«يرتفع صوت المطرب الآتي من أقاصي جنوب العراق بشجن، فتتصاعد آهات الحاضرين بمطعمٍ في أربيل ومعظمهم من الأكراد، وتسيل دموع بعضهم». ذلك المشهد يبدو للوهلة الأولى مثالياً لتقويم العلاقة العربية - الكردية ومستقبلها، فالجغرافيا والثقافة والتاريخ تصبُ في النهاية لمصلحة التعايش. وتبدو علامات الرضا على العرب الحاضرين، وتنهال المشاعر حيث «الأخوة» التاريخية تتغلب على «مؤامرات» السياسيين. بعد أقلِ من ساعة يشدو صوتُ مطرب كرديّ عذب بالغناء، يتفاعل الجمهور الكرديَ، ويصمت العرب، فلا اللغة ولا الموسيقى قادرة على الوصول إليهم والأصح أنهم غير قادرين على الوصول إليها، حتى مع محاولات بعضهم الانسياق مع الإيقاع. في تلك اللحظة لا يبدو التاريخ واحداً عندما تكون اللغة غائبة، فالجغرافيا تغدو مجرد خطوطٍ مائعة على الخرائط، و»الأخوة» أشبه بطلاق مع وقف التنفيذ. تتحدر السياسة في العادة من تلك المفارقة، حيث يتم الحديث بين بغداد وأربيل بلغتيّن مختلفتيّن، بمنهجيّن متناقضيّن، وبأخطاء مختلفة. يفهم الأكراد أن عرب العراق لا يستوعبون حقيقة خصوصيتهم، وأنهم ينتظرون الفرص المواتية للانقضاض على تلك الخصوصية، ويفهم العرب أن أكراد العراق لا يريدون البقاء معهم ضمن حدود وطنٍ واحد، وأنهم يتحينون الظروف لإعلان الدولة مهما قُدِمَ إليهم. في تلك الجزئية الموغلة في تعقيدها يدور كل الحوار السياسي بين بغداد وأربيل، لكن أياً من الطرفين لم يُقنع الآخر أبداً بصدق نياته. في منتصف التسعينات قال الرئيس صدام حسين في حديث مع مجموعة من ضباط الجيش نقلته القناة الرسمية حينها، «إننا سندع الأكراد يقررون ما يريدون بأنفسهم، لكننا متأكدون أنهم سيعودون إلى الصف الوطني»، وكان الأكراد قد وضعوا أول خطواتهم في طريق الاستقلال عن بغداد، وكان الرئيس المطوّق بالعقوبات الدوليّة والعداء الإقليمي يعتقد أنه قادر على استعادة الإقليم الخارج عن سلطته في أيّ لحظة يشاء، فلم يتردد العام 1996 في إرسال الجيش العراقي للتدخل بالحرب الأهلية بين قطبي الزعامة الكردية مسعود بارزاني وجلال طالباني. وتلك الحادثة التي لا تزال تُشعل فتيلَ الضغائن بين الأكراد أنفسهم، تفسر حتى اليوم في الشق العربي من العراق بوصفها دليلاً على إمكان استعادة السيطرة على الإقليم الكردي عبر أحد أطراف الصراع هناك، فيسرّب مقربون من رئيس الحكومة نوري المالكي إمكان التحالف مع قيادات كردية في حكومة غالبية سياسيّة تُقصي بارزاني من معادلة بغداد. ويبدو ذلك من مؤشرات اللغة المفقودة بين الطرفين، فلا الأكراد يمكن أن يسمحوا بإقصاء بارزاني، أو أن يفرّطوا بما حصلوا عليه من إنجازات وما حققوه من تجربةٍ مُستقلةٍ من أجل العودة إلى ظل السلطة في بغداد، ولا عرب العراق قد نجحوا في تقديم تجربة قابلة للاقتداء أو التعاطف أو حتى للتعايش. يُلخص قيادي كردي مخضرم القضية بالإشارة إلى أن «ما لا يُفهم في بغداد أن الإقليم لن يعود إلى الماضي، لا شيء يمكن أن يجبر الأكراد على التخلي عما حققوه.. الأمرُ أشبه بأن تطلب من رئيس تحرير ناجح أن يتخلى عن كل شيء للعمل مصححاً لغوياً في صحيفته (...) التاريخ لا يعود إلى الوراء». في بغداد تبدو الصورة مختلفة تماماً، فالأكراد وضعوا الدستور العراقي ودافعوا عنه، وهم بحسب هذا الدستور إقليم فيديرالي داخل الدولة وليس فوقها، ومن ذلك ينطلق المالكي للمطالبة بدخول القوات العراقية إلى السليمانية وأربيل ودهوك. لكن الأكراد لن يسمحوا بدخول جندي عراقي واحد إلى مناطقهم، ليس لأن التاريخ لا يسمح بذلك فقط، بل لأنهم لا يثقون بالجيش العراقي الحالي، ولا يثقون بالتجربة السياسية العراقية ومستقبلها ونيات أطرافها بشكل عام. «لو كان العراق بلداً ديموقراطياً حقيقياً وليس شكلياً لسمحنا بالشرطة الفيديرالية»، كما يقول السياسيُّ المخضرم، «لكن العراق