءة الحديث. ولكن النتيجة واحدة، فالبواخر لا تسير ببركة قراءة البخاري ولكنها تسير بحركة البخار، كما أشار معروف الرصافي. والجهاد لا يكون بأدوات متخلفة أمام أدوات متطورة. والحديث الذي في صحيح البخاري لم يفصل بين نواقض الصلاة ونواقض الحضارة. والذين يفصمون البركة عن الحركة لن ينتصروا بقراءة البخاري، ولا حتى بقراءة القرآن. ولن يقبل الله دعاءهم، لأن جهاز إطلاق الدعاء معطوب. وحاول رجال دين إصلاحيون، كالأفغاني والكواكبي، تنبيه الدولة العلية. ولكن سُكر السلطة أعماها، فظنت بأن المشكلة فردية في أمثال هذين المشاغبين. وآخرون كانوا رجال دين عمليين، صاغوا خلطة إصلاحية لمجتمعاتهم في جزيرة العرب والسودان وليبيا، لأنهم أدركوا أن المسألة ليست مسألة نصيحة، لأنهم لن يستطيعوا إقناع من إذا قالوا له: "الرياح قادمة"، قال لهم: "هذا عارض ممطرنا"، إنما هي قضية مشروع عملي، وقضية فهم للدين، وقضية إدراك لعلاقة الخلل السياسي بالخلل الاجتماعي. فإذا كان الباب العالي لا يدرك أهمية التحديق في المستقبل بدلاً من أحلام الماضي، فالنصيحة مضيعة للوقت. يعلل حسين مؤنس مأساة العثمانية بأمرين: الأول "أن سلاطينها لم ينتبهوا... إلى تطور الدنيا من حولهم، وجمدوا عند مفهوم الدنيا كما تصوره سليم الأول، ومفهوم الإدارة كما رسمه سليمان القانوني الثاني أنهم لم يتنازلوا قط عن الشعور بأنهم جنس ممتاز" عالم الإسلام 371. ولعل المشكل الأكبر هو استخدام الدين لتبرير التخلف. مرضت الدولة، ولما مرضت لم ترد من الدين العلاج بل أرادت استخدامه كالعادة لوأد حركات التحرر. فبدأت التبريرات ونشطت التكفيرات. ولكن "الشيك" الديني فقد مصداقيته لأن كثرة تجييره أفقدته وظيفته. فشيخ الإسلام قد يبرر الجور والتخلف والكذب للباب العالي عبر تأويل الدين مرة أو بضع مرات، ولكن إذا استمر في التبرير لم يصدقه أحد. مرض "الديني" و"السياسي" في الخلافة العثمانية فتبادلا العدوى. ومنذ ذلك اليوم ظن ناس كثر بالدين ظن السوء، وبحثوا عن مرجعيات أخرى للنهضة كالقومية والعلمانية والاشتراكية والوطنية. بعض دعاة الأسلمة ارتكبوا أخطاء فظيعة ناتجة عن خلل في فهمهم للمنهج النقدي في الإسلام مستل من الأدبيات الدينية العباسية، وتحليلهم للسقوط العثماني، أحد تجليات تلك الثقافة، فنشط منتسبون الى الدين يدافعون عن عبدالحميد وأمثاله ويبيضون ما اسود من الثياب. وينسبون نجاح الكمالية إلى التآمر اليهودي والماسوني والأوروبي، وينسون أن ارتباط مفهوم الدين بالتخلف هو الذي كوّن فكر الكماليين، كما أنه هو الذي دفع أمثال ساطع الحصري للبحث عن البديل. وكأنه مطلوب من اليهود والماسونيين والغربيين أن يعالجوا الرجل المريض، مع أن الأوروبيين لا يحتاجون إلى ذكاء لكي يدركوا أن دورهم الطبيعي هو نقر جرحه و"نكؤه" حتى يموت. كانت الدولة العثمانية تملك آلة إعلامية ضخمة، ولكنها لا تملك آذاناً لتسمع وإنما تملك ألسنة تتكلم وسواعد تبطش كالفيل الأعمى الذي يتخبط ويدوس الحشرات. ولذلك لم تدرك كيف تتجدد وتنشط. ولم تدرك أن الحركات والثورات المحلية ناتجة عن نظرية دوران الأرض التي أثبتها العلم الحديث. ولما كانت