في مناسبة الذكرى المئوية الثامنة لوفاة ابن رشد ابو الوليد محمد بن احمد بن رشد صدر تلخيص ابن رشد لكتاب "السياسة" لافلاطون باللغة العربية. وهذا الاثر الرشدي يُعدُّ اصله العربي حتى الآن مفقوداً. ولا نعلم عنه إلا انه كان موجوداً في مكتبة الاسكوريال قبل احتراقها في حدود العام 1650م. وقد وصلتنا ترجمة عبرية للتلخيص انجزها صموئيل بن يهوذا من مرسيليا في 1320م، وتوجد منها ثماني مخطوطات متباينة الجودة، وتلخيص عبري ليوسف كاسبي من العام 1331م. وثمة ترجمتان لاتينيتان للنص العبري. الاولى قام بها ايليا دِلْ مديغو في 1491م.، والثانية تعود الى الطبيب اليهودي الطرطوشي يعقوب مانتينوس، اهداها الى البابا بولس الثالث عام 1539م. وطبعت في البندقية عام 1550م. واعيد طبعها 1562م. وحقق المستشرق ارفين روزنتال الترجمة العبرية ونقلها الى الانكليزية مزوِّداً النص المحقَّق والترجمة بحواشٍ وملاحظات قيِّمة، تراعي القراءات المختلفة التي تقدمها المخطوطات العبرية والترجمة اللاتينية التي استعملها، وتحاول شرح بعض ما غمض في النص، وهو كثير. وسبق لروزنتال ان كشف في مقال صغير نشره عام 1934 في مجلة "الجمعية الملكية الآسيوية" ان الفيلسوف الالماني الاصل ليو شتراوس 1899 - 1973 هو الذي لفت نظره حين كان يدرس في برلين في العشرينات من القرن الماضي الى وجود الترجمة العبرية وترجمة مانتينوس اللاتينية، وانه شجعه على تحقيق النص العبري وترجمته. وشاءت الظروف ألاَّ ينشر روزنتال التحقيق والترجمة قبل عام 1956، وأُعيد طبع الكتاب ثانية عام 1966 وثالثة عام 1969. والطبعتان اللاحقتان منقحتان. ويبدو ان ليو شتراوس، الذي هدى روزنتال الى هذا الاثر، لم يكن راضياً عن ترجمته الانكليزية. اذ ان روزنتال انطلق في ترجمته وتعليقاته من الاعتقاد ان ابن رشد كان يعتبر الشريعة الاسلامية مطابقة للنظام السياسي الاكمل، الذي سبق للفارابي ان دعاه "المدينة الفاضلة"، وانه يفضّل بالتالي الشريعة على النظام الفلسفي الذي توارده فلاسفة العرب من افلاطون. وهذا الاعتقاد يعاكس تماماً وجهة نظر شتراوس، التي طرحها اولاً في كتابه "الفلسفة والشريعة" الصادر في اللغة الالمانية عام 1935 ووسَّعها في دراساته اللاحقة. وشتراوس يرى أن فلاسفة العرب، الفارابي وابن سينا وابن رشد، انما فقهوا الشريعة مطابقة لقوانين افلاطون، وانهم اعتبروا النظام السياسي الذي اتى به افلاطون في كتابي السياسة والقوانين النظام الفلسفي السياسي الأمثل، الذي يمكِّنهم من استيعاب الاسلام فلسفياً. ويعتقد شتراوس فضلاً عن ذلك ان اولئك الفلاسفة وجدوا في فلسفة افلاطون السياسية الاطار النظري المناسب لمواءمة الفلسفة والشريعة، العقل والايمان. وهم إن صرّحوا بغير ذلك، فلخشيتهم من اضطهاد الجمهور ورجال الدين. وعرض شتراوس تفسيره هذا لموقف الفلاسفة العرب من افلاطون والاسلام في دراسات مستفيضة، خص بها بشكلٍ أساسي فكر الفارابي. وبما ان روزنتال قدَّم الأثر الرشدي السياسي الوحيد للقارئ بشكل لا يتوافق مع تفسير شتراوس المذكور، دفع الاخير أحد تلامذته، رالف لرنر، الى القيام بترجمة انكليزية جديدة للنص العبري. ويحاول لرنر في ترجمته التي