أتقن المسلمون الأولون فن النجاح، لأنهم ربطوا الوسائل بالمقاصد، فاستطاعوا إشادة أبراج حضارة سامقة، نشرت أعلامها في الخافقين، واستظلت بأورقتها الوارفة، أمم وشعوب شتى. هذا النجاح الحضاري الباهر، لم يعتمد على القصد الحسن المجرد، ولا على الشجاعة المجردة، بل اعتمد على حسن التفكير والتدبير معاً، أي حسن النية والعمل معاً، ولم يتحقق ذلك لهم من باب المصادفات السانحة، ولا من باب الإلهام الخارج عن إرادة الانسان وكسبه، ولا بنظام الكرامة الغيبي المجرد، الذي لا يربط بين الحركة والتفكير، أو الذي لا يضع النتيجة في الحسبان. بداية السقوط ثم خلف من بعدهم خلف كثير، أهملوا تطبيق علم النجاح، فجعلوا النية وحدها معيار العمل، واستدعوا النص، لكي يبرر هذا الفصل الرهيب، وأولوه تأويلاً بعيداً، أسس للقطيعة بين الإرادة والعمل، وأباح الفصل بين السعي والنتيجة، وصاغ أحد الشعراء هذا المبدأ فقال: وعلي أن أسعى ولي س علي إدراك النجاح ثم دخلوا إلى القرآن الكريم وقصص الأنبياء، فأولوها التأويل السلبي، الذي يعفيهم من إتقان فن الفلاحة، وزعموا أن على الفلاح أن يزرع، وليس عليه أن يتحرى حتى يثمر الزرع. وجاؤوا إلى قصة نوح عليه السلام وأمثالها، فاستنبطوا منها سنداً وتبريراً، للفصل بين السعي والجدوى، حين مكث حوالي ألف سنة، ولم تهد دعوته نفراً كثيراً، ولم تجتذب فرداً واحداً كل سنة، وذكروا أنبياء من بني إسرائيل، وذكروا صالحاً وشعيباً وهوداً، وكيف دعوا من دون جدوى، توازي الجهود المبذولة، وذكروا نماذج أخرى، حين "يأتي النبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد"، من الأتباع يوم القيامة، كما في الحديث الشريف. بيد أنهم خلطوا بين أمرين: فالاقتداء بالأنبياء في الإيمان والأخلاق واجب، لا يجوز فيه الخلاف، أما الاقتداء بهم في وسائل الإصلاح وأساليبه، فهو اجتهادي يخضع لشروط الحقل الاجتماعي. لأن القياس على الأنبياء الملهمين، في ترك ربط السعي بالجدوى، وترك الموازنة بين الثمن والسلعة وهم شائع. يقع فيه كثير من كتاب السير والدعاة، حين يستنتجون أن مهمة الناصح والداعية، إنما هي محصورة بالبلاغ، وليست مسؤولة عن حسبان النجاح. لكنَّ القياس على الأنبياء في ترك الربط بين النظرية والتطبيق" خلل في منهج الإصلاح الاجتماعي خطير، لأن الأنبياء لا يمارسون اجتهاداً بشرياً مجرداً، فهم يعتمدون على الوحي، فالله أمر نوحاً بالبلاغ، ثم أوحى إليه بصناعة السفينة، ثم أوحى إليه بامتطائها، فالقضية استثنائية إذن، لا تندرج في سياق السلوك البشري العادي، إن هي "إلا وحي يوحىَ". والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، لم يجتهد في الأمور الأساسية، أي اجتهاد بشري يوكل فيه إلى نفسه، أو يقر فيه على الرؤية البشرية المحدودة. فقد نبئ بوحي، وأنذر الأقربين بوحي، وأنذر الأبعدين بوحي، وهاجر بوحي، وسالم وقاتل بوحي، والنبي الذي ينفذ الوحي، ليس مسؤولاً عن النجاح، لأن دوره محصور بتبليغ الوحي، وليس له أن يجتهد خارج الوحي، وليس من الضروري أن يرتبط التبلغ بالنجاح العملي، فالله الذي أرسله، أرسله بوظيفة تبليغ النص وهي محددة.