تؤمن بأن الأرض ثابتة مسطحة، لم تدرك أيضاً أن الحقيقة الوحيدة التي لا تتغير هي أن كل شيء اجتماعي يتغير، فلم تتجاوب مع حركة دوران الأرض إلا قسراً وبعد فوات الأوان... وعندها كرت مسبحة السقوط. العقلية المتصلبة هي التي أنهت العثمانية، فالحرب العالمية لم تقض على إمبراطور اليابان الذي انبعث كطيور الفينيق من الرماد، لأنه لم يصب بتصلب الشرايين. ولم يدرك العثمانيون لماذا تحول الناس إلى أتاتورك وتركوهم على رغم الأدلة الدينية التي يثبتون بها كفر خصومهم؟ لأن الدين أُوّل فانفصل عن العدل والتقدم، والتأويل لن يمحو القانون الاجتماعي "العدل أساس الملك"، والناس لا يمكن أن تقبل القهر والفقر والاستعباد، ولا أن تقبل تأجيل الكرامة إلى الدار الآخرة. لم يفطن مثقفو الدين إلى ضرورة فك الارتباط بالحصان الخاسر، ولذلك سقط النموذج "الديني" والنموذج "السياسي" العثماني معاً، متعانقين في هاوية واحدة. وهذا أفضى إلى موت الدولة، ولكنه لم يعن موت الأمة لأن الأمة بحثت عن الخلاص. ولكنه أفضى إلى موت مؤقت للدين، إذ كان الدين بطبيعته تقدمياً، فسرعان ما أدرك الناس أن الدين ليس اسفنجياً يتشكل حجمه ووزنه حسب النتوءات والتجاويف العثمانية. الدين إذن ليس ظلامياً، بل هو تنوير وتحرير هذه هي مفاهيمه في السنة والكتاب. أما كيف يفهمها الناس أو كيف يطبقونها، فهذه مسألة فهم صحيح أو غير صحيح، ومسألة غرض شريف أو دنيء. فهي إذن مسألة تفسير أو تأويل. وهناك أمران لعل من المناسب ذكرهما كي لا نحمّل "العثمانية" أوزار غيرها: الأول: ليس من الإنصاف أن نحمّل الدولة العثمانية كل فاتورة سقوط الأمة، وانقلاب الأمة على الدين في فترة من فترات الهياج. فسقوط قيمة الدين حاصل تراكمي بدأ منذ العصور القديمة، وله علاقة بالثقافة والقيم التي بدأت تتشكل منذ أواخر عصر الراشدين، ملتفة على الثقافة والقيم الإسلامية "الصافية" التي حرص عليها النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم. في تحليلنا للمجتمع قد نركّز على دور الأفراد، فننجر إلى شخصنة ما هو موضوعي وخصخصة ما هو أمر عام. والأفراد مهما كان لهم من أدوار لا يستطيعون الانفلات من حقل الحركة الاجتماعية المغناطيسي. الدولة ليست هي المسؤولة وحدها عن الصعود أو الهبوط، فالعلاقة بين الدولة والأمة ليست علاقة القلب بالأعضاء، إن صلحت الدولة صلحت الأمة. العلاقة ليست آلية من أعلى إلى أسفل ولا آلية من أسفل إلى أعلى، على الأقل في الزمن القديم قبل شمولية الدولة ووسائل الاتصال الحديثة. إذن فلا يعقل أن يكون المجتمع صالحاً، ولكن الدولة هي الفاسدة. هذه مفاهيم غير مسلم بها. العلاقة بين الأمة والدولة "تبادلية" على المدى الطويل، أي أن الدولة عندما تهمش المجتمع في البداية تقتل نفسها هي في النهاية، والمجتمع عندما يتقبل التهميش في البداية يُهلك نفسه هو والدولة في النهاية بالفتن الداخلية أو بقابلية الاحتلال الخارجي. أي أنهما يتبادلان الإضعاف إذا غفل كل منهما عن دوره، فيضعفان معاً، ويتبادلان التقوية إذا قام كل منهما بدوره فيقويان معاً. فلكل دور لا يكتمل إلا بدور الآخر. هذه هي العبرة التي يمكن