نادراً جداً ما تحاول أميركا ان تنظر إلى وجهها في مرآة العالم للتعرف إلى نفسها من موقع الآخر، وحين تفعل ذلك يكون ذلك صدفة ومن دون قصد. لقد اعتادت ان تعطي العالم دروساً، وترفض أن تصغي لأي نقد علني لسياستها أو سلوكها مهما كان صادقاً ومخلصاً ومن أي طرف كان. تُعطي نصائح أو بالأحرى تعليمات من فوق، وترفض أن تتلقى نصائح حتى من أصدقائها حين تتعارض مع سياستها. تُملي على العالم مطالبها وتتوقّع إستجابة فورية ومن دون تساؤل أو شروط، فهي تعتبر نفسها القوة العظمى الوحيدة وتمارس دورها التاريخي على أنها ليست بحاجة لأن تتقلى دروساً من الآخرين أو أن تأخذ حقوقهم ومصالحهم ومعاناتهم في الإعتبار. وقع أخراً حدثٌ غير متوقّع فرض على أميركا درساً لم تكن مستعدة له، فاضطربت ولم تعرف كيف تتعامل معه، ولم تظهر تواضعاً من موقع القوة التي تتمتّع بها بل غضباً واستياء ولجأت للتهديد بدلاً من تقبّل الحقائق على أن تتعلّم منها لفائدتها هي كما لفائدة الآخر. وفَرَضَ عليها هذا الحدث غير المتوقّع أن ترى فجأة وجهها في مرآة العالم ولم يعجبها بتاتاً ما رأت فاضطربت واضطرب معها سادة وسائل الإعلام الأميركية. ذلك الحدث هو أن الأممالمتحدة لم تنتخب أميركا في إقتراع سري عضواً في لجنة حقوق الانسان للمرة الاولى منذ تأسيس هذه اللجنة عام 1947، في الوقت الذي تعتبر نفسها عضواً مؤسساً. لم تحاول أن تعرف كيف حدث ذلك ولماذا وكيف تتعامل مع هذه المسألة تعاملاً إيجابياً. بل إضطربت حكومةً ووسائل إعلام، غضبت، لجأت للتمويه، وجّهت الاتهامات يميناً وشمالاً، وهدّدت بحجب مستحقات ديونها للأم المتحدة. واستهدفت العرب والإفريقيين قبل غيرهم فانطلقت أبواق الإدارة الأميركية ووسائل الإعلام فيها تتساءل من دون توضيح كيف يمكن أن تطرد أميركا من لجنة حقوق الانسان للمرة الاولى في الوقت الذي تنتخب السودان وليبيا. واستهدفت الإدارة الأميركية في المقام الثاني دولاً صديقة لم تحدّدها بقولها انها كانت قد تلّقت قبل إجراء الاقتراع السري ضمانات مكتوبة بانتخابها من جانب 43 دولة من أصل 53 دولة مخوّلة المشاركة في هذه الانتخابات التي تجري سنوياً. وكان أن تلّقت الولاياتالمتحدة 29 صوتاً ما يعني أن 14 دولة لم تفِ بإلتزاماتها المكتوبة فتساءلت وسائل الإعلام الأميركية عمّنْ هم الخونة، بينما فازت فرنسا ب 52 صوتاً، والنمسا ب 41 صوتاً، والسويد ب 32 صوتاً. وتم أيضاً انتخاب البحرين وكوريا وباكستان وكرواتيا وأرمينيا وتشيلي والمكسيك وسيراليون. وما يستلفت النظر لجوء الإدارة الأميركية ووسائل الأعلام الى التضليل، فظلّت تكرّر لأيام اتهامها الأممالمتحدة بطرد الولاياتالمتحدة من لجنة حقوق الإنسان في الوقت الذي انتخبت ليبيا والسودان. أقول أنها لجأت الى التضليل لأنها بهذا التساؤل أرادت ان توحي للرأي العام الأميركي وكأن الأممالمتحدة طردت الولاياتالمتحدة من لجنة حقوق الإنسان واختارت بدلاً منها دولاً متهمة بالإرهاب والقمع لتحلّ محلها. ولذلك حصل التباس لدى الرأي العام الأميركي في الأيام الأولى على الأقل كما لو أن التنافس غير المتكافىء كان بين الولاياتالمتحدة وليبيا والسودان، مما سبّب غضباً شعبياً على الأممالمتحدة بالذات. وليس من الغريب ان يحدث مثل هذا الإلتباس إذ أن الغالبية العظمى من الأميركيين لا إهتمام لهم بالشؤون الخارجية فيتقبلّون وجهة نظر حكومتهم على عواهنها. ثم أن هناك نسبة مهمة من الاميركيين لا تهمهم الحقيقة أو يسكتون عنها حين تتناقض مع رأي الإدارة وسياستها. الأمر الذي لم يتضح جلياً للرأي العام الأميركي هو أن آليات الاقتراع في الأممالمتحدة تحدّد لكل منطقة من العالم حصة من التمثيل، فيكون التنافس داخل المنطقة نفسها كما بين الإفريقيين من دون غيرهم. وقد خُصّصت لدول أوروبا وأميركا في