للكلمات والمفردات أصول وجذور، ولكن لها - كالكائنات الحية - تطوراً يشمل معانيها ودلالاتها وايحاءاتها ويؤدي بها عبر مسارات وانعطافات الى استخدامات تجعل منها مصطلحاً يغطي بدلالاته قطاعاً أو حقلاً معنياً من المعرفة الإنسانية. كان هذا شأن كلمة "تاريخ" في مسار تطور معالم الحضارة العربية وعلومها، وكان هذا أيضاًً شأن كلمة Histoire وHistory في مسار تطور الحضارة الغربية وعلومها. لا شك في ان المسارات تختلف بين حضارة وأخرى، قد ينطلق المسار في مكان وزمان محدّدين لأسباب جيو - ثقافية أو جيو - اقتصادية أو سياسية، وقد يتوقف هذا المسار لأسباب ذاتية وخارجية، وقد تختلف طبيعة المسارات الحضارية والثقافية في محطاتها وتعابيرها وانساق رؤاها للطبيعة ولما وراء الطبيعة، وللكون وللزمان. لكن هذا الاختلاف لا يلغي جوهر الأشياء، في مبادرات الإنسان واستجاباته للتحديات المشتركة، وفي طرائق تفكيره وسعيه من أجل المعرفة وحل المعضلات الكبرى ولا يبطل أو يعطّل امكانات التفاعل والتلاقح - حتى في مجاري الحروب وخضم الصراع - بين الحضارات واللغات ذات المنحى العالمي. ان كلمة Histoire وHistory أو كلمة "تاريخ" التي أضحت تستخدم في مقدمة ابن خلدون، بمعنى "علم التاريخ" وكما استقر معناه في مدارس علوم القرن التاسع عشر الأوروبي، قطعت مسارات مختلفة ومعقدة في حملها فكرة التاريخ، الى ان وصلت الى تجسدها تعريفاً "لعلم" له حقله وله طريقته، وله أيضاً صفته الكونية والعالمية، شأن كل علم وضعي. في أصل الكلمة في الأدبيات الأوروبية يقول فرانز روزنتال "ان الأصل التاريخي لكلمة Istoria الإغريقية ذو أهمية كبرى. فعندما نشطت الحركة الفكرية والسياسية نشاطاً عظيماً في الدويلات الأيونية في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، كان تعبير Istoria يقصد منه البحث عن الأشياء الجديرة بالمعرفة، أي لنوع المعرفة الذي كان يهم كل مواطن دولة المدينة الواحدة، ألا وهي معرفة البلاد والعادات والمؤسسات السياسية المعاصرة أو الماضية. وسرعان ما أصبحت كلمة Istoria مقتصرة على معرفة الأحداث التي رافقت نمو هذه الظواهر، وبذلك ولد تعبير التاريخ بمعناه الشائع روزنتال، علم التاريخ عند المسلمين فأصل هذا التعبير أخذه الرومان بحرفيته Historia واستمر معناه يشمل معرفة الأحداث وأسبابها. ويضيف المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف J. le Goffان الجذر الإغريقي لكلمة Histoire، هو Istor ويعني "الشاهد" بمعنى البصير أو المبصر Voyeur. وهذا المفهوم للبصر، كمصدر أساسي للمعرفة، يقود الى فكرة ان Istor "المبصر" هو الذي يعرف Istorein وهو أيضاً الباحث عن معرفة. Istorie، هي إذاً تحقيق Enquate وهذا هو معنى الكلمة كما هي لدى هيرودوث في "تواريخه" التي هي أبحاث وتحقيقيات، ويضيف لوغوف: في اللغات اللاتينية الرومنية Romanes ثمة ثلاثة أوجه لمعنى Histoire. أولاً، معنى التحقيق والبحث في الأعمال التي ينجزها البشر، وهو المعنى الذي سيتطور ليؤدي معنى "علم التاريخ"، وثانياً، معنى غرض البحث وهو ما قام به البشر. ووفقاً لذلك يكون التاريخ متابعة لأحداث، أو سرد هذه المتابعة للأحداث Rژcit. أما الوجه الثالث فالتاريخ Histoire قد يكون السرد نفسه. غير ان الاستعمال الشعبي للكلمة Historia أخذ "يتدهور" في اللغات الشعبية المشتقة من اللاتينية في القرون الوسطى، في الفرنسية والانكليزية، الى ان استعادت هذه الكلمة "كرامتها العلمية"، على حد تعبير روزنتال في العصور الحديثة الأوروبية. وطرأ عليها بعض التعديل في الشكل مثل كلمة Historie, History, Histoire. ثم ترجمت الى بعض اللغات المحلية الأوروبية مثل كلمة Gichte الألمانية. والمقصود باستعادة الكلمة "كرامتها العلمية" هو العودة عبر أفكار عصر النهضة الأوروبي وحركة الإنسانوية Humanisme الى اصل استخدامها اليوناني