، كما قال تعالى: "ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين". ولذلك فإن الله لا يقره على الخطأ في أسلوب الدعوة، كما لا يقره على الخطأ في مضمون الدعوة نفسها، بل يصحح له الأسلوب والمضمون معاً. أما غير الأنبياء فقد استبان لهم مضمون الدعوة، وعليهم تبليغها، بالأسلوب الذي يناسب البيئات، التي يعيشون فيها. ولذلك صاروا مطالبين بتحري النجاح، وإحكام التفكير والتدبير معاً. فالقياس إذن على منهج الأنبياء، في هذه المسألة غلط شائع، وهذه ملاحظة مهمة، في فقه سير الأنبياء، والغفلة عنها تضيع كثيراً من طاقات المصلحين، والدعاة والوعاظ والمرشدين. بل إن بعض الناس في أحيان كثيرة يركزون على فكرة البلاغ، المجرد من اللباقة والكياسة، بل إن بعضهم يعتبرون ترك اللباقة، من الصدع بالحق، من دون إدراك علاقة الصدع بإقامة الحجة، وعلاقة إقامة الحجة، بموافقة الكلام مقتضى الحال، كما بيّن الحق تبارك وتعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن". ثلاث وسائل للبلاغ الشرعي: مخاطبة العقول بالحقائق الموضوعية، وذلك هو الإقناع بالحكمة، ومخاطبة العواطف بالأسلوب الخطابي الوجداني، وتلك هي الموعظة الحسنة، وجدال المخالفين بالبرهان، وذلك هو الجدال بالتي هي أحسن. وهناك غفلة عن فهم طبيعة النفوس، تعيق مسيرة النصح والوعظ، إذ إن بعض الناس، يتصور أن الشخص إذا ذكر، فإن المتوقع أن يستجيب فوراً للتذكرة، فيغفل عن معنى قوله تعالى: "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين". فالذكرى تنفع الذي لديه استعداد نفسي للقبول، لكن الذي لا يؤمن بفكرة أو قيمة من القيم، يحتاج إلى تكرار التذكير، فليست المسألة جهلاً يعالج بالعلم، لأن رحلة التغيير النفسي، تبدأ بالإدراك العقلي، ثم تنتقل من الإدراك إلى الوجدان، فإذا سرت في الوجدان كتيار الكهرباء، انتقلت حينئذ إلى الحراك والسلوك. وكما أولوا قصص الأنبياء، أولوا القرآن والأحاديث، كحديث "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، ذلك الحديث الذي نصبوه لافتة لتبرير الخطأ في الحساب، والتنصل من تبعة الخسارة. فضربوا المفهوم الواضح بالتأويل، عند ذلك ضربوا مفاهيم الشريعة وروحها بنصوصها. والشريعة تقرر بصورة لا تقبل التأويل، بأن الأعمال المقبولة في الدار الآخرة، هي ذات النيات المخلصة، إذا كانت الأعمال صالحة، أما الأعمال الناجحة في الدنيا، فهي مقرونة بالأخذ بأسباب الصعود إلى مراقي النجاح، بصرف النظر عن فساد النيات وصلاحها، فلا أثر لصلاح النية أو فسادها، في العمل الدنيوي وهناك مفاهيم كثيرة في الثقافة الشعبية، تتجاهل هذه الحقيقة الاجتماعية. والإسلام يقرر بصورة لا غشاوة فيها، أن عمل المؤمن خير من نيته، ولكن الناس قالوا "نية المؤمن خير من نيته" واستدلوا بحديث ضعيف، والأحاديث الضعاف، لا يجوز الاحتجاج بها، لا في حث على فضائل، ولا في تحذير من رذائل، كما أشار ابن تيمية، فضلاً عن تشريع مفاهيم أساسية، ولكن عدداً من أهل العلم، إذا ناسبهم معنى حديث موضوع أو حديث ضعيف، قالوا: "وهو صحيح المعنى". وبذلك صار الناس يشرعون ما ليس بشرع، على حد وصف ابن حجر، في غير هذا السياق. بل ويقفزون فوق حقائق علم الاجتماع أو النفس أو التربية، ويستدلون بحديث ضعيف، أو يؤولون الصحيح، أو يحتجون بقول لأحد الصالحين. لكن عمل المؤمن خير من نيته، ولا سيما في المجال الاجتماعي، خلافاً للحديث الضعيف "نية المؤمن خير من عمله" الذي نصبوه متكئاً للإخفاق والفشل. ومن الاستنباط الذي يدل على الغفلة، عن سنن الله في الشريعة والطبيعة، أن يقال: إن الداعية الفلاني، إنما بارك الله في جهوده، بسبب صلاح نيته، ولذلك انتفع به خلق كثير. ترى ألم يكن صالح النية" ذلك النبي الذي لم يهتد بدعوته إلا الرجل والرجلان، أو الذي لم يهتد به أحد؟ أم أن الله لم يبارك له؟، وهل ماركس ونحوه من دعاة الأيديولوجيات الوصفية، كانوا من ذوي الطويات الدينية الطيبة؟ ولذلك انتشرت مذاهبهم اللائكية أو الشيوعية. ولعله يتبين من خلال ما مر، أن وظيفة الأنبياء الملهمين، تختلف عن وظيفة الدعاة والمصلحين، فمهمة الأنبياء وضع المنهج، بتبليغ كلام الله بحروفه ومعانيه كالقرآن، أو بمعانيه المؤداة بعبارات بشرية كالحديث. هذا هو المخطط الإلهي. وتحويل هذا المخطط إلى ثقافة شائعة، تمهد لبناء اجتماعي راشد، إنما هو مهمة البشر العاديين، الذين عليهم المقاربة بين الواقع والنموذج، والربط بين السبب والنتيجة، وعلى جهودهم ومهارتهم الاجتماعية" يمكن تحويل الشعلة الحرارية، إلى طاقة عملية، تحقق سعادتي الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى "من عمل عملاً صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم، بأحسن ما كانوا يعملون"، "ومن أصدق من الله قيلا"، في تأكيد العلاقة الوثقى، بين طيب الحياة الدنيا، وسعادة الحياة الأخرى. ورث المسلمون العرب، جملة من المفاهيم والقيم، التي تؤصل الإهمال والتسيب، ولا تهتم بالبرمجة والتخطيط، ولا بدراسة سبل النجاح، والقدرة على اكتشاف مواطن الخطأ والعجز، مغفلين أن ترتب النتائج على المقدمات، ليس مناقضاً للإيمان بالقدر، بل هو مقتضى الإيمان بالقدر، لأن الله تبارك وتعالى، هو الذي حكم بقانون السببية في الحياة الاجتماعية، وجعل وظيفة الإنسان في الأرض، قائمة على تعاطي الأسباب، ومغالبة التحديات، ولولا ذلك لبطل التكليف. إن عبارة "ليس علينا إدراك النتائج" تبلور مفهوماً خطيراً" من مفاهيم السقوط. كما يشير عماد الدين خليل، لأن هذا المبدأ يفقد الناس الروح العملية، سواءً في الاجتهاد من أجل اتخاذ القرار الصائب، أم في محاسبة النفس عند الفشل وهذه "قضية خطيرة، تزري بالعقل المسلم، وتتعارض مع سنن الله في الحياة..." تشكيل العقل المسلم 20-23. إن شيوع مثل هذه المفاهيم، وصياغة تأصيل ديني لها، هو من أخطر الأمور، لأنه يعفي المهمل من المسؤولية، عندما يخفق، كما أنه يجعل النجاح مصادفة، لا صلة له بالجهد، كما أنه يفضي إلى القاء الفرد التبعة على الأخرين، وهذا الخلل في إدراك العلاقة بين المقدمة والنتيجة، يفضي إلى صك قيمة أخرى من قيم التخلف، هي تبرئة الذات من تبعة الخسارة، أي أن الإنسان لم يقصر إنما قصر الآخرون، وأنه هو الذي أصاب، حتى ولو لم ينجح. بل إن الإنسان حين يستبد به الإخفاق، ينظر إلى فشل النتيجة الاجتماعية، على أنه علامة على أن اقتراب أشراط الساعة، حيث يشيع الفساد والاختلال، ويصبح القلق الإصلاحي، لا محل له من الإعراب، لأن الجهد الإصلاحي غير ذي جدوى، وهكذا فإن مفاهيم التخلف سلالات، تتوالد وتتناسل، على شكل منظومات، يفضي بعضها إلى بعض، وتنتقل من عالم الإدراك الذهني، إلى عالم الحراك الاجتماعي. النيّة والنتيجة وترك الربط بين النية والنتيجة، أودى بجهود إصلاحية جليلة، وأضاع كثيراً من الطاقات، فكم من مريد للخير لم يصبه، نجد أبرز نموذج لهذا الاختلال، في الفرق والتيارات الدينية والسياسية، التي آثرت نهج الخوارج، إما في غلو الفكر وتكفير المسلمين، وإقصاء الآخر وقمعه، أو في الجهل بالسنن الاجتماعية للإصلاح، وبهذا أو ذاك أو بهما معا انسكبت دماء المسلمين، واختل الأمن الاجتماعي، وشاعت بين المسلمين روح الفردية والشقاق، ونماذجها اليوم كثيرة، أين التفت يمنة ويسرة. كم من مجاهد يسعى إلى الشهادة، وقد جعل الاستشهاد غاية جهاده من دون أن