إحباط تهريب 198 كجم «قات» بمنطقتي عسير وجازان    الأمم المتحدة: الاحتياجات الإنسانية في قطاع غزة «هائلة»    نائب رئيس مجلس الوزراء وزير داخلية الإمارات يغادر الرياض    وزير الخارجية ونظيره الأمريكي يبحثان العلاقات الثنائية بين البلدين    «دوران» كلف خزينة النصر 46 مليون يورو    أمير الرياض يعزّي في وفاة الأميرة وطفاء بنت محمد آل عبدالرحمن آل سعود    المملكة تضيء معرض القاهرة بالثقافة والترجمة    الفتح يتعاقد مع حارس النصر "العقيدي" على سبيل الإعارة    مسؤولة بالاحتياطي الفدرالي تدعو لمواصلة خفض أسعار الفائدة لحين تراجع التضخم    تعادل سلبي بين الفيحاء والتعاون في دوري روشن    «سيوف» السعودية تخطف التوقيت الأفضل في ال«جذاع»    الهلال يتفنن برباعية على حساب الأخدود    «التعليم» تؤكد على إداراتها التعليمية تطبيق الزي السعودي داخل المدارس الثانوية    غوارديولا: مواجهات السيتي والريال المتكررة أصبحت مثل الديربي    تدريب 15 طالبة جامعية على نظم المعلومات الجغرافية بالشرقية    مخيم "مشراق 2″يختتم فعالياته التوعوية تحت شعار "شتاؤنا غير مع تواصل"    موسكو: «البريكس» لا تخطط لإصدار عملة موحدة    التوعية ودعم الشباب.. أبرز توصيات ورشة "إعمار الأرض" بالأحساء    تعليم شرق الدمام" يكرم الفائزين بمسابقة تحدي القراءة العربي    الخليج يتعاقد مع النمساوي "توماس مورغ"    «صفقة السبت».. إطلاق 3 أسرى إسرائيليين مقابل 90 فلسطينيا    الأستاذ يحيى الأمير.. "وجدت نفسي تلميذًا بين يدي الطبيعة ومواسم الحصاد كانت تأسرني"    رئيس «مكافحة الفساد»: قواعد «التسويات المالية» تهدف إلى استعادة الأموال المنهوبة    المربع الجديد يستعرض رؤيته لمستقبل الحياة الحضرية في منتدى مستقبل العقار    حرس الحدود بالمنطقة الشرقية ينقذ امرأة من الغرق أثناء ممارسة السباحة    خطيب المسجد النبوي: ثقوا بربكم الرزاق الشافي الغني عن الخلق فهو المدبر لأموركم    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 55 لإغاثة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة    دور برنامج خادم الحرمين الشريفين في إثراء تجربة المستضافين في ندوة بمكة اليوم    رحيل الموسيقار ناصر الصالح    تقييم جديد لشاغلي الوظائف التعليمية بالمملكة من 5 درجات    العملات المشفرة تتراجع.. «البيتكوين» عند 104 آلاف دولار    رياح نشطة مثيرة للأتربة والغبار على تبوك والمدينة ومكة    ارتفاع اسعار النفط    «سلمان للإغاثة»: تدشين مشروع أمان لرعاية الأيتام في حلب    هل سمعت يوماً عن شاي الكمبوتشا؟    دهون خفيّة تهدد بالموت.. احذرها!    للبدء في سبتمبر.. روسيا تطلق لقاحاً مضاداً للسرطان يُصنع فردياً    رابطة العالم الإسلامي تعزي في ضحايا حادثة اصطدام الطائرتين في واشنطن    القاتل الثرثار!    وفاة ناصر الصالح    العنزي يحصل على درجة الدكتوراة    هل تنجح قرارات ترمب الحالية رغم المعارضات    السفراء وتعزيز علاقات الشعوب    نيابة عن أمير قطر.. محمد آل ثاني يقدم العزاء في وفاة محمد بن فهد    التراث الذي يحكمنا    لماذا صعد اليمين المتطرف بكل العالم..!    مصحف «تبيان للصم» وسامي المغلوث يفوزان بجائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الأميرة وطفاء بنت محمد آل عبدالرحمن آل سعود    تجمع القصيم الصحي يفوز بأربع جوائز في ملتقى نموذج الرعاية الصحية السعودي 2025    "مفوض الإفتاء بمنطقة حائل":يلقي عدة محاضرات ولقاءات لمنسوبي وزارة الدفاع    مستشفى خميس مشيط للولادة والأطفال يُنظّم مبادرة " تمكين المرض"    الديوان الملكي: وفاة الأميرة وطفاء بنت محمد آل عبدالرحمن آل سعود    المفتي للطلاب: احذروا الخوض في منصات التواصل وتسلحوا بالعلم    تعزيز العلاقات البرلمانية مع اليابان    عشر سنبلات خضر زاهيات    أهم الوجهات الاستكشافية    خطورة الاستهانة بالقليل    حسام بن سعود يستعرض مشروعات المندق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"صيغة تاريخ للقراءة" لألبرتو مانغل . معالجة موسوعية ممتعة لحكاية الإنسان مع الكتاب
