في ظاهرة الأمور بدا أن الولاياتالمتحدة راضية عن نفسها ورتبت أوراقها. تلك مدينة جنيف الهادئة في سويسرا، حيث مقر اللجنة الدولية لحقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة في نيويورك. وفيما بين واشنطنونيويوركوجنيف نشط الديبلوماسيون الاميركيون استعداداً لانتخاب 14 دولة جديدة لعضوية لجنة حقوق الانسان بدل الدول التي انتهت فترة عضويتها. من بين المقاعد الشاغرة هناك ثلاثة مقاعد مخصصة لدول غربية. الولاياتالمتحدة رشحت نفسها ومعها فرنساوالنمساوالسويد. كل دولة مرشحة تتشاور مع باقي الدول الاعضاء باللجنة 54 دولة ضماناً للفوز. لكن الولاياتالمتحدة كثفت من مشاوراتها الى درجة أنها حصلت على تعهدات مكتوبة بالتصويت لصالحها من 43 دولة... إذن... أصبح الفوز مؤكداً؟ أبداً. وتلك هي القنبلة. فرنسا حصلت على 53 صوتاً والنمسا على 41 صوتاً والسويد على 32 صوتاً. مبروك الفوز. الولاياتالمتحدة حصلت على 29 صوتاً. خسارة. التصويت سري وديموقراطي، وبالديموقراطية تدخل الدول اللجنة أو تخرج منها بروح رياضية وبلا مشاكل. فرنساوبريطانيا مثلاً خرجتا من قبل ثم عادتا الى الفوز بالعضوية في فترة تالية. خلاص يا أميركا؟ أبدا. فلتذهب الروح الرياضية والديموقراطية الى الجحيم ولتبدأ الاسئلة الاميركية المفحمة. كيف تجرؤ الدول الاخرى - أياً كانت - على إخراج الولاياتالمتحدة من عضوية لجنة استمرت فيها منذ تأسيسها في سنة 1947؟ ماذا تقول الولاياتالمتحدة للعالم من الآن فصاعداً بعد أن اعتادت التفتيش على الآخرين وتقريعهم بالمواعظ ومطاردتهم بالعقوبات باسم حقوق الانسان؟ كيف ترفض النمسا او السويد مثلاً التنازل مسبقاً لحساب الولاياتالمتحدة فيصبح المرشحون ثلاثة بدلاً من اربعة. وتضمن الولاياتالمتحدة فوزها بصرف النظر عن الأصوات؟ ثم الأهم الأهم الأهم: فرنسا. كيف تحصل الولاياتالمتحدة على 29 صوتاً فقط بينما تحصل فرنسا على 52؟ هل يأمن العالم لحقوق الانسان في غياب الولاياتالمتحدة ووجود فرنسا؟ إنهم حتى - هؤلاء الفرنسيين - لا يحبون الهامبيرغر ولا فراخ كنتاكي. بل ويشيعون جو العالم - كذباً - انهم اقل عجرفة من الاميركيين. الآن - بعد التصويت القنبلة - يتحدث الكل عن الروح الرياضية والديموقراطية. لكن: على أميركا؟ أصوات في الكونغرس الاميركي خرجت غاضبة مطالبة بمعاقبة الأممالمتحدة بعدم تسديد المتأخرات المالية الاميركية المستحقة من قديم على الولاياتالمتحدة. هناك مثلاً 581 مليون دولار وعدت الولاياتالمتحدة بدفعها - تحت الحساب - في كانون الاول ديسمبر الماضي. والان على الكونغرس أن يرفض التصديق على الدفع الى أن تضطر دول العالم صاغرة لإخلاء مقعد لحساب الولاياتالمتحدة في لجنة حقوق الانسان مع أول وأقرب تصويت جديد. جريدة أميركية كبرى ورصينة خرجت بمقال افتتاحي عنوانه "تمرد في الأممالمتحدة"، تعني تمرداً من المجتمع الدولي ضد الولاياتالمتحدة عبر الأممالمتحدة.. وزيرة الخارجية الاميركية السابقة مادلين اولبرايت قالت بغضب: إن ما جرى هو ضربة موجهة الى الزعامة الاميركية للعالم. الرئيس جورج بوش تساءل في غضب: كيف يحدث هذا؟ الناطق باسم وزارة الخارجية الاميركية قال: إن وزارته اصيبت بخيبة الأمل. مستشارة الرئيس للأمن القومي قالت إنها إهانة للولايات المتحدة. معلقة أميركية قالت إن حلفاء الولاياتالمتحدة في اوروبا الغربية هم السبب في إخراج الولاياتالمتحدة من لجنة حقوق الانسان. معلق أميركي آخر تساءل: هناك 43 دولة قالت إنها ستعطينا أصواتها بينما حصلنا على 29 صوتاً فقط في التصويت السري. من هم الخونة؟ هناك 14 دولة يجب على الولاياتالمتحدة ان تعرف اسماءها. اذا عجزت وزارة الخارجية الاميركية عن التقصي والمعرفة فلماذا لا تقوم وكالة المخابرات المركزية الاميركية بالمهمة؟ معلق أميركي آخر قال إن الصين وكوبا نشطتا في المشاورات غضباً على مواقف الولاياتالمتحدة ضدهما. والعرب نشطوا لإذلال الولاياتالمتحدة بسبب منعها سابقاً إدانة اسرائيل. وفرنسا نشطت لأنها.. لأنها.. لأنها فرنسا المشاغبة للولايات المتحدة كهواية لشغل الفراغ على مدار الساعة. الآن هناك وقت للحقيقة. يجب على الولاياتالمتحدة ان تعرف ما وراء الفائزين من رشاوى محتملة أو امتيازات تجارية وعدوا الآخرين بها أو.. أو... أو... في المقابل خرجت الصين تنبه الى أن الوقت قد حان بالنسبة للولايات المتحدة لكي: "تدخل في حوار على قدم المساواة مع الدول الاخرى، غنية أو فقيرة، قوية أو ضعيفة" وأن: "تتوقف الولاياتالمتحدة عن استخدام قضايا حقوق الانسان كسلاح سياسي وأداة لممارسة قوتها وهيمنتها وتسلطها" على الاخرين. أما فرنسا، فبعد أن هنأت نفسها على "شعبيتها" داخل لجنة حقوق الانسان فقد خرجت على لسان سفيرها بالأممالمتحدة تفسر هذا النجاح بأنه يرجع أساساً الى السياسة الخارجية الفرنسية التي "تقوم على الحوار والاحترام". الكلام لك يا جارة، سامع يا مسيو جورج بوش؟. أما في المانيا، والمعروفة بشدة ايمانها ببيت الطاعة الاميركي، فقد خرجت إحدى صحفها الكبرى تنتقد الغطرسة الأميركية وتحذر من عودة "الأميركي القبيح النزق" في السياسات الدولية. لكن بعيداً عن هؤلاء وأولئك من الواضح أن الإعلام الاميركي يتعامل مع "موقعة جنيف" هذه كما لو كانت بيرل هاربر الجديدة، وان السخط الاميركي هنا موجه الى الحلفاء قبل الخصوم، وأن فكرة وجود لجنة دولية لحقوق الانسان بغير عضوية - بل هيمنة - الولاياتالمتحدة هي فكرة لم ترد مطلقاً في خيال سياسي أميركي من قبل. ومع أن التصويت ديموقراطي وجرى بالسرية نفسها المعتادة في اللجنة طوال 54 سنة من قيامها، إلا أن الإذعان للديموقراطية هنا غير وارد أميركياً بالمرة. الوارد هو فقط أنه اذا مارس الاخرون حقوقهم الديموقراطية في مواجهة الولاياتالمتحدة فإن الرد الاميركي "التلقائي" يكون بمعاقبة المجتمع الدولي كله من خلال الأممالمتحدة. وحتى نكون منصفين فإن أصواتاً أميركية أخرى استخدمت قاموساً مختلفاً لفهم ما جرى. بعضها عبر مثلاً عن اندهاشه من عدم تنبه الولاياتالمتحدة الى بركان الاستياء من السياسات الاميركية المتفاعل داخل المجتمع الدولي منذ فترة. كاتبة أميركية تساءلت بوضوح: ألا يدرك الرئيس - جورج بوش - ان العالم فاض به الكيل؟. روبرت ماكنمارا وزير الدفاع الاميركي الاسبق أيام حرب فيتنام والنادم على دوره فيها حسب مذكراته المنشورة أسرّ الى بعض خلصائه بأنه يخشى من أن تكون السياسات الاميركية الحالية قد جعلت العلاقات مع الصين على درجة من السوء قد تنتهي بحرب أميركية فعلية مع الصين خلال عشر سنوات. أصوات أميركية أخرى فسرت "موقعة جنيف" في لجنة حقوق الانسان بأنها تعبير عن استياء دولي متزايد من استعلاء الولاياتالمتحدة على المجتمع الدولي واستثناء نفسها بعيداً عن اتفاقات دولية مهمة خاصة بالبيئة والالغام الارضية والمحكمة الجنائية والحد من التسلح ومعارضتها لحصول الدول الفقيرة على أدوية رخيصة لعلاج مرضى "الايدز" ثم - بكلمات جريدة أميركية مهمة - إصرار الولاياتالمتحدة لسنوات على: "أن تكون المُدافع الأكثر ضراوة عن اسرائيل وحاميتها ضد الإدانات الدولية". تحول التصويت الدولي الدوري في لجنة حقوق الانسان بجنيف إذن الى "موقعة كبرى" صوتية أو تصويتية على هذا النحو الاميركي.. ولا "معركة بريطانيا" ايام تشرشل او معركة ستالينغراد في زمانها أو معركة واترلو ونهاية نابليون بونابرت. الحكاية جاءت على الوجيعة. هذا رأي المجتمع الدولي. وجاءت ايضاً على العصب الحساس في السياسة الاميركية التي سعت خلال سنوات الى احتكار راية حقوق الانسان في مواجهة الجميع. فباسم حقوق الانسان لا تعظ الولاياتالمتحدة كل الآخرين فقط، ولكنها تفرض وصايتها عليهم وتفتش على بنوكهم المركزية - بالذات - لكي تمخض الأمر في النهاية عن امتيازات تجارية وعملية تماماً تريدها الولاياتالمتحدة لنفسها. تماماً كما وقف الرئيس الاميركي الراحل ويليام ماكنلي ذات يوم في سنة 1898 لكي يخطب في مواطنيه علناً قائلاً إنه بعث بالجيش الاميركي الى الفلبين، ليس سعياً الى الاحتلال - حاشا لله - ولكن لأن السيد المسيح زاره في المنام وطلب منه - بكلماته: "ان نعلم شعب الفيلبين ونرفع من مستواهم وندخلهم في الدين المسيحي ونجعلهم متحضرين، وان نفعل بهم ما نشاء بفضل الله كأخوة لنا مات المسيح من أجلهم ايضا"، انتهت كلمات الرئيس الاميركي. الآن لم نعد في سنة 1898. نحن في سنة 2001. لم تعد الولاياتالمتحدة محتاجة الى ايفاد جيوش احتلال الى أي دولة. لم تعد ايضاً تتكلم باسم المسيح. هذا تقدم. لكنها اصبحت تتكلم باسم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية و.. حقوق الانسان. هذا خراب بيوت وغطرسة. كان المسيح أرحم. * نائب رئيس تحرير "اخبار اليوم" القاهرية.