صدرت عام 1974، مُهداةً الى شتراوس، ان يبيّن ان ابن رشد لم يعترف بتفوق الشريعة على الفكر الافلاطوني السياسي، وانه لذلك نادراً ما كيَّف "الجمهورية" للاسلام، وانه ان فعل ذلك فليقدِّم لقرائه امثلة معروفة لديهم، فيسهل عليهم الفهم. ويختم لرنر مقدمته للترجمة باعتبار ابن رشد "الرفيق المخلص لافلاطون". وهو بذلك امين على تعليم شتراوس الذي رأى ان فلاسفة العرب، واولهم الفارابي هم خير من بعث فلسفة افلاطون في العصر الوسيط وابرز اهمية جانبها السياسي. الى جانب الترجمتين الانكليزيتين المشار اليهما توجد ترجمة للتلخيص الى اللغة الاسبانية قام بها ميغل هرناندز صدرت في مدريد عام 1986 واعيد طبعها حتى الآن ثلاث مرات آخرها عام 1994. وتوجد ترجمة المانية صدرت في زوريخ عام 1996 قام بها سيمون لاور، معتمداً على النص العبري الذي حققه روزنتال ومستعملاً ترجمته الانكليزية ومقدمته وتعليقاته، من دون اغفال ترجمة لرنر. قمية الكتاب وصعوبته الكتاب فريد من نوعه وبقدر ما ان التلخيص مهم لمن يدرس فلسفة ابن رشد السياسية، فهو عسير الفهم كثير التعقيدات. فضياع الاصل العربي من جهة، والتشويش في المضمون الذي طرأ على الترجمة العبرية، من جهة اخرى أدخلا على النص الرشدي، بلا شك، تغييرات بالغة انظر الحياة، 5 آذار / مارس 1998، حيث عرض وليد نويهض تحت عنوان "تعليقات على "ندوة تونس" عن ابن رشد. كشف الغطاء عن اخطاء الترجمة من العربية الى العبرية" دراستين قدمهما كلّ من عبدالقادر بن شهيدة واحمد شحلان حول هذا الموضوع الخطير. أضف الى ذلك الالتباسات الكثيرة اللاحقة بمخطوطات ذلك العصر وما يزاد من ملاحظات هامشية وتعليقات للمترجم والناسخ والقارئ ومالك المخطوطة، ممّا يُعمّق الشرخ بين الأصل والمنسوخ. وأجمع دارسو النص ومترجموه الحديثون على ان الرحلة الاوديسية التي قام بها تركت فيه آثاراً بالغة من الغموض والركاكة والتحريف. وهذا ما دفع بروزنتال الى ان يشير الى الاماكن الغامضة او غيز المفهومة فيه بعلامات استفهام، تدل على حيرة الباحث إزاء ما يقرأه ويترجمه، وعدم قدرته على استيضاح قصد ابن رشد. ويذهب لرنر في مطلع مقدمته الى الاعتراف ان ما يضعه في يدي القارئ ليس إلاّ "قريباً شيئاً ما" ممّا كتبه ابن رشد في قرطبة قرابة انتهاء القرن الثاني عشر للميلاد. الترجمة العربية لنوجّه النظر الآن الى الترجمة العربية الحديثة العهد التي قام بها الدكتور حسن مجيد العبيدي وفاطمة كاظم الذهبي ونشرتها دار الطليعة في بيروت. يضم الكتاب، الى جانب تقديم الدكتور العبيدي، ترجمة لمقدمة ارفن روزنتال - أُسقطت منها المقاطع التي تناول فيها روزنتال تفصيل الصعوبات التي واجهته في تحقيق وترجمة نص ابن رشد ووصف المخطوطات التي اعتمدها - وترجمة لمقدمة رالف لرنر على شيء من الاختصار. وتحتل ترجمة تلخيص السياسة لأفلاطون القسم الأكبر من الكتاب، مزوّدة بالحواشي ومذيَّلة بمسرد يضم الى جانب المعاني العربية المصطلحات الانكليزية التي ادرجها لرنر في نهاية ترجمته وقابَلَها بمعانيها العبرية والعربية. ونظراً لأهمية الأثر الذي يُوضع حديثاً للمرة الالوى بين يدي القارئ العربي وقيمة النظريات الفلسفية