أن نحصل عليها من قراءة التاريخ، ونجدها أيضاً في درس القرآن الكريم في قوله تعالى عن فرعون "فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين". أي أن "الاستلاب" و"الانسلاب" عمليتان متبادلتان. ليست المشكلة في "طبائع الاستبداد" والاستلاب فحسب، فهذه لا تصبح طباعاً إلا إذا جاوبتها طبائع الانسلاب أو "قابلية الاستعباد" أو "الامتثالية". بين الاستلاب والانسلاب علاقة تبادلية، ولذلك حكم الله على قوم فرعون بالفسق، ولم يقل إنهم ضحايا ولا مظلومون ولا مساكين ولا أبرياء. فبدأ الحكم بتجريم فرعون، وختم الحكم بإدانتهم. الأمر الثاني: أن احتمال أن يكون في الدولة العثمانية من يدركون أهمية الإصلاح وارد، ولكنهم ربما خشوا من أن الإصلاح القفزي قد يفضي بالدولة إلى السقوط، فرأوا أن الإصلاح المأمون إنما هو تدريجي. ولكن الدولة العثمانية كانت بحاجة إلى إصلاح جذري، ولو لم يكن قفزياً، وهذا الأمر محتاج إلى رجال ذوي استنارة وقرون استشعار للمستقبل وإحساس عميق بالمسؤولية يفرز التضحية والجسارة من أجل النجاة بالسفينة. ولو كان في مراكز القوى أناس من هذا الطراز لما حدثت أعظم كارثة على المسلمين. "العثمانية" أحسنت إلى الأمة في بداياتها وليس هذا مجال وزن بل مجال اعتبار. وكل تجربة بشرية تحسن لا تخلو من أخطاء صغيرة في المفهوم أو المنهج تكبر عبر الزمن حتى تؤدي إلى أخطاء فظيعة قاتلة. لم تُهلك العقلية "العثمانية" الأتراك وحدهم بل أهلكت العرب معها، ووصلت تداعيات ذلك إلى المسلمين في كل مكان حتى الهند. ولا زالت تداعياتها بعد حوالى قرن من سقوطها. وكل تجربة إسلامية تمت في أي مكان وزمان ليست لها صفة نموذجية معيارية، ما عدا تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم والراشدين. لأن هذه التجارب خلطات علاجية ذات عناصر أساسية هي المواد الغذائية من الإسلام، وذات عناصر ثانوية هي العلاجات التي تناسب أمراضاً في بيئة أو تتكيف مع قابلية جسد. والدولة العثمانية خلطة إسلامية تركية وليست هي الإسلام، بل كانت هي نفسها نموذجاً تأويلياً للإسلام. ولذلك نال الدين بسببها آخر الأمر أعنف الآثار. وكل النزعات التي تنكرت للدين كانت أمامها صورة "الديني" / "السياسي" العثماني. واختُرِقت بسببها شخصية الأمة، وعثا فيها المستعمرون الأطلسيون حتى مرغوها في الرغام، وأُبعد الدين عن الحياة. ولعل لهذه الإطالة ما يشفع لها عند القارئ، لأن المقصود منها أن يفصل الذهن التطبيق الديني في نموذجه الأدنى الأموي أو العباسي أو العثماني عن صورة الديني في نموذجه الأعلى الراشدي، ولكي يكون ذلك معيناً في إدراك نظام "الدين الاسلامي" وبنيته الحية في القرآن والسنة. ولعل أنسب باب يمكن الدخول منه إلى فهم المشروع الإسلامي أو إقناع الناس به أيضاً هو ترك التخندق للدفاع عن شخصيات ومواقف غابرة، والاكتفاء بمفاهيم الكتاب والسنة وتطبيقات الراشدين والصحابة "السابقين"، والشروع ببناء جديد للمفاهيم الإسلامية يستنبطه المثقف الديني اليوم من الكتاب والسنة، ثم - إن ملك وقتاً - يصفي خلايا التراث في مصفاة الوحيين، فيستثمر حيها ويستبعد مواتها. * أكاديمي سعودي.