نشر في الحياة يوم 03 - 03 - 1999

عنوان المحاولة الممتعة والشيقة جداً التي وضعها الكاتب والقارىء الأرجنتيني الأصل ألبرتو مانغل، والمنقولة من الإنكليزية الى الفرنسية منذ بضعة أشهر لدى دار نشر "أكت سود" في باريس، هذا العنوان يحمل شيئاً من اللبس المتعمد والمقصود، وهو أمر لا يخلو من الدلالة، ذلك أن العنوان هذا يحتمل معنيين اثنين تحملهما كلمة واحدة بالفرنسية والإنكليزية وهي كلمة "Histoire" أو "History"، التي تعني في سياق معين "الحكاية" وتعني في سياق آخر "التاريخ". على أن قراءة الكتاب هذا ذي الطابع الموسوعي والسردي في آن، والممتد على نحو أربعمئة صفحة من القطع الكبير، تدفعنا الى ترجيح ترجمة العنوان كما يلي: "صيغة تاريخ للقراءة". هذا مع العلم بأن العنوان يحتمل للوهلة الأولى أن يكون "صيغة حكاية للقراءة". وها هنا تتضح دلالة اللبس التي يحملها العنوان المفتوح على غير قراءة وترجمة. ذلك أن الكاتب مانغل الذي يمكن وصفه بدون مبالغة بأنه قارىء كبير ومتعدد المشارب والآفاق، يدرك على الأرجح أن بين الحكاية والتاريخ أواصر تحدّر ونسب وقرابة، في المعنى العريض لهذه الكلمات، بحسب ما رأى منذ عقود مؤرّخون معروفون سعوا الى نقل التاريخ من دائرة الحكاية التقليدية لسير وتراجم وقصص الملوك والأبطال والمعارك، الى دائرة الخوض في المشكلات والمسائل.
والحق أن كتاب ألبرتو مانغل الذي لاقى لدى صدوره نجاحاً وصدى واسعين نسبياً، يظل يتأرجح بين وجوه بارزة من سيرة الكاتب الذاتية مع القراءة والكتاب، وبين وجوه أكثر اتساعاً وشمولية تطاول أجزاء أساسية من تاريخ الظواهر التي صاحبت نشأة الكتاب وتطوره وتداوله، بما في ذلك، بل خصوصاً سلوكات القراءة. ويمكننا أن نذهب أبعد من ذلك أثناء رصدنا لتنقلات الكاتب بين الحكاية والتاريخ، بحيث يسعنا أن نلاحظ بأن هذه التنقلات والانعطافات في لغة السرد ومنحاه، لا تقتصر على التقابل العريض بين السيرة الذاتية للكاتب وأشكال معاقرته وإدمانه على القراءة منذ حداثة سنّه، وبين معالجة تاريخية لظاهرة القراءة منذ أقدم الأزمنة وحتى أيامنا هذه. نقول: لا تقتصر لأن وجهي الحكاية والتاريخ ينبثان ويتوغلان في آن معاً في رواية السيرة الذاتية للقراءة، وفي الرواية ذات الطابع الموسوعي الموثّق لتاريخ قراءة الكتاب.
بعبارة أخرى، وبغض النظر عن مستوى وصعيد التناول الذي يعتمده مانغل، يجمع الكتاب، أي "صيغة تاريخ للقراءة" بين الفائدة والمنفعة العلميتين وبين الإمتاع المستأنس الى شتى الحكايات والقصص، الحاصلة أو المتخيلة، المتعلقة بأشكال وصور القراءة. ويتألف من ذلك لوحة كلامية مدهشة ومشوقة يمكن وصفها بأنها صيغة متجددة "للإمتاع والمؤانسة"، بحسب تصوره لوظيفة المعرفة أجازه أبو حيان التوحيدي.
بالفعل، على امتداد الفصول الاثنين والعشرين للكتاب والتي تضم تقريباً مقاربات لكافة الظواهر المتصلة بفعل القراءة وعملها، ينتقل مانغل، وينقلنا معه، بين أزمنة وأمكنة شديدة التباعد الجغرافي والتاريخي. وليس لنا أن نحاسبه على عدم احترامه أحياناً لضرورات حصر المقاربة في مجتمع معين وفي حقبة زمنية معينة، لأن غرض الكتاب، وهو محاولة نصف أدبية ونصف فكرية - تاريخية، ليس البحث العلمي في ظاهرة القراءة، بل هو، على الأرجح، محمول على الرغبة في التعبير عن لوعة القراءة وتسقط وجوهها حيث يمكن لمانغل أن يجدها في العالم الشاسع هذا، الممتد من الزمان والمكان. وهذا ما يحمله على الانتقال بين حضارة الرومان والإغريق وأوروبا المسيحية والعالم الإسلامي وحضارات الشرق الصين واليابان والحضارات القديمة جداً السابقة على تاريخنا الإصطلاحي والتي في كنفها نشأت بدايات الترميز والتسجيل والتدