مفهوم الصلاح أخروي أم دنيوي أيضاً؟ لكلمة الصلاح في القرآن والسنّة مفهوم مركزي محوري كلي، هو الصلاح الروحي المادي معاً، عندما يرتبط بالنجاح الدنيوي والأخروي معاً، كما في قوله تعالى: "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى، فنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون". النحل:16. وهذا المعنى واضح في قوله تعالى: "لقد وعد الله الذين أمنوا منكم وعملوا الصالحات، ليستخلفنهم في الأرض، كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً". وتمكين المسلمين في الأرض، لا يكون بفك ارتباط المصنع والمزرعة والمدرسة والتجارة بالمسجد، اذ لا يتم الايمان والعمل الصالح بتهميش العلم والعدل والعمران، أي ما تستلزمه اقامة الحضارة من عدل الادارة وحسن العمارة أي التنمية. ويتكون الصلاح من شقين، لا تتم الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة معاً على المستوى الاجتماعي، من دون تشابكهما: شق معنوي روحي خاص بنا نحن المسلمين، وهو صلاح السيرة والسريرة، صلاح العقيدة والأعمال الروحية، التي يمتاز بها المؤمنون من غيرهم، وهو المقصود في كثير من الآيات التي تتحدث عن الأنبياء والصالحين، وقد تكرر ذكره في القرآن والسنّة كثيراً، لأن الاسلام جاء ليرسخ الأمور التي يمتاز بها المؤمنون عن غيرهم. ولكن لا يمكن تحقيق الشق الخاص بالمسلمين إلا بتحقيق الصلاح العمراني، الذي لا بد منه لإقامة أي مجتمع قوي، مسلماً أو غير مسلم. الصلاح العمراني، هو الذي يركز على الجانب المدني من الحضارة، أي عدل الادارة وحسن العمارة، التي لا بد منها لتحقيق "التمكين" في الأرض ووراثتها. وقد أشار اليه القرآن في قوله تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" الأنبياء 105 فالأرض هنا - خلافاً لما قرره غالب المفسرين - ليست الجنة، والصالحون هنا ليسوا الصالحين بالمعنى الروحي، بل الصالحون بالمعنى المدني، أي هم القادرون على اقامة المجتمع المدني، أي هم الصالحون لعمارة الأرض، لأن هذا هو مقتضى سياق الآية. فحيث ربط الصلاح والفساد بالأرض، فالمقصود هو صلاح العمران، الذي به تورث الأرض، وما له من آليات العدل والشورى، والانسجام الاجتماعي والفعالية، والاقتصاد الشامخ، وهو الذي يختزله قدماؤنا بعبارة "العدل أساس الملك". وادراكاً من ابن تيمية والغساني، لعلاقة الصلاح بوراثة الأرض، وعلاقة الفساد بضياعها، ذكراً في غير هذا السياق، أن الملك العادل يدوم رغم الكفر، والملك الظالم يزول رغم الايمان. وما ضيع المسلمون الأندلس، الا لأنهم فاسدون عمرانياً، ولا ورثها المسيحيون، الا لأنهم صالحون لعمارتها، وما زالت الدولة العثمانية، الا لما شاع الفساد والخراب. ولم يرث الأطالسة الأرض ويستعلون فيها، الا لما أشادوا الحضارة، فأقاموا الجانب المادي منها، فهم من الصالحين لعمارة الأرض، الذين وعدهم الله بوراثتها، وقرر هذا الوعد في الذكر الذي نزل على أنبيائه كالتوراة قبل الزبور لأنه وضع للنجاح والوراثة الحضارية سنناً لا تفرق بين مسلم وغير مسلم، بل بين صالح لعمارة الأرض وغير صالح. ولم يركز القرآن والسنّة على هذا المفهوم، لأن أمور الحضارة من عدل وشورى وحسن سياسة ومتانة اقتصاد، من ما تعرفه الأمم بالفطرة والطبيعة والتجريب، لا تحتاج الى كتاب ينزل، ولا الى رسول يرسل، فقد عرفها الروم والاغريق، وغيرهم من الأمم المتحضرة، وعرفها المؤمنون والكافرون، في الأزمنة القديمة والحديثة. ولكن الفكر الاسلامي القديم، عانى من خلل معرفي ومنهجي معاً، عندما بنى منظومة الفكر، فقد ركز على ما ذكر القرآن وأكثر من ذكره، ونظر للنصوص نظرة تجزيئية، وفق منهج نصوصي حرفي، فأضعف الارتباط بين شقي الصلاح. وصرنا عندما نشير الى الصالحين، نظنهم أولئك الزاهدين المنعزلين، المنشغلين بذواتهم، أو أولئك الذين صلحت عقيدتهم، أو الذين صلحوا أفراداً وجماعات صغيرة. وبذلك حرفنا مفهوم الصلاح، على رغم أننا نرد ونكرر، مئات الاشارات الى "الذين آمنوا وعملوا الصالحات". ونسينا الأعمال الصالحة الناقصة، ان قبلها الله في الآخرة، فانه لن يحمي بها ضعف المسلمين، من هجوم الأقوياء، لأن الله ينصر في الدنيا من يعرف كيف يغالب التحديات، بأسلوب عملي، ويثيب من يستحق الثواب في الآخرة. فمن عمر دار الآخرة، على أنقاض دار الدنيا، حصد الهزيمة في الدنيا، وأوشك أن يحصد الخسارة في الآخرة، لأن عمارة الدنيا هي خط الدفاع الأول عن الدين. ومن عمر الدنيا على أنقاض الدار الآخرة، نصره الله في الدنيا، وعاقبه في الآخرة، كما قال "كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظوراً". فالأمم التي عرفت سر التقدم والنهوض، وأشعلت أذهانها، وحركت جوارحها، نصرها الله، على رغم شركها وما في أخلاقها من انحطاط، لأنها جرت على السنن التي أودعها الله في هذا الكون، واستثمرت قوانين الصعود، فأقامت مؤسسات العدل والانصاف، وقيم الادارة والعمل، وشجعت البحوث والابداع والابتكار، وأقامت الحضارة المادية، فهزمتنا لأننا أهملنا الجانب الحضاري المادي من الدين. وهذا الاهمال معصية بارزنا الله بها، حين أولانا الخطاب الديني، وأخرجنا الابداع الاداري والاجتماعي، والمادي والتقني من الدين، وأخرجنا الطموح الدنيوي، من ثقافة الصالحين. ولذلك لا عجب اذا استحضر النووي - رحمنا الله واياه - في مقدمةرياض الصالحين، قول الشاعر: ان لله عباداً فطناً طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا هذا نموذج الصالحين، ونموذج السلف الصالح؟ الذي يريد وعاظ ودعاة وكثيرون، اعادة انتاجه بين شباب الصحوة؟ هل نحن حقا فطناء عندما نطلّق الدنيا؟ لقد طلقنا الدنيا لأننا اعتبرناها امرأة غير صالحة عند توهمنا أن الصلاح هو الرهبنة والدروشة، فتزوجها الأطلسيون، فأنجبت لهم أشبال المعرفة والتقنية، والإعلام والاقتصاد، وجاؤوامن فوق الأرض والجو البحر والبر يفتنوننا عن أخلاقنا وإيماننا0 ونحن إذاً ندفع فاتورة تحريف مفهوم العمل الصالح، كما هو في القرآن والسنّة وبتجسيد المفهوم القرآني للصلاح، على المسرح الاجتماعي، ويكون النجاح والفلاح، في الدنيا والآخرة، وفق معادلة رهبان الليل وفرسان النهار، لأن الرهبان الذين يرون أن طلب الآخرة لا يكون إلا بطلاق الدنيا، ويريدون أن تبنى لهم الصوامع، لكي يعبدوا الله، يجهلون الدين بل يجهلون مفهوم الزهد الإسلامي أيضاً. فالمتدين الحقيقي هو من يشغل المصانع، ويغرس المزارع، كما يبني المساجد والجوامع وهو من يدرك العلاقة بين فقه الفلك والطبيعة، وبين فقه الصلاة والصوم، ومن يدرك العلاقة بين قيام النهار في في الادارة والانجاز والابداع، وبين قيام الليل في التهجد والدعاء، ومن يحفظ أسرار التقنية، كما يحفظ القرآن، ومن يقرأ السنن الاجتماعية، كما يقرأ السنن النبوية. قيم الصلاح العمراني أفلا ينبغي لنا أن نتذكر أن الأمة في سبيل نهضتها، محتاجة إلى الجمع بين هذا وذاك؟ ولا سبيل إلى الجمع بينهما، إلا ببوصلة تزن الأعمال والأشخاص، وتدرك الأثر الاجتماعي لكل عمل. فالإبداع النافع، يبقى إنجازاً، ينبغي أن يقتدى به، ولو كان لصاحبه في نظاراتنا الموضوعية أو الذاتية، صورة غير مرضية، وبذلك تنشأ وتتكرس قيم الانصاف والقسط، في التعامل الاجتماعي الإنساني، فتحلق في سديم مرتفع. والعدل يقتضي التحليق في سقوف عالمية، ليس من أجل الإنصاف والاعتراف بفضل أهل الفضل فحسب، بل من أجل الاستفادة من الاعمال الصالحة الحضارية أيضاً، بصفتها ذات صلاح موضوعي. لقد عانى مفهوم الصلاح والأسلمة، من تزمت شديد، وربط المبادىء بالاشخاص، وصنف الناس منذ العصر الأموي تصنيفات عجيبة غريبة، فهناك شخصيات رفضت رفضاً مطلقاً، وأخرى قبلت قبولا ًمطلقاً. وشوهت حسنات الخصوم والمخالفين، وبررت سيئات الأولياء والموافقين. فانغلقت الأذهان عن رؤية الصواب، وابتعدت عن المطالبة بالدليل، فسادت عقلية القطيع. ولا بد إذن من أن يكون في أولويات خطاب النهوض الإسلامي، بث روح الإنصاف وإحسان النية في الآخرين، والابتعاد عن حصر الأفكار والأعمال الحضارية الصالحة بمذهب أو اتجاه، بل ينبغي أن يتعلم الناس كيف ينصفون، لأن القدرة على الإنصاف، وبناء المعرفة الموضوعية، هو أساس معرفة النجاح التربوي. فاذا عرفنا الصلاح عرفنا من هم السلف الصالح، من خلال العودة بمفهوم الصلاح الى القرآن الكريم، فأدركنا أن هناك سلفاً صالحاً من أهل المحافظة في مجال الايمان والعمل الروحي والفردي. وأن هناك سلفاً صالحاً من أهل التجديد والكلام في مجال النجاح الثقافي والقدرة على تأصيل العلوم، بعد استيعاب الثقافات الأجنبية، وبناء علوم العقيدة وأصول الفقه والتاريخ واللغة والأدب عليها، فجل المنهجية العلمية بعد الشافعي من انجاز أهل الكلام. وأدركنا أن هناك سلفاً صالحاً من أهل التجديد والكلام في مجال النجاح الثقافي والقدرة على تأصيل العلوم، بعد استيعاب الثقافات الأجنبية، وبناء علوم العقيدة وأصول الفقه والتاريخ واللغة والأدب عليها. وأدركنا أن هناك سلفاً صالحاً أدرك كيف تبنى المصانع والمزارع والجوامع معاً، وكيف تكون الادارة والسياسة والحضارة. وهناك أيضاً خلف صالح في انجازه العمراني، قد لا يكون ملتزماً، وقد لا يكون قرأ شيئاً من كتب سلفنا الصالح، وقد يكون مبتدعاً عندنا، وقد يكون فاجراً، بل قد يكون كافراً، ولكن الحكمة ضالة المؤمن، لأن الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاسق، أو الكافر فلنا صلاح عمله وعليه فساد خلقه ومذهبه. فندرك أن هناك خلفاً صالحاً، خدم الثقافة الاسلامية وأن مفكراً كالعقاد أو أديباً كالمنفلوطي أنفع للمسلمين من كثير من الزاهدين الذين انشغلوا بصلاح الذات وتخلوا عن اصلاح الآخرين. وأن المبتعث الذي عبر القارات لتحصيل الخبرة المتميزة في تخصص نادر أفيد للأمة من شخص قاعد يتوهمه الناس شاباً صالحاً، نشأ في عبادة الله، وقد فهم العبادة رهبانية وسلبية. وبدراسة النتيجة الاجتماعية يصبح المتخصص الدقيق في علم نادر، كالحاسوب والذرة أو أحد فروع الهندسة، أو نحوها من العلوم التقنية أفضل للأمة من التخصص الدقيق، في الدراسات الدينية، اذا كانت الأمة اليه أحوج، وأن فهم الكثير منا القرآن الكريم على الهوى، فأخذوا ما يعرفون أو يحبون أو يستسهلون وتركوا ما يجهلون أو يكرهون أو يستصعبون لأن فضيلة العلم ليست مطلقة، وان قال بذلك فلاسفة كسقراط أو فقهاء كالغزالي. تقدير الصلاح العمراني بالنظر الى النتائج الاجتماعية يتم انصاف ذوي الأعمال الصالحة الخيرة، فلا