منذ مدة، والوطنيون العراقيون، من مختلف المشارب السياسية والأصول العرقية والميول المذهبية، يشعرون بقلق شديد من الأحاديث المتداولة عن مسألة إنشاء "منطقة آمنة" في جنوبالعراق، للحفاظ على "الشيعة" هناك وحمايتهم من بطش السلطة المركزية وإرهابها. بل أن البعض وسع حديثه ليشمل مناطق الوسط أيضاً، ملمحاً مع آخرين إلى أهمية المطالبة أيضاً بمنطقة آمنة ل"السنة" في المناطق الغربية، خصوصاً في منطقة الرمادي ومحيطها. والحقيقة أن المسألة بدأت بعد نهاية "حرب الخليج الثانية"، وبعد المأساة الرهيبة التي واجهها الأكراد، تهجيراً وهجرة قسرية، بإيجاد "منطقة آمنة" لهم، ومن ثم طُبقت في صورة مشوهة واعتباطية وانتقائية ومن دون الاستناد نهائياً إلى قرارات واضحة ومحددة صادرة سواء عن الأممالمتحدة مجلس الأمن، الجمعية العمومية... الخ أو عن أي هيئة أخرى دولية أم إقليمية مثل جامعة الدول العربية، بل تمت فقط من جانب الولاياتالمتحدة وبالتعاون مع بريطانيا سياسياً وعسكرياً. ومن خلال ذلك، حُدد حظر جوي شامل على مناطق معينة شمال بغدادوجنوبها، ومن دون الاستناد إلى أي مرجعية دولية أو إقليمية ذات صفة قانونية أو سياسية. الواضح أن الحماية التي تحققت في الجزء الشمالي من العراق شملت فقط المناطق الكردية فيه، وبحسب الاعتراف التاريخي لدولتي بريطانيا وفرنسا وإرثهما السياسي والقانوني المستند إلى معاهدة سايكس - بيكو الشهيرة. فالدولتان لا تعترفان بكركوك جزءاً من كردستان العراق، على ما يدعي ويزعم معظم القيادات الكردية العراقية، وهما استثنتا منطقة الموصل من الشمال الخاضع للحماية بحسب مصالحهما. وإقرارهما بأنها تابعة للسلطة المركزية ليس لمصلحة الدولة العراقية بمقدار ما يمنع المنطقة الكردية والقيادات الكردية من الحصول على أي إمكانات مادية مباشرة، تجعلها قادرة على اتخاذ قرارات سياسية استقلالية الطابع، ما يجرد واشنطن ولندن من فرص الاستحواذ على الحركة الكردية والتلاعب بمصير الشعب الكردي وقضيته العادلة. ثم أن لاستثناء الموصل من "الحماية المباشرة" سبباً مباشراً، إذ أن تركيا الكمالية ما زالت ترنو بعينها العرقية نحو الموصل، فضلاً عن أنها لم تقر وتعترف بعراقيتها، حتى اللحظة. وعليه ف"الحماية" عملياً، حددت جغرافياً فقط ب"مناطق كردية" تعترف بها بريطانيا وأميركا من خلال المرجعية السياسية والديبلوماسية الخاصة بهما. ومن دون الخوض في التفاصيل، يمكن النظر إلى تجربة الحماية بعد عشر سنوات، في شكل يثير المرارة واليأس. ف"الحماية"، عملياً، لم تمنع الاحتقانات العسكرية والسياسية والاقتصادية في هذه المنطقة، داخلية كانت داخل كردستان العراق أم خارجية، عبر المحاور المتعددة، التركي أو الإيراني أو من خلال السلطة المركزية. أما فعلياً فقد انقسمت كردستان العراق مناطق نفوذ ثلاثاً: بهدينان التابعة للحزب الديموقراطي الكردستاني، وسوران التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني، وحلبجة حيث ثمة نفوذ للحركة الإسلامية الكردية المتأثرة بمراكز قوى معينة داخل الجمهورية الإسلامية الإيرانية والممولة عملياً منها. وفي اختصار شديد، فبعد عشر سنوات من "الحماية"، يمكن القول شكلياً إن هناك حرية، ولكن عملياً لا ديموقراطية، لأن الديموقراطية هي مؤسسات جامعة شاملة ذات طابع ومحتوى شرعي وشعبي كامل ومتكامل. ونحن نثق بأن التجربة في كردستان العراق غنية جداً، لكنها لا تصلح لتكرارها في مناطق أخرى من العراق لأسباب عدة، سنحاول تسليط الضوء عليها، والاستنتاج منها، لأن خطورتها ليست على "الشيعة" في العراق