يعيد إنتاج الظروف نفسها التي قادت إلى انتهاك حقوق الأكراد عقوداً طويلة، والحديث عن الدستور، في هذه الحالة، حقٌ يُراد به باطل». الأكراد أنفسهم يتحدثون عن الدستور، فيقول رئيس الإقليم مسعود بارزاني إن «الالتزام بالدستور هو المعيار الوحيد للبقاء في العراق أو اللجوء إلى شعبِ كردستان من أجل إعلان الدولة». مصطلح ضبابي والدستور هنا مصطلح ضبابي، فهو يمنح الحقوق ويحجبها، ويتحدث عن الشيء ونقيضه ضمن معايير مفاهيمية واحدة كالحديث عن الشريعة والديموقراطية كصنوان، وهو في نهاية المطاف مليء بالفراغات الواجب شغلها بقوانين ليس بالإمكان الاتفاق عليها بعد تسع سنوات. المثقفون العراقيون عرباً وأكراداً معنيون بدورهم بهذا الجدل السياسي، فمن قال أن السياسيين من الجانبين التزموا بالدستور يوماً؟. المثقفون العرب وخصوصاً أولئك المشغولين بمستقبل الديموقراطية في العراق، يتساءلون مراراً عن تعريف الدستور بالنسبة إلى الخطاب السياسي الكردي، بخاصة أن «السياسيين الأكراد لا يتطرقون إلى الدستور إلا عندما تمس إجراءات الحكومة ونزعاتها للسيطرة إقليم كردستان وحقوق سكانه، لكنهم يغضون الطرف عندما يتعلق الأمر بحقوق باقي السكان في العراق وكثير منها يتعرض إلى انتهاك، فلا يدافعون عن المدنيّة في العراق، ولا يتخذون مواقف لوقف انتهاكات حقوق الإنسان في السجون، ويعتقدون أنهم غير معنيين بقمع التظاهرات في ساحة التحرير، أو اتخاذ إجراءات لمنع تقييد الحرية الشخصية في بغداد». ويرد المثقفون الأكراد بنبرة لا تقل حدة :»فالديموقراطية في تعريف السياسيين العرب تحمل بصمات شوفينية، فهم غير مستعدين للاعتراف بالإبادات التي تعرض لها الشعب الكردي، وهم يحاولون التلاعب بالمصطلحات لضمان إخضاع الأكراد، وتذويب الثقافة الكردية، وهم يزوّرون التاريخ عندما يتفقون على إدامة سياسات التعريب في كركوك والمناطق المتنازع عليها، لكنهم في جانب آخر يتغاضون أيضاً عن دعمِ الحقوق المدنية في إقليم كردستان، فيصمتون حين تقمع السلطات تظاهرة في ميدان أزادي». من أين يبدأ الحوار العربي - الكردي إذاً؟ تندفع مجموعة من المثقفين الأكراد إلى بغداد والبصرة ويستقبلون شهرياً عشرات من أقرانهم من مدن العراق الأخرى للتوصل إلى آلية جديدة للتفاهم بعيداً من التخبط السياسي. لكن القضيةَ أبعد من جلسات حوار من دون منطلقات، فيقول المثقفون والسياسيون الأكراد أن «على العرب التحاور مع الشعب الكردي في النقطة التي وصل إليها اليوم، لا التي كان فيها قبل 30 عاماً، وتلك قضية لم يتمكن العرب من استيعابها حتى اليوم». التجربة الكردية فرضت في النهاية حضورها في العراق، لا يمكن عقد مقارنات بين إقليم كردستان وأي مدينة عراقية، وتلك التجربة لم تشيّد بالشعارات كما يقول الأكراد، إنما بآليات حكمٍ وإجراءات وأنظمة وقوانين مختلفة تماماً عما هي عليه في أجزاء العراق الأخرى، وتلك المنظومة المختلفة هي التي سمحت بتخلي شركة اكسون موبيل العملاقة عن عقودها الكبيرة في البصرة للاحتفاظ بوجودها في إقليم كردستان وتحذو حذوها شركات غربية أخرى تخلي بدورها تباعاً الساحة في الجزء العربي من العراق إلى شركات روسية وصينية وكورية. لكن التجربة الكردية ليست مثالية على أية حال، فهي تنمو في قلب هضبة جيو سياسية شديدة الوعورة تضم بالإضافة إلى العراق سورية وتركيا وإيران، وتفرض توزيعة ديموغرافية لا تستوعب طموحات أكزاد المنطقة حتى اليوم على الأقل، بل تفرض نفسها كمهدد دائم لهم. وقادة الإقليم يواجهون صعوبةً في التوفيق بين خطابين أحدهما موجه إلى الداخل الكردي والأخر موجه إلى العراق، وهم (القادة) لا يستطيعون حتى لو أرادوا التخلي عن شعار الدولة الكردية، فالمزاج الشعبي لا يسمح لهم بذلك، فيضطرون إلى التعايش مع شكوك بغداد التي غالباً ما تستعمل تلك القضية للإبقاء على