تغمط جهودهم، ولا تهضم حقوقهم، مهما كان رأي الانسان في دوافعهم، أو في سلوكهم الخاص، فيصبح ذلك المركز أو الشخص، المسيحي أو العلماني، الذي ترجم للأمة أمهات ومراجع أساسية من الثقافة والعلوم التطبيقية، أجدى للأمة من ذلك المركز أو الشخص، الذي تدثر بعباءة بخدمة الاسلام، فنشر منه مخطوطات لا أولوية لها أو قدم أفكاراً أو أعمالاً، تزيدنا نوماً أو غفلة، ولا تساعدنا كيف نبني السدود أمام هدير السيول، وكيف نصف المصاد أمام عزيف الرياح، وأن قدم ذلك باسم الصحوة، فالصحوة لن تكون دينية حقاً حتى تكون حضارية. ويصبح تقدير الأشخاص والجماعات مرتبطاً بمدى ما يحققونه من صلاح للأمة، وبذلك يدرك أن عمل الخبير غير المسلم الذي اكتشف النفط أجدى للأمة من غرق في ترديد التواشيح الدينية واقامة محافل الموالد النبوية، ويصبح جهد ذلك العالم الذي اخترع الساعة، أفضل للأمة من مغرق في قيام الليل والقنوت، وتصبح رواية كوخ العم توم لستاو التي تبث الارادة والتفاؤل، أفضل من كتاب وعظي صوفي، كدلائل الخيرات، ونحوه من كتب الخمود والركود. وتضحى ترجمة قصة الشيخ والبحر لأرنست همنغواي، بما فيها من حض على التفاؤل، أجدى للأمة من تحقيق وعظيات أبي العتاهية أو صالح بن عبدالقدوس. ويصبح الذي اخترع ساعة المواقيت، أجدى للأمة اليوم من اخترع المسبحة. ويصبح كتاب دع القلق وابدأ الحياة أو كتاب كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس لكارل دينجي أجدى للأمة من كتاب بستان الواعظين لابن الجوزي، او كتاب الفرج بعد الشدة للتنوخي. ويصبح المستشرق الذي فهرس الحديث أجدى للأمة من كثير من الباحثين، الذين لا يفرقون في ما يحققونه وينشرون، بين الغث والسمين، ولا بين الزائف والصحيح، أو أولئك المتنطعين، الذين يحسبون الصلاح الحضاري الاسلامي المأمول، لا يمكن انتاجه، الا ملوناً بالفكر المذهبي أو الفكر الاقليمي. وبمراعاة الصلاح الموضوعي، ندرك أن أديسون الذي اخترع المصباح الكهربائي، له فضل على كل من استنارت عيناه بضوء شمعة في أي مكان، وأن عمله أجدى للأمة من المسلم الذي اخترع نعشاً تقنياً، لتقليب الأموات أثناء التغسيل. وأجدى للأمة من الذي اخترع يداً تقنية، تسهل على الامام تقليب صفحات المصحف، من دون لمس ولا مس. وبالنظر الى الصلاح الموضوعي، ندرك فضل الذين اكتشفوا علاجات الأوبئة الفتاكة، وعدوها كوارث لا ينبغي الاستسلام لها، على الذين استسلموا لطاعون الكوليرا في نجد، في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، واعتبروه رحمة من الله، وسموا سنة فتكه بالناس سنة الرحمة وكأنه اختلط عليهم الاستسلام لله، بالاستسلام للطاعون، فلم يفرقوا بين رحمة الله وعذاب الجهل. وهكذا فانه ينبغي في الجانب الحضاري من الدين، أن يكون التعويل على الاصلاح والنجاح الموضوعي، لا على الصلاح الذاتي والروحي، لأن النتائج الاجتماعية، كالارقام الرياضية، تعبر عن نفسها بنفسها، ولا تخضع للتكبير والتصغير، ولا للتشويه والتحسين، ولا للتقييم العاطفي الذاتي. النتائج والوقائع، التي تتجسد على المسرح الاجتماعي هي معيار الصلاح الحقيقي، الذي حاكم الله به مدعي الاصلاح، من المنافقين الذين قالوا :"انما نحن مصلحون"، فرد الله عليهم فقال: "ألا أنهم هم المفسدون، ولكن لا يشعرون" فالذين لا يشعرون مظنة الفساد والافساد، لأن المسألة على مسرح الأرض، ليست بالأقوال والدوافع والنيات والمشاعر، بل بالأعمال والنتائج والآثار. * أكاديمي سعودي.