فحسب، إنما أيضاً على الأكراد وأبناء الشعب العراقي كافة، بل إنها تشكل خطراً أكيداً على الأمة العربية وشعوب المنطقة جميعاً. الإطار السياسي بداية، نلاحظ أن "المنطقة الآمنة" المعروضة اليوم ليست بنت الحاضر، إذ طرحت قبل أكثر من ثماني سنوات، وتحديداً نهاية العام 1992 وبداية العام 1993. ويبدو أن الولاياتالمتحدةوبريطانيا لم تقتنعا بذلك، فأُغلق الملف مباشرة، وبدأ الحديث يتركز على "الاحتواء المزدوج" لكل من إيرانوالعراق، بحسب النظرية الشهيرة لمارتن أنديك السفير الأميركي الحالي في إسرائيل، في مداخلته الشهيرة في أيار مايو 1993، في "معهد دراسات الشرق الأدنى - واشنطن". ويذكر أن الإدارة الأميركية لم تقر عملياً، وبلغة واضحة، بفشل هذه السياسة، ولم تعلن عملياً بديلاً منها بعد عشر سنوات من التزامها. قد يدور الحديث على عقوبات ذكية على النظام، لا على الشعب، لكن المسألة ما زالت غامضة. لأن السبب الأساسي هو أن الإدارة الأميركية الجديدة لم تحسم بعد قرارها الاستراتيجي، ليس في شأن العراق فحسب، وإنما أيضاً في شأن المنطقة العربية كلها. وأعتقد جازماً أن القضية المركزية العربية، أي القضية الفلسطينية، أصبحت ذات علاقة مادية وجدلية مع الكثير من القضايا العربية الأخرى والمتاخمة والملاصقة لها تاريخياً ولفلسطين جغرافياً وسياسياً، عنيت المسألة اللبنانية والمسألة العراقية ومسألة الخليج العربي. من هنا، فإن الحسم الاستراتيجي الشامل للإدارة الأميركية وبريطانيا وانعكاسات ذلك تكتيكياً، في شكل يومي ومباشر، هو الذي سيحدد المسار السياسي للقضية العراقية، كجزء من القضايا الأخرى، وسيكون ملف "المناطق الآمنة" الجديد مرتبطاً مباشرة بهذه السوقية السياسية وانعكاساتها التعبوية، ومؤشراً فاعلاً إليها. الإطار التاريخي غني عن البيان أن بريطانيا تعرف جيداً أن الطائفة الشيعية تشكل الغالبية في العراق، خصوصاً في الوسط والجنوب، إلا أن استراتيجيتها، وفق سياسة "فرق تسد" التي استندت إليها منذ تأسيس الدولة العراقية بقيادة الملك فيصل الأول، قضت بأن تكون الأقلية السنية العربية هي المهيمنة على الدولة والسلطة فيها. والاشارة الى هذه المسألة ليست ذات طابع طائفي، ولكن تم تجاوزها، وهذا خطأ جسيم، في ما مضى، للحفاظ على الوحدة الداخلية أمام المخاطر الخارجية، ولا سيما من جانب الحركات السياسية المهمة في البلاد. ولكن في منتصف الستينات، بدأت القوى السياسية تتناولها، من خلال ظواهر جديدة ومتميزة، منها مذكرة الشيخ محمد رضا الشبيبي، وزيادة نشاطات حركات إسلامية ذات طابع شيعي، منها حزب الدعوة. وعادت هذه المسألة المحتوى الطائفي للدولة والسلطة لتلح في شكل جديد وتفرض نفسها على الحياة السياسية في البلاد، منتصف السبعينات، لتبلغ ذروتها عام 1977 من خلال انتفاضة خان النص، لتتصاعد بعد ذلك رويداً، ويكون لها الدور الأساس بعد انتصار الثورة الاسلامية في إيران. وجهة النظر الأميركية الإدارة الأميركية منقسمة عملياً بين رأيين: رأي يتفق عموماً لا تفصيلاً مع الرأي البريطاني التاريخي القاضي باستمرار السلطة في يد الطائفة السنية، مع زيادة ملموسة ومؤثرة للمشاركة الشيعية، وفي مفاصل مهمة من حياة الدولة والمجتمع. وهناك مؤسسات أميركية سياسية وثقافية وعلمية تؤيد عموماً هذا الرأي الذي نجد له مساحة مهمة في وزارة الخارجية وفي بعض المؤسسات البحثية جامعة برنستون تحديداً. أما الرأي الآخر فيختلف عموماً لا تفصيلاً أيضاً مع الرأي البريطاني التقليدي، ويعتقد أن تسلم الشيعة عملياً لا شكلياً السلطة في العراق مسألة تبدو مهمة، لكنها معقدة جداً وتحتاج إلى مناخات وشروط قاسية، لا تشمل الوضع المحلي العراقي فقط، وإنما الوضع في المشرق العربي بكليته. فما هي المقاربة العملية التي يفكر بها العقل الأميركي؟ إنه عقل أرشيفي انتقائي تجريبي. من هذه الزاوية، فإن التفكير الأميركي العملي الذي يجد له مساحة مهمة لدى البنتاغون وبعض المؤسسات مثل "راند" التي لها علاقة جيدة معه يميل عملياً إلى "تشيع" جديد تكون له الحصة الأساس في الدولة والسلطة، وبالتعاون الشامل مع السنة تاريخياً، ومن خلال المفاصل الأساسية في البلاد الجيش مثلاً وفي المقدم، وسيكون "عراقوياً" في صورة كاملة، شكلاً ومضموناً. ومن الواضح تاريخياً أن "التشيع" في العراق يرتدي التوجه العربي، من خلال العمق العربي للقبائل الأساسية والمهمة في البلاد قديماً قيل إن قبائل العراق هي جؤجؤ العرب، وكذلك لا يمكن أن ننسى أن لهذا "التشيع"، ومركزه النجف، صلاته المهمة وسطوته الخاصة على "التشيع الإيراني"، ولكلا الأمرين مضاعفات سياسية وفكرية واجتماعية محلياً وإقليمياً. وقد تحسم الصيغة الأميركية في إيجاد "التشيع" العراقوي المسألة نهائياً، في العراق والمنطقة، بحسب مصالح واشنطن ووجهات النظر التي تخطط لها أو تساندها. فالتشيع العراقوي يقطع التشيع من خلال إلغاء العلاقة بينه وبين محيطه القومي العربي الطبيعي، ويفصله نهائياً عن المصالح والعلاقات التاريخية التي تربط العراق عملياً بأمته العربية، يشهد على ذلك تاريخ الحركة السياسية العراقية المعاصرة، إذ كان للتشيع دور أساس وجوهري في تأسيس التيارات الرئيسية: الليبرالية والقومية والشيوعية. والتشيع العراقوي أيضاً يقطع العلاقة عملياً وفعلياً بالتشيع الإيراني، ويفصل العراق تاريخياً عن العمق الإسلامي الإيراني، الذي شكل تاريخياً أهمية إجتماعية وسياسية وفكرية بالغة، ما حدا بالكثيرين من المفكرين والمثقفين في القرن الثالث الهجري وفي الحقبة العباسية الاستثنائية، إلى تسمية العراقوإيران بأرض العراقين. والحقيقة البارزة دوماً وأمام الجميع في صورة صارخة، أن من غير الممكن إجراء مثل هذه الجراحة الخطيرة التي يمكن أن تسمى ب"عراقوية التشيع"، إذ يمكن عملياً إدخال "المريض" غرفة العمليات، ولكن لا يمكن التكهن بنتائج العملية. وتظل الاحتمالات المباشرة الموت أو العطب الكامل أخطر التوقعات وأكثرها حسماً. الإطار الجغرافي هل يمكن الحديث الآن، عن أن الإدارة الأميركية بدأت تميل نحو الرأي الثاني عراقوية التشيع، وأن الكلام على "المناطق الآمنة" هو بداية هذه الطريق؟ لا يمكن الجزم نهائياً، ولكن يمكن الحديث عن المخاطر دوماً، وينبغي ذلك قطعاً. فالدول الغربية، ولاسيما منها بريطانيا، تتحدث دوماً عن الجنوب الشيعي. وبريطانيا، قبل الجميع، تعرف أن ذلك غير صحيح أبداً، إذ كانت مسحت العراق طوبوغرافياً وديموغرافياً منذ العهد العثماني. فلماذا هذا الحديث؟ من الواضح أن التشديد الإعلامي على هذه النقطة الذي ينزلق إليه كثر، إعلامياً وسياسياً، في المنطقة العربية وخارجها، عن قصد أو عنوة يخدم أهدافاً سياسية عدة منها القريب والبعيد، والصورة المناقضة له هي أن الجنوب ذو غالبية شيعية، لكن هناك مناطق مهمة وشاسعة فيه ذات طابع سني، منها في البصرة أو الناصرية. والمؤكد أيضاً أن في الوسط غالبية شيعية، وقلة سنية معظمها في واسط الكوت. وإذا اعتبرنا بغداد وديالى في الوسط، فإن النسب الفعلية متقاربة في المحافظتين. وعليه، يبدو صعباً على هذه المناطق الجنوبية في الإعلام أولاً والوسطى لاحقاً وفي الأيام الحالية أن تكون "آمنة" للشيعة، فضلاً عن أن "التعددية" العشائرية والمناطقية والسياسية داخل حركة "التشيع" العربي العراقي، لها خصوصيتها المتميزة وتعقيداتها الهائلة، ما يجعل هذه "المنطقة الآمنة" أكثر تعرضاً للاحتقانات السياسية والفكرية وحتى العسكرية من "المنطقة الآمنة" في كردستان العراق. فمن الذي يضمن الحفاظ على وحدتها السياسية والجغرافية والإدارية؟ ومن يقود هذه "المنطقة الآمنة" إذا تم تحقيقها، بعد سلخها، عملياً، "السلطة المركزية" وإداراتها المدنية والعسكرية. هذه الأسئلة، وغيرها الكثير، لم يُسلط الضوء عليها، ولم يُجب عنها في الدعوات التي يدور الحديث عليها أو الكتابة عنها. وإذا أخذنا في الاعتبار التخوم الجغرافية السياسية لهذه المنطقة إيران، الكويت، نجد أن التدخلات الإقليمية ستكون مفزعة في صورتها أو نتائجها. وإذا أقررنا - من خلال التجربة التاريخية المنصرمة أو الراهنة - أن الجهود الأجنبية ولاسيما منها البريطانية والأميركية كانت دائماً تتدخل في الكبيرة والصغيرة، وأن لديها مصالح دائمة تحققها على حساب حياة الشعب والبلد، نستطيع الاستنتاج أن المضاعفات ستكون خطيرة جداً وأنها ستؤدي، عملياً، إلى تمزيق العراق كتلاً اجتماعية وسياسية ومذهبية متناحرة ومتناقضة، وإلى زيادة التدخل الأجنبي في شؤون البلاد، ودفع كرات النار الملتهبة هذه في اتجاهات مختلفة، جغرافياً وسياسياً، فتدخل المنطقة كلها في أتون صراعات سياسية وعسكرية ضارية ومدمرة. فهل الحديث عن "المنطقة الآمنة" جزء من الحل المحلي، أم جزء من صفقة إقليمية؟ إذا عدنا إلى الترابط المهم بين القضية العراقية والقضية الفلسطينية والقضايا الأخرى المتعلقة بها، تبدو "المنطقة الآمنة" حلاً محلياً، بحسب منطق الولاياتالمتحدة، لكنها أيضاً جزء من حال إقليمية بحسب استراتيجيتها. فالعمل يجرى على قدم وساق لاستئصال الانتفاضة المباركة في فلسطين، وسط ضغوط سياسية وعسكرية ولاسيما منها العدوان الاسرائيلي الأخير على سورية وقيادتها الشابة، وعلى لبنان بمقاومته البطولية وبدولته التي تتخذ للمرة الأولى في تاريخ لبنان السياسي ومنذ الاستقلال، موقفاً واضحاً مع القضية الفلسطينية والعربية... هذه الضغوط تهدف إلى تركيع المنطقة سياسياً وعسكرياً. ومن هذه الزاوية يبدو الحديث عن "المنطقة الآمنة" غير متناقض مع الدعوات التي تطالب بتوطين اللاجئين الفلسطينيين في العراق. وعليه، لا بد من وقفة جادة للتصدي لكل هذه المشاريع التي تبدو ذات طابع إنساني شكلاً، لكنها فعلاً تؤدي إلى تدمير المنطقة وتقسيمها والسيطرة الشاملة عليها. وللطائفة الشيعية تراث في فهم هذه الألاعيب. أليس الإمام علي هو من قال قوله الشهير: كلمة حق أريد بها باطل؟ ولها أيضاً خصوصاً بين عرب العراق صولات تاريخية في التصدي للطغيان والارهاب والفساد والأطماع ذات المحتوى والطابع الأجنبيين. ففي العهد الأموي أفتى الإمام علي زين العابدين بصلاة الثغور لمقاومة الغزو البيزنطي. وعام 1914 وإبان الغزو الانكليزي للعراق، الذي كان تحت الاحتلال العثماني، أفتى السيد محمد سعيد الحبوبي بالمقاومة في معركة الشعيبة. وكان السيد محسن الحكيم، والد السيد محمد باقر الحكيم، المسؤول المالي للحملة الجهادية. والمطلوب من السيد محمد باقر الحكيم والمجلس الإسلامي الأعلى للثورة، وكذلك من قيادات الأحزاب العراقية كافة ولاسيما الإسلامية منها حزب الدعوة، منظمة العمل الإسلامي، حركة الإخوان المسلمين، حزب التحرير الإسلامي الوقوف جهاراً ضد هذه الاقتراحات والمؤامرات وفضحها وكشف مخاطرها على الشعب والوطن والأمة. * سياسي عراقي مقيم في دمشق.