السياسية التي ضمّنها إياه ابن رشد، سواءً نقلاً عن افلاطون او تفاعلاً منه مع التاريخ السياسي الاسلامي والاندلسي، نود ان نعرض الكتاب الجديد ونتناوله بالتقويم الذي يستحقه والنقد العلمي المحض، مع تقديرنا الصادق لجهود المعرِّبين. وسنتناول بالبحث اسلوب التعريب ولغته ونواحيه الفنية ونواقص الترجمة الحالية. يُعلن المعرِّبان في تنبيه يُسبِقان الترجمة به انهما نقلا نص ابن رشد من الانكليزية الى العربية وانهما اعتمدا في ذلك على الطبعة الثالثة من ترجمة روزنتال الصادرة عام 1969. ويُضيفان انهما قاما بمقارنة ترجمة روزنتال بترجمة لرنر التي نُشرت عام 1974. ثم يلاحظان انهما لم يرجِّحا "ترجمة على ترجمة، إلا بقدر ما يسمح الأمر بتقديم نص لإبن رشد أقرب ما يكون الى الصحة". ص 61 مقولة المعَرِّبين تفيد انهما عاملا الترجمتين الانكليزيتين بالتساوي في سياق نقلهما النص الي العربية. هذا على رغم إعلانهما الصريح المُسبق انهما يعتمدان على ترجمة روزنتال أساساً. ويتجاهل المعرِّبان، كما يبدو، امراً يجدر أخذه في الاعتبار، وهو أن كلاً من الترجمتين الانكليزيتين تتبع غرضاً فلسفياً معاكساً للاخرى، كما سبق وذكرنا. في خضم المعمعة الفكرية التي يشكل تلخيص ابن ر شد لسياسة أفلاطون أحد أهم معالمها ومراجع المتورطين فيها، يضيع المعرّبان تماماً. فهما لا يفقهان، كما يبدو خلفية الترجمتين الموجودتين في متناولهما، ولا يأخذان موقفاً واضحاً منهما، على رغم أنهما يختلفان في الغرض وبالتالي في استعمال المصطلح الفلسفي. أما زعم المعرِّبين أنهما لم يرجّحا ترجمة على ترجمة إلا بهدف "تقديم نص لابن رشد أقرب ما يكون الى الصحة" فيطرح السؤال الأساسي حول المعيار الذي يلجأ إليه المعربان لبلوغ غايتهما. إن جهل المعرِّبين للّغة العبرية - وفيها أقدم ترجمة وصلتنا لنص ابن رشد - وعدم معرفتهما باللغة اللاتينية، جعلهما متّكلين تماماً على الترجمتين الإنكليزيتين - أو بالأحرى على ترجمة روزنتال أولاً، كما يظهر من تقسيم فقرات الكتاب وترقيمها - من دون أن يستطيعا تبرير ترجيحهما ترجمة على ترجمة. أمام جهل المعربين باللغتين اللتين نُقل إليهما النص قديماً وعدم استعمالهم الترجمتين الحديثتين الأخريين، الألمانية والإسبانية - ويبدو أن المعربين لا يعلمان بوجودهما إذ لا يُشيران إليهما لا من قريب ولا من بعيد - تسقط إمكانية الرجوع الى الترجمات العديدة المتوافرة ومراعاتها في تعريب النص. وهذا ضروري وبالغة الأهمية: فاللغة العبرية - على رغم ما أُشير إليه من أخطاء في النسخ والترجمة - أقرب مما هي الإنكليزية عليه الى العربية، وكلاهما لغتان ساميتان شقيقتان. وكان يفضل أن يتم التعريف من العبرية لا من سواها، لتقارب المصطلحات وتركيب العبارة المتشابه. الشريعة والفلسفة اعتقد ابن رشد أن النظر الفلسفي والشريعة لا يتعارضان أصلاً، إنما يوافق أحدهما الآخر في الحق الذي هو مصدر الشريعة ومنتهى السعي الفلسفي في آن. الحق، إذاً، هو نقطة البدء والنهاية للشريعة وللفلسفة. والاختلاف في العوارض ومستوى عقول البشر. من هذا المنطلق استطاع ابن رشد - وقبله الفارابي وابن سينا - أن يتلقَّف الخطاب الفلسفي اليوناني من دون أن يكفر بإسلامه. فهو كسابقيه يؤمن بوحدانية الحق وشموليته وغزارة ظواهره. هذا الاستطراد أوجبه السؤال عن كيفية جمع ابن رشد بين أفلاطون والإسلام، الذي تظهر حدته في التعامل الحديث مع النص الرشدي، موضوع بحثنا. والمعرِّبان يهملان للأسف هذا التساؤل النظريّ والتاريخي وينطلقان من مسلِّمات شبه ايديولوجية، تبرز إسلام ابن رشد لا شك فيه، متجاهلة طروحات لرنر المرجِّحة كفة الفلسفة على كفة الإسلام في فكر ابن رشد، ومتجاهلة أيضاً ما يصرّح به ابن رشد نفسه في آخر تلخيصه حين يقول: "العديد من الذين يتمسّكون بالسنن والشرائع الدينية تنقصهم... هذه الحكايات" ص231. وثمة في هذا الكتاب وغيره العديد من أقوال رشدية مماثلة، مما يبرِّر السؤال عن كيفية جمعه بين الفلسفة والإسلام، وحول صحة إيمانه. ويعترف المعرِّبان بالصعوبات التي واجهتهما في قراءة الترجمة الإنكليزية. والصعوبات جليلة بحق ولا يمكن إنكارها. وقد وضع روزنتال، كما قلنا، علامات استفهام في الأماكن الغامضة. وكِلا المترجمين الى الإنكليزية استعملا المعقَّفات ][ للدلالة على ما اضطُر الى زيادته لإكمال المعنى، حيث صَعُبت قراءة المخطوطة أو حُذفت كلماتٌ، مما جعل العبارات مبهمة مُستغلقة على الفهم. وتفتقر الترجمة العربية الى كل ذلك، وكأن المعربين نجحا في كشف مضامين النص وإزالة كل غموض يشوبه، عكس ما يُصرحان به. فلماذا هذا الاستهتار العلمي؟ ولماذا يُمنع القارئ العربي من الاطلاع على مقدار الغموض، ويُوهَم أن النص بجملته خالٍ من التشويش والاضطراب، وأن مَن ترجمه الى الإنكليزية لم يلجأ الى الزيادة و"الترقيع" حيث لزم الأمر؟ والأسوأ من ذلك أن الصعوبات التي يُقر المعرِّبان أنها واجهتهما في قراءة الترجمة الإنكليزية كانت، كما يبدو، أعمق ممّا يُسمح به لمترجِم، فهي أدت الى سوء فَهم الإنكليزي المُعتمد عليه، في أكثر من موقع. ولا يسعنا الإشارة الى كل الجمل والعبارات التي عُرِّبت خطأً، وقلما خلت صفحة منها، ممّا يبعث الحزن في نفس القارئ العربي الذي سبق له ان اطّلع على الترجمات الأخرى عن كثب. وأكتفي بتقديم النماذج الآتية: 1- عُرِّبَ المقطع الآتي كما يلي: "اذن، أصبح من البيّن له أن هذه المدينة يجب أن لا تستعمل الذهب أو الفضة. وإنْ ساوره الشك في ما يخصّ الحرب مع المدن المجاورة التي تريد المال والقوة منا، فقد أكد أفلاطون بالقول إنه من المحتمل بل ومن المستبعد شنّ الحرب ضد هذه المدن الخارجية. لكنه عندما بحث المسألة أصبح لديه اقتناع بأن الأمر يكون على خلاف ما اعتقده تماماً، أي أن المال وكثرته يجعل مالكيه مكتفين به، ويجعلهم يهملون فن ومهارة الحب". ص 109و. والمقطع يرد في ترجمة روزنتال ص 149، وترجمة لرنر ص 42 وترجمة لاور ص 60، ويفيد في العربية ما معناه: "إذ أصبح بيّناً لديه أن هذه المدينة يجب ألاّ تستعمل الذهب أو الفضة، ساوره الشك في ما يخص محاربة مدن أخرى، أهلها ذوو غنىً وقوة ]لرنر ولاور: حاكمها ذو غنى وقوة[. وهو يقول، إنه من المحتمل أنْ تكون ]هذه المدينة[ أضعف من أن تشن الحرب على مدن كهذه. ولكنه عندما بحث المسألة تبيّن له أن الأمر على عكس ذلك. فالغنى وكثرة الممتلكات