الوضع الكردي تحت طائلة الصدام المؤجل. ترفض بغداد تسليح أو تمويل قوات الشرطة (الأسايش) أو الجيش (البيشمركة) الكرديين، ويشترط المالكي لذلك بأن ينخرطوا ضمن المنظومة الحكومية، وذلك طلب اكبر من قدرة القادة الأكراد على تسويقه شعبياً، فيوصف بأنه وسيلة ضغط عليهم أكثر من رغبة في حل الأزمات. يتهم قادة عرب معظمهم مقرب من رئيس الحكومة نظراءهم الأكراد بأنهم يريدون إبقاء بغداد ضعيفة وقرارها يصدر من أربيل وأن كل التحركات الكردية سياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً تصب في إضعاف باقي أنحاء العراق لضمان قوة الإقليم، وهو اتهام يرفضه الأكراد ويرون انه يمثل مقدمة لتكريس العداء. في خضم الأزمة مع بغداد والمخاوف من المحيط الجغرافي، لا يجد الأكراد مظلة أخرى غير الشعارات «القومية». يدرك العديد من السياسيين والمثقفين الأكراد أن «العامل القومي» لم يعد أولوية في تأسيس المجتمعات في العالم الحديث، لكن «القومية» هي المنبر الوحيد الذي يمكنه أن يقارع المنبر «الديني»، والأحزاب الإسلامية الكردية - الإخوانية والسلفية - على رغم أنها تحمل لقب «كردستاني» إلا أنها تنمو وتتوسع خارج نطاق المفهوم القومي، فتشكل تحدياً يفوق في دلالته أي تحد مستقبلي آخر. «تركيبة الأحزاب الكردية بطابعها القومي - العلماني والمتحدر في الغالب من أصولٍ اشتراكيّة، لا يمكن أن تقاوم إلى مراحل طويلة» كما يقول بعض المثقفين الأكراد الحالمين بظهور تيارات حزبية ليبرالية قادرة على التعايش مع المستقبل ومع حلم الدولة. ثوابت الجغرافيا والمذهب في موازين القوى العراقية، تجمع الأكراد بالسنة العرب ثوابت الجغرافيا والمذهب والتداخل الديموغرافي، ويجمعهم بالشيعة تاريخ في مقاومة السلطة برر تحالفاً استراتيجياً بين الطرفين منذ العام 2003 وحتى عامين ماضيين، عندما بدأت بوادر تحالف كردي - سني لم تكتمل حتى اليوم. والمفارقة التي تبرر الحيرة الكردية، أن التحالف مع الشيعة كان سمح إلى حد بعيد في تكريس تجربة الإقليم كما تبدو اليوم وحمايتها من الزخم القومي العربي في الجوار السني، حيث تصدر السنة رفض الفيدرالية، ودخلوا في معركة كسر عظم وتخوين مع الأكراد في ظل الاحتلال الأميركي. لكن ذلك التحالف قاد إلى متغيرين مختلفين، فالمناطق المتنازع عليها والتي تمثل أساس الخلاف مع بغداد تقع في الحدود الجغرافية مع السنة لا مع الشيعة، والحل في النهاية لا يمكن أن يمر إلا من خلالهم، كما أن الشيعة الذين استقروا في السلطة بدأوا تدريجياً يغادرون المخاوف على تلك السلطة من «انقلاب سني» فأخذت فرضية تقسيم العراق إلى أقاليم تتراجع لصالح الرغبة بتكوين دولة مركزية قوية تجبر الأكراد على الالتحاق بها، في مقابل ظهور بوادر الرغبة في الإقليم لدى الُسَّنة. بغداد من جانبها لا تجيد غير «العربية» وهي تجيدها كمنهج تفكير ونطاق تجربة تاريخية منحازة لم تأبه كثيراً بالانفتاح على ثقافة وطموحات «الآخر» الكردي المنضوي في نطاق الوطن، وبعض كبار الممسكين بالسلطة يجيدون اليوم «الفارسية» بطلاقة أيضاً.. فيما تغيب «الكردية» ويغيب معها فهم «كيف يفكر الأكراد». في المقابل لم تنجح القيادات السياسية الكردية خصوصاً تلك الموجودة في البرلمان العراقي والحكومة، في إيصال هذا الفهم كما يجب، ويتوسع بعض الصحافيين الأكراد المستقلين للقول إن «بعض القيادات الكردية لم تعالج هذا الإخفاق حتى بعد اتساع سوء الفهم ليصبح شعبياً، فأصرت على أن تُصدّر إلى الحوار العربي - الكردي شخصيات لا تجيد إيضاح أفكار الشعب الكردي بقدر إيضاح أهداف ومصالح الأحزاب». قد يكون «حواراً للطرشان» أحياناً، يشبه تلك الغربة التي احس بها مرتادو المطعم الكردي من العرب عندما سمعوا أغنية «كردية» تتغنى بعشاق اضطروا تحت وقع القهر إلى الافتراق في الجبال البعيدة، فالبيئة بعيدة منهم.