لجنة حقوق الإنسان أربعة مقاعد يكون التنافس بينها من دون غيرها. بكلام آخر، كان التنافس بين أميركا وفرنسا والسويد والنمسا في انتخابات هذه السنة. وكثيراً ما كانت أميركا في السابق تضغط على الدول الأوروبية للانسحاب لمصلحتها، ما جعلها تطمئن مع الوقت فلم تبذل أي اهتمام ظاهر هذه السنة بل أهملت المسألة واعتبرت أنها ستفوز لا محالة. لذلك كانت المفاجأة الكبرى حين تمّ الإعلان عن نتائج الاقتراع السري. والمهم في الأمر هنا ليس الفشل بحدّ ذاته، بل كيف كانت ردود الفعل في أميركا وكيف رأت أميركا نفسها في مرآة العالم حين إضطرت إلى ذلك؟ بل المهم في الأمر، قبل كل شيء، كيف تعامل الأميركيون مع هذا الحدث الذي أعطوه أهمية قصوى؟ وللإجابة عن هذا السؤال، تبين لي من متابعة وسائل الإعلام الأميركية ان هناك غضباً وإستياءً عاماً ضد الأممالمتحدة، ولكن ردود الفعل جاءت متفاوتة، وربما يمكننا أن نتبين أربعة إتجاهات متمايزة: قلة من الرأي العام الأميركي، كما تجلّى في تعليقات وسائل الإعلام، عبّرت عن استيائها بانتقاد الإدارة الأميركية نفسها معترفة بأن المسؤولية في طرد أميركا من لجنة حقوق الانسان لا تقع على أعدائها كالصين وإيران وكوبا وغيرها من الدول العربية والأفريقية والاسيوية، بل على أصدقائها الأوروبيين وغيرهم ممن حنثوا بتعهداتهم. وذهبت هذه الأقلية الى لوم الإدارة الأميركية نفسها التي اهملت المسألة كلياً فلم تظهر إدارة بوش إهتماماً بارسال مندوبها إلى الأممالمتحدة، وهي لم تفعل ذلك حتى الوقت الحاضر. ويكون في هذه الحالة على أميركا أن تتقبل الأمر الواقع وتعدّ العدة للسنة المقبلة وأن تمتنع عن تهديد الأممالمتحدة بحجب ديونها عنها. وظهر ثانياً توجّه نستدل اليه من خلال ردّ فعل قادة الإدارة الأميركية الذين استخدموا التضليل والتسويغ تمويهاً لفشلهم. قال وزير الخارجية كولن باول أن بعض حلفاء أميركا وأصدقائها تهاونوا في الأمر لاعتقادهم ان عضوية أميركا مضمونة لا شك، وقد تفاجأ هؤلاء بالنتائج كما تفاجأت الإدارة الأميركية نفسها. بهذا الخصوص، قال الناطق باسم البيت الأبيض أن لجنة حقوق الانسان نفسها أظهرت حقيقة موقفها اللامبالي من مسألة حقوق الانسان حين انتخبت السودان وليبيا وطردت الولاياتالمتحدة. كذلك، وجّه الرئيس بوش نفسه في خطاب أمام اللجنة اليهودية الأميركية اقسى استنكاراته ضد تلك البلدان التي تقمع الحريات الدينية مكتفياً بذكر السودان وانتقاده متعهداً استمرار ملاحقته في الوقت الذي ذكّر الحضور بأنه حرص في الإجتماع الأول لمجلس أمنه القومي على تأكيد ان "حماية إسرائيل وأمنها هما في طليعة اولويات السياسة الخارجية الأميركية". نيويورك تايمز 4/5/2001 وتجلّى الاتجاه الثالث من خلال ردّ فعل المحافظين الذين هدّدوا بمعاقبة الأممالمتحدة، فأنذرت وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبريت منذ اليوم الأول لاعلان نتائج الانتخابات ان طرد أميركا سيلحق الضرر بالأممالمتحدة في وقت هي بأشد الحاجة للمساعدات الأميركية. وعبّر عدد من المحافظين في الكونغرس، ومنهم ديك أرمي زعيم الغالبية في المجلس، عن غضبهم الشديد منذ اللحظة الأولى لإعلان نتائج الاقتراع، وهدّدوا بحجب ال 244 مليون دولار المستحقة لقاء العضوية في الأممالمتحدة. وقال النائب توم لانتوس المعروف جداً بدعمه لإسرائيل وتحريضه المستمر ضد العراق ان هذا الإجراء الأميركي "سيعلّم هذه البلدان درساً... وفي السابق كانت منظمة اليونسكو الفاسدة والمعادية لأميركا قد تعلّمت الدرس وأصلحت مسارها" نيويورك تايمز 11/5/2001. وفعلاً قرر مجلس النواب في الكونغرس في العاشر من ايار مايو الحالي بأكثرية 252 مقابل 165 حجب مستحقات العضوية هذه في الأممالمتحدة، ما لم تتمّ عودة أميركا إلى لجنة حقوق الإنسان. أما