تسبب البَطَر، وتجعل أصحابها يهملون علم الحرب وممارسته" ما يرد بين المعقَّفات ][ في المقاطع التي عرَّبها كاتب المقال هو إضافةٌ منه لإجل مزيد من الإيضاح. نرى مما تقدّم أن ابن رشد لم يقصد الإشارة الى أن المدن الأخرى المجاورة تبغي انتزاع ثروة المدينة الفاضلة، التي تستعمل ذلك ذريعة للبدء بالحرب. كما أننا لا نفهم ماذا يقصد المعربان بالقول: "إنه من المحتمل بل ومن المستبعد شن الحرب ضد هذه المدن الخارجية". والمعنى واضح كما بيَّنا أعلاه، وتُجمع عليه الترجمات الثلاث التي أشرنا إليها. أخيراً ينقل المعربان تعبير روزنتال "Self- satisfied" بالحرفية "مكتفين به" متجاهلين الملاحظة التي يوردها روزنتال في أسفل الصفحة أن المقصود حرفياً ما يترجمه الى الإنكليزية في الحاشية ب"Cause Kicking". وهذا ما يعني في العربية "تُسبِّب البطر". 2- مَثل آخر على تحريف الترجمة ما يرد على الصفحة 143، الحاشية رقم 1، وهي ترجمة لحاشية مستفيضة ترد في طبعة روزنتال الثالثة ص 272. ولطول الحاشية نستغني عن إثبات محتواها الكامل ونكتفي بالإشارة الى النقاط الآتية: - السؤال في الفقرة المعنية موجَّه الى سقراط ولا يأتي على لسانه كما يترجم المعرِّبان خطأً. - "الملاحظة السابقة" التي تحمل رأي ابن رشد في إمكان نشوء المدينة الفاضلة هي ملاحظة روزنتال الواردة في طبعته الثالثة على الصفحتين 271 و272 وهي غير منقولة في التعريب. لذلك وجب أن تسقط الإشارة إليها، لأنها تُحيّر القارئ العربي الذي سيجد أن الملاحظة السابقة في النص العربي لا علاقة بها بما يُشار إليه. - يشير روزنتال الى ما قاله الفارابي في كتاب تحصيل السعادة طبعة حيدر أباد، ص 45، سطر 5 وو عن حاجة "الفيلسوف بالحقيقة" - وليس "الفيلسوف الحق" كما يورد المعربان، وهما يخالفان بذلك التعبير الفارابي الذي يستشهدان به، وتعبير ابن رشد أيضاً الذي ذكر "الحكماء الحقيقيين" - الى "الاعتقادات الدينية". أما المعرِّبان فيجعلان حاجته "للإيمان الديني، القوي" ضاربين عرض الحائط بقول الفارابي وبترجمة روزنتال على حدٍّ سواء. ويتكرّر الخطأ بحق الفارابي وروزنتال، حين يزعم المعربان "أن الفيلسوف هو الرئيس الأول وواضع النواميس والأحكام"، بينما المقصود في نص الفارابي ونقل روزنتال هو مساواة "الفيلسوف والرئيس الأول وواضع النواميس والإمام". - أما قول المعربين "وما من شك في أن ابن رشد كان يعرض هنا الباع الطويل للفارابي، وهو الذي اعتمده أساساً للعلاقة بين الفلسفة والشريعة"، فخير دليل على سوء التعريب. إذ إن روزنتال يقول ما تعريبه: "ولا شك في أن ابن رشد عرف عرض exposition الفارابي المسهب، وهو أساسي لطرحه الخاص حول العلاقة الحيوية بين الفلسفة والشريعة". - أما السطور الأخيرة من الملاحظة فتأتي بتحريف لترجمة روزنتال. يقول المعربان: "وما نقوله هنا هو مثال جيد على كيفية توظيف ابن رشد لمفاهيم ارسطو مع الإسلام ومع الفارابي. والقرآن الكريم على أي حال هو الأصل الذي تقوم عليه الشريعة وبموجبه، ولهذا السبب يُعتبر غاية قصوى لكل ربط بين الفلسفة والشريعة". أما روزنتال فيقول فعلاً: "ومقطعنا ]يقصد المقطع الرشدي الذي تعود إليه الملاحظة[ مثل جيد على كيفية مزج ابن رشد لمفاهيم أرسطوطالية ومفاهيم إسلامية، وله، في هذا، في الفارابي سابقٌ، شديد الأثر عليه. ومن الواضح أن "الناموس" ]يوردها بالعبرية: نِيموس[، رغم أنه ذو صلاحية شاملة، ليس شريعة موحى بها بواسطة النبي. مع ذلك فإنه لمن الغريب أن تستعمل "شريعة" ]يوردها بالعبرية: تُورُوت[ للشرائع التي من وَضْعِ البشر. ولكننا لن نستطيع الوصول الى حكم نهائي في هذه المسألة الحيوية والمحيِّرة، بدون النص العربي الأصلي. وفي أي حال، فإن الناموس العام يحتل مرتبة ثانية قريبة من مرتبة الشريعة ]بمعناها الديني الإسلامي[، والكثيرُ من مبادئهما متماهٍ. لذلك يمكن الحديث عن تماهي هدفيهما". 3- وها مثل آخر، على سوء التعريب الذي يسبب غموض المعاني. ترد على الصفحة 193 الفقرة الآتية: "وإذا كانت قوى النفس منفصلة بعضها عن بعض، فإن القوة الشهوية لا وجود لها بسبب تحكّم القوة العاقلة، كما يعتقد الكثير من الناس، وبها يكون الاجتماع الإنساني اجتماع الأحرار". المقطع نفسه يرد في ترجمة روزنتال ص 218 ولرنر ص 116، ويفيد ما معناه: "وإذا كانت قوى النفس منفصلة بعضها عن بعض، والقوى السفلى ليست موجودة لأجل ]خدمة[ الأرفع مرتبة - كما قد يظن الكثير من الناس - فإن الاجتماع الإنساني يكون عندئذٍ اجتماع الأحرار". ما أشرنا إليه من أخطاء في التعريب كان على سبيل المثال فقط. ولا تكاد تخلو صفحة من مثله. ومَن شاء كشف المزيد، ما عليه إلا مقابلة ترجمة روزنتال بالترجمة العربية. أما في تعريب المصطلحات فيرتكب المعربان أخطاء أيضاً، نشير الى بعضها: 1- ينقل المعرِّبان كلمة "ناموس" وجمعها "نواميس" بكلمة "دستور" وجمعها "دساتير". روزنتال يستعمل دائماً تعبير General law/laws، فيما أن لرنر يحتفظ بلفظة nomos اليونانية وجمعها nomoi. أما المعرِّبان فيأتيان بلفظ "دستور" وجمعه "دساتير"، الذي لم يكن على الأرجح ليخطر ببال ابن رشد. إذ إن الاستعمال الشائع لدى فلاسفة الإسلام الوسيطين كان للألفاظ: "شرائع، نواميس، سنن. فلماذا دساتير؟ أما حجة المعربين لهذه الاستحداث وتحاشي استعمال كلمة "نواميس" - التي نجدها بكثرة لدى الفارابي وابن سينا - فهي أن "النواميس تأخذ طابعاً إلهياً" ص 114، الحاشية 7 وأن "لفظة "ناموس" تدل على معنى رسالي سماوي، أما لفظة "دستور" فتعني قانوناً وضعياً يضعه الملك أو الرئيس لقيادة الدولة" ص 137، الحاشية 3، وهذه حجة غير مقنعة إطلاقاً. فلمحة واحدة على آثار الفارابي وابن سينا تكفي للملاحظة أن هذين الفيلسوفين يستعملان لفظة "ناموس" وجمعها في سياقات الفارابي وابن سينا تكفي للملاحظة أن هذين الفيلسوفين يستعملان لفظة "ناموس" وجمعها في سياقات مماثلة لسياق ابن رشد الراهن. والحقيقة، أن لفظة "ناموس" تحمل أحياناً - وليس قطعاً كما يزعم المعرِّبان - صفة سماوية، هي بالذات النقطة الفلسفية التي لم يحسم النقاش الدائر منذ زمن عليها ويتمحور بشكل أساسي حول نظرة الفلاسفة المسلمين الوسيطين الى الشرع الديني وكيف يقيّمون علاقته بالفلسفة الأفلاطونية. والتهرّب من استخدام هذه الكلمة الواسعة المدلول لا يحلّ المشكلة النظرية، إنما يشبه اخفاء النعامة رأسها في الرمال، متوهِّمة أنها بذلك تستطيع تفادي الخطر الزاحف اليها. 