يدرك أن فضل الجهاد مرتبط بالجدوى، وأن الشهادة وسيلة، فإذا كانت النتائج أصفاراً، فهذا انتحار مجاني، لأن الجهاد المشروع هو الذين يدرك أبعاد الأحداث، بمنظار عملي واقعي، من دون خطأ منهجي، لأن الخطأ المنهجي في العمل الجماعي، لا ينال صاحبه أجر جهاد ولا اجتهاد، لأنه يؤدي إلى الكوارث والفواجع. وهذا المعنى واضح من استنباط الآية الكريمة، التي تقرر أن ما ينفع الناس، هو الجدير بالبقاء، وأن مالا ينفع الناس إنما هو غثاء: "أنزل من السماء ماء، فسالت أودية بقدرها، فاحتمل السيل زبداً رابيا، ومن ما يوقدون عليه في النار، ابتغاء حلية أو متاع زَبَدٌ مثلُه. كذلك يضرب الله الحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض" الرعد: 17. فما دام الحق هو الذي يمكث في الأرض، فمعنى ذلك أنه هو الذي يبقى، وهو لا يبقى، كما يشهد التاريخ، بمجرد صحة الأفكار، من دون صلاحيتها. وهذا يعني إدانة الجهود التي نقفز فوق الواقع الاجتماعي، ولا تسير في سنن التغيير، التي قدرها الله. أي أن التدرج مع السنن الاجتماعية هو الحق، وأن القفز فوقها هو الباطل، وهذا يشير إلى أن قضية صلاحية الأفكار للمسرح الاجتماعي، ليست خارج النص المنزل، بل إن مسرحة النص اجتماعيا حق، كما أن النص حق، كما أن النص المسرحي، لا يظهر إبداعه إلا على خشبة المسرح. وكما أن دور المخرج لا يمكن إغفاله، كذلك أيضاً دور العامل في الميدان الاجتماعي والتربوي. وعند العجز عن ابتكار الوسائل، تكثر التضحيات وتقل النتائج، ويتحدثون في كثير من التراجم والقصص والأخبار، عن فضل الصبر والثبات، وينسون فضل العائد والجدوى، ولا يربطون حركة الصبر بحركة العبور، ويتحدثون كثيرا عن النيات الحسنة، ولايربطونها بالنتائج الحسنة. يقتل الأفغاني أخاه، ويعتبر عمله من النفرة في سبيل الله، فتحدث الفتنة العمياء، التي لا يدرى فيها قاتل لِمَ عدا، ولا مقتولٌ لم انقتل. وينكر آخر بعض المنكرات، فيجلب إنكاره على الأمة فظائع جديدة، وهو مطمئن إلى أنه نجا، وإن لم ينجح، وهو بذلك يؤكد الحكمة القديمة: "كم من مريد للخير لم يصبه"، ويؤكد ما يقال عن الصديق الغافل - ولا نقول الأحمق - الذي يريد أن ينفعك فيضرك: لا يكفي أن تكون المبادئ صحيحة، بل لا بد من أن تنفذ بوسائل صحيحة، كي لا تكون النيات في جهة، والنتائج في الجهة المقابلة، على حد قول الشاعر : سارت مغربة وسرت مشرقا شتان بين مشرق ومغرب فإذا أخفقت الجهود الضخمة، عن صد الهيمنة الحضارية الأجنبية، أسلم المرء عينه للنوم العميق، وقال: حصلت بنيتي على أجر الاجتهاد والجهاد، وإن لم أحصل على أجر النجاح والإتقان. يقدم كل من القومي والاشتراكي، والليبرالي أفكاراً عملية، وبرامج وآليات، في مجال التحديث والتنمية، تستجيب لشروط الواقع، فتؤدي إلى نجاح اجتماعي ما، ويدرك كل منهم، أن ما لا يدرك كله لا يترك كله. وكثير من الإسلاميين قابع في قبوه، ينادي بالإصلاح الشامل، أو يريد إعادة تاريخ غابر، من دون أن يلاحظ أن التاريخ لا يمكن تكراره، أو ويقفز فوق السنن الاجتماعية، فتدق رقبة مشروعه، فلا هو سلم ولا مشروعة غنم، ولا هو استوعب التجربة، ولا هو أدرك أن التعامل التربوي مع الواقع، ليس من الوقوعية في الواقع، ولكنه يعنى أن النهوض يبدأ من استيعاب الواقع، واستثمار الظروف والفرص، وربط العواطف والنيات، والحماسة والشجاعة" بعلم الجدوى والمحاسبة "والتقييم والمرجعة والتقويم: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني * أكاديمي سعودي.