الإتجاه الأخير فيتمثل بموقف نقدي يرى من الضروري ان تضبط أميركا أعصابها وتتمعنّ بالأمر فتحلّل أسباب عدم انتخابها على حقيقتها بحيث تتوصل إلى استنتاج بأنها يجب أن تكون قد أخطأت حقاً وارتكبت عملاً شنيعاً كي تستحق الطرد، ويكون عليها في هذه الحالة أن تتقبّل ما حدث وتعيد النظر في نهجها. ويقول أصحاب هذا الرأي ان ما حدث ربما جاء تعبيراً صادقاً عن موقف العالم من الهيمنة الأميركية ومن سياسة العولمة التي تفرضها على الشعوب والحضارات الأخرى. بكلام آخر، ذهب هؤلاء إلى أنه ربما يكون الاقتراع نوعاً من الاحتجاج العالمي على عنجهية أميركا وتحكّمها ورفضها الانضمام للمحكمة الدولية، ومواقفها المعارضة لعدد من الاتفاقات الدولية ومنها اتفاقية إزالة الألغام واتفاقية قانون البحار، ولسياستها السلبية في عدد من المجالات والقضايا المتعلقة بالدفاع الصاروخي وحقوق السيادة والتجارة الحرة والبيئة والتدخل في شؤون الأمم الداخلية والحصار الذي تفرضه على عدد من البلدان وتفاقم الفجوات العميقة بين الفقراء والأغنياء شعوباً وطبقات. وقد سبق أن وجّهت انتقادات عدة لأميركا في السنوات الأخيرة لتراكم ديونها للأمم المتحدة، ولرفضها عدداً من الاتفاقات الدولية. نستنتج من كل ذلك أن سبب عدم انتخاب أميركا لعضضوية لجنة حقوق الانسان ربما يعود إلى أنها تلجأ للأمم المتحدة حين ترى مصلحتها في استخدامها لتنفيذ سياستها، كما يظهر من خلال ممارسة حق الفيتو لمصلحة إسرائيل واستصدار قرارات تدعم حربها ضد العراق ومواصلة الحصار علىه حتى الوقت الحاضر. وعلى العكس، توجّه أميركا إنتقاداتها وتهديداتها ضد الأممالمتحدة حين تمتنع عن أن تكون وسيلة طيّعة من وسائل الاستراتيجية الأميركية. في هذا المجال يعترف بعض المسؤولين الأميركين ضمناً بأنهم لم يتفهموا ما يجري من تطورات داخل المجلس الاقتصادي الاجتماعي التابع للأمم المتحدة، ولم يدركوا عمق استياء الشعوب من أحادية النظام العالمي وكون الولاياتالمتحدة القوة العظمي الوحيدة. وفي الوقت الذي تبشّر أميركا بالتعددية داخل كل بلد تسعى لفرض نظام واحد في العالم. ومن مظاهر عنجهية السياسة الأميركية أنها لا تستوعب مدى عمق الاستياء العالمي الحقيقي ضدها بصرف النظر عن الإدارات المتعابقة. إنها نادراً ما تتأمل وجهها في مرآة العالم، وإذا صدف أن حدث ما يضطرها للتطلع في هذه المرآة عابراً فإنها تلجأ للدفاع عن النفس بالتمويه والتضليل والغضب والتهديد واللجوء إلى مزيد من التحكم والجبروت. وليس هناك من منطقة في العالم تضرّرتْ من السياسة الأميركية أكثر مما تتضرّر البلدان العربية. وأكتب هذا الكلام في وقت تصعّد إسرائيل حربها ضد الشعب الفلسطيني الذي تحوّلت حياته إلى سلسلة من المآتم الحزينة الغاضبة، وما كانت تستطيع إسرائيل أن ترتكب كل هذه الجرائم البشعة دون الدعم الأميركي المطلق. إن أميركا هي القوة الوحيدة في العالم، وهي للأسف الشديد قوة في خدمة إسرائيل. وفي الوقت الذي ترفض أميركا ان تستقبل عرفات رغم اقتناعها بأنه القائد الفلسطيني الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في العملية السلمية، تُعطي فرصة للمجرم ارييل شارون أن يتابع حربه بقصد فرص الاستسلام على شعب لن يستسلم. ومما يزيد من عمق المأساة أن الدول العربية هي الأقل احتجاجاً والأكثر صداقة لأميركا بالمقارنة مع الدول الأخرى. وبدلاً من الاحتجاج تلجأ الى التوسل والتسوّل أمام البيت الأبيض معترفة بعجزها ومتخلية عن قيم الشهامة العربية التي تحتفل بها في مناسبات المآدب والأعراس. هذا هو السرّ العربي الذي لا يُفسّر، ولا بدّ من تفسيره والعمل على تجاوزه وتغييره قبل ان تصطلح الأمور فنبدأ من حيث لم نبدأ خلال قرن من التجارب المحبطة. * كاتب عربي واستاذ في جامعة جورجتاون - واشنطن .