2- ينقل المعرِّبان لفطة imitate روزنتال ص 216، لرنر ص 114 بلفظة "النزوع" ص 198 والمقصود هو مصطلح "المحاكاة" الذي يلعب دوراً مهماً في فلسفة الفارابي ومن تبعه من فلاسفة العرب. كذلك ليس من مبرِّر لاستبدال لفظة "الإرشاد" بلفظة "الخدمة" ص 190، ممّا يسبّب تكراراً قبيحاً للفكرة الواحدة tautology ويشوّه قصد ابن رشد من القول الجميل إن السادة يخدمون أهل المدينة إذ يوجهونهم ويرشدونهم. 3- ثمة نوعٌ آخر من الأخطاء سبَّبه جهل المعرِّبين باللغتين اليونانية والألمانية، التي يستشهد رزونتال بكتب ظهرت فيها. فإذا محاورة أفلاطون "Politikos" رجل الدولة تظهر مرة "Politika" ص 77، حاشية 1 ومرة أخرى "Politiks" ص 154، حاشية 3. وإذا عنوان كتاب المستشرق الألماني برغشتراسر Bergstraesser، الذي يذكره روزنتال بالألمانية، وترجمته "حنين بن إسحاق وترجمات جالينوس السريانية والعربية"، وينقله المعرِّبان كالآتي: "حنين بن إسحاق والنقول من السريانية الى العربية لمؤلفات جالينوس" ص 41، حاشية 4 وص 66، حاشية 6 وكتاب البحّاثة الكبير موريتس شتاينشنايدر "الترجمات العبرية في العصور الوسطى" يصير "الأعمال العبرية". من الناحية الفنية يحفل الكتاب الى جانب الأخطاء الكثيرة الحاصلة في التعريب بالأخطاء المطبعية. وهي لا تخفى على القارئ البصير. ويعاني الكتاب من نواقص تقلل من قيمته لدى الدارس والباحث، على رغم أهمية الأثر الذي يحمله بين دفتيه. فالمعربان لا يزودانه بمسارد المراجع والمصادر المذكورة في المقدمات المستفيضة على رغم أهميتها العلمية، ويهملان ذكر تواريخ صدور الدراسات عن ابن رشد التي تناقَش في مقدمة المعرِّب، ولا يوردان أي ثبت بأهم المصطلحات وأسماء الأعلام مع الإشارة الى أرقام الصفحات حيث ترد على رغم أن كل ذلك متوافر في الطبعتين الإنكليزيتين، وهو يسهِّل الاستفادة العلمية من الكتاب. ويشار الى أن المسرد المنقول عن لرنر "لما له من أهمية" لا يخلو هو أيضاً من أخطاء في النقل. فمثلاً تعرَّب لفظة Primacy ب"رؤساء" وهي - أيضاً لدى لرنر - تعني "رئاسة"، ولفظة Self-control ب"ثابت النفس" ولرنر يقابلها ب"ضَبْط النفس"، ولفظة Love ب"أحباب، محبة" وهي تعني بحسب لرنر "محبة"، وتُنقَل ترجمة التعبير "Pretenders to Philosophy"، الذي يذكر لرنر خطأ أن نظيره العربي هو لفظة "تَفَلْسُف"، كما هي من دون أن يلتفت المعرِّبان الى تصحيح معنى التعبير الذي يعني "المُتفلسفِين". والملاحظ أخيراً أن كتابة بعض الكلمات والمقاطع بالخط الثخين أمر يحيّر القارئ، الذي لا يدري لماذا هذا التشديد، الذي لا يرد في أي من الترجمات الأخرى، ولم يمهِّد له المعرِّبان بأية إشارة. أشرنا سابقاً الى خلو النص الرشدي المعرَّب من كل الإشارات التي تحفل بها ترجمتا روزنتال ولرنر، التي تدل على الأماكن المشوشة في المخطوطات، وتحدد الزيادات التي اضطر إليها المترجم لإكمال المعنى. وهذا النقص الفادح لا يؤدي الا الى انخداع القارئ، الذي لا يسعه اكتشاف الأماكن المشوَّشة فيظن أنه يحصل على نص عربي، نُقِل كاملاً. * باحث في الفلسفة الإسلامية.