الروماني معرفة الأحداث وأسبابها والإلمام بتطور المؤسسات الإنسانية. ومنذ بدايات النهضة الأوروبية القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر، وحتى القرن التاسع عشر، صارت كلمة History وHistoire تحمل فكرة أعم وأشمل أيضاً، وأصبحت تدل على حقل واسع من المعارف الإنسانية "وأصبح التاريخ فكرة شاملة بمقدوره الإدعاء كمثل الفلسفة بأن كل شيء وكل نشاط هو موضوع لبحثه وداخل ضمن نطاقه" روزنتال ص 17. هذا الاعتقاد ساد في غضون القرن التاسع عشر، وجعل من مفردة التاريخ، History وHistoire مع H كبيرة Majuscule مصطلحاً مشحوناً بالدلالات والمعاني والاستدعاءات الفكرية والثقافية التي تراوح بين معاني فلسفة التاريخ، والثقافة أو المعرفة التاريخية ومهنة المؤرخ وبين ما تستدعيه الأخيرة مهنة التاريخ من طرائق ومناهج تفكير وصياغة. بل ان التعبير الاصطلاحي عن فكرة التاريخ وصناعته والتفكّر به، أضحت مصدراً لاشتقاقات اصطلاحية كثيرة، منها: Historiographie وتعني كتابة التاريخ وسرده rژcit ويمكن ان نترجمها الى العربية بالتأريخ بوضع الهمزة. ومن الاشتقاقات التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر Historicisime وHistoritژ ويمكن ان نترجمها بالتاريخية والتاريخانية. وتشير الأولى الى معرفة حركة التاريخ ووعي انتظامها في مسار له مسبباته وحيثياته ومآله وغايته، فإذا ما أضحت هذه المعرفة فلسفة أو مذهباً تاريخياً doctrine أشير لها بالتاريخانية Historicisme. ويشار الى ان هذه الاتجاهات الفلسفية والعلموية التي شهدها القرن التاسع عشر الأوروبي، ستصبح في غضون القرن العشرين ولا سيما في نصفه الثاني، موضع نقاش ومساءلة ونقد ومشاريع تجاوز معرفي عبر مدارس واتجاهات معرفية جديدة، وكما سنرى مع البنيوية ومناهج تفكيك الخطاب التفكيكية في مرحلة ما بعد الستينات. التاريخ والتأريخ شاع في الأدبيات العربية تعبير "الخبر" و"الأخبار" ولا سيما في القرنين الأولين للهجرة، للدلالة عما تعنيه فكرة التاريخ، بما هي وصف أو سرد للأحداث والوقائع ونقل لها بصورة القصة أو السيرة، أو المعركة المغازي. وهذا لا يعني ان كلمة "تاريخ" لم تستخدم حينها، بل ان هذا الاستخدام أخذ معنى تحديد الزمن لناحية اليوم والشهر والسنة، أي معنى ما يعرف باللغات اللاتينية بdate. والملاحظ ان هذا المعنى معنى التوقيت لا يزال حتى اليوم هو أحد المعاني الذي حافظت عليه وحملته مفردة "تاريخ". فيقال مثلاً، تاريخ رسالة، أو تاريخ وفاة، أو تاريخ وثيقة، أي توقيتها. على ان المفردة، لها أيضاً كينونتها التاريخية حيث تنطلق من أصل من الأصول في تاريخ لغة من اللغات فتتطور في داخلها من خلال استدعاءات وحاجات الحياة أو انها تنتقل الى لغةٍ ثانية بفعل الاحتكاك أو التجاوز، فتكتسب معاني قد تكون جديدة كل الجدة. وهذا ما يعرف في اللغة العربية بالمعنى "اصطلاحياً" وهو غير المعنى لغةً. يرى بعض الدارسين المتخصصين باللغات السامية القديمة ان كلمة "تاريخ" قد يعود الى أصل أكادي أو عبري من "أرخو" أو "يرخ". إلا ان روزنتال يستبعد هذا الاحتمال. الافتراض الذي يرجحه ان تكون هذه الكلمة أتت من العربية الجنوبية اليمن وأصلها "توريخ" وتحوّلت في اللهجة العربية الشمالية الى "تاريخ". كما ان ثمة رأياً يقول انها من أصل فارسي وهي تحوير لتقويم فارسي يدعى ماهروز. أيضاً يلاحظ الدارسون في كل الأحوال ان كلمة "تاريخ" لم يعرفها أدب الجاهلية ما قبل الإسلام ولم ترد في القرآن الكريم. فما ظروف ظهورها واستخدامها عند العرب؟ من بين الروايات العربية التي تناقلها الإخباريون العرب، روايتان تستوقفان: رواية تشير الى ان الكلمة دخلت من عند الفرس، ورواية ثانية انها جاءت من اليمن. جاء في نص الرواية الأولى "ان لفظة التاريخ معربة مأخوذة من "ماه روز" والأصل فيه ان أبا موسى الأشعري كتب الى عمر بن الخطاب رضي الله عنه "انه يأتينا من قبل أمير المؤمنين كتب لا ندري على أيهما. وقد قرأنا صحكاً محله شعبان، فما ندري اي الشعبان هو؟ أهو الماضي أو الآتي". ثم جمع وجوه الصحابة وقال ان الأموال قد كثرت وما قسمناه غير موقت فكيف التوصل الى ما يضبط به ذلك؟ فقال الهرمزان وهو ملك الأهواز وقد أسر عند فتوح فارس وحمل الى عمر وأسلم على يده "ان للعجم حساباً يسمونه ماهروز ويسندونه الى من غلب عليهم من الأكاسرة" فعربوا لفظة "ماه روز بمؤرخ" وجعلوا مصدره التاريخ واستعملوه في وجوه التعريف. وتشير الرواية الى ان الخليفة عمر قال للصحابة: "ضعوا للناس تاريخاً يتعاملون عليه وتصير أوقاتهم مضبوطة في ما يتعاطوه من معاملاتهم". وبعد تداول في أي تاريخ يعتمد: تاريخ الاسكندر أم تاريخ الفرس، "اتفقوا على ان يجعلوا تاريخ دولة الإسلام من لدن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة لأن وقت الهجرة لم يختلف فيه أحد بخلاف وقت بعثه...، فإنه مختلف فيه، وكذا وقت ولادته ... ثم بعد ذلك تركوا تسمية السنين بالحوادث والتاريخ بها. وهذا التاريخ يُعرف بتاريخ الهجرة". ورد النص في كتاب السخاوي: "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ" دار الكتاب العربي 1979. أما الرواية الثانية التي يوردها السخاوي أيضاً فقد جاء فيها: "وذكروا في سبب عمل التاريخ أشياء منها ما أخرجه أبو نعيم الفضل بن دكين في تاريخه ومن طريقه الحاكم من طريق الشعبي ان أبا موسى الأشعري كتب الى عمر رضي الله عنه أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس فقال لبعضهم أرخ بالمبعث وبعضهم أرّخ بالهجرة فقال عمر: الهجرة فرّقت بين الحق والباطل فأرخوا بها ... فلما اتفقوا قال بعضهم إبدأوا برمضان فقال عمر بل بمحرم فإنه منصرف الناس من حجهم فاتفقوا عليه. وقيل أوّل من أرخ التاريخ يعلى بن أمية حيث كان باليمن وذلك ان كتب الى عمر كتاباً من اليمن مؤرخاً فاستحسنه عمر فشرع في التاريخ، أخرحه أحمد بن حنبل بسند صحيح، لكن فيه انقطاع بين عمرو بن دينار ويعلى..." السخاوي ص 80. ويغلب السخاوي فكرة الأصل العربي للكلمة. ويتند الى الأصمعي الذي أشار الى لهجتين عربيتين في لفظ الكلمة فقال "بني تميم يقولون ورخت الكتاب توريخاً وقيس تقول أرخته تأريخاً، وهذا يؤكد كونه عربياً" السخاوي، ص 6. ويدعم روزنتال هذه الفرضية بالعودة الى دراسات تخصصت بالنقوش اليمنية، فيرى ان "جذر أرّخ يظهر في نقش عربي جنوبي كاسم في معنى مقارب للتعابير القانونية العامة التي تعني "حكم" أو "سنّة" وفي حالات بمعنى "حقبة". ويستشهد أيضاً بكونتي روسيني 1929 الذي افترض ان هذا الاسم اشتق من فعلٍ معناه "يقرر أو يصف" ليستنتج خلاصةً مفادها "ان الجذر العربي الجنوبي قد أفاد أيضاً في التعبير عن فكرة "تقرير" وثيقة باستخدام تاريخ، وبذلك كانت نموذجاً لكلمة التاريخ العربية". ويضيف "والى ان ترد أدلة جديدة فإن خير فرضية هو القول في أن هذه الكلمة مشتقة من القمر أو الشهر، وبذلك تكون الترجمة الحرفية لكلمة تاريخ هي التوقيت بحسب القمر، أي الإشارة الى الشهر واليوم من الشهر من طريق ملاحظة القمر. وانتقال المعنى من التوقيت بالقمر الى التاريخ والحقبة يمكن في هذه الحال ان نفترضه كنتيجة لاستعمال الكلمة للدلالة على اليوم والشهر في الوثائق تاريخها، ثم تأتي الخطوة الثانية المنظمة أي سنة الحقبة. ان كلمة تاريخ العربية تعني كلاً من الزمن والحقبة" روزنتال ص 23. ومنذ القرن الثاني للهجرة، أضحت كلمة تاريخ، تستخدم للإشارة الى "كتب التاريخ" أي "كتب الأخبار" على وجه عام، واكتسبت كلمة "تاريخ" معنى اصطلاحياً أوسع لتشير الى تدوين أخبار الإنسان في الزمن. وهذا ما تعبّر عنه التعاريف التي يعرضها كل من الكافيجي والسخاوي في كتابيهما عن "التاريخ". * مؤرخ لبناني، والمقال من مقدمة كتاب "مدخل الى علم التاريخ"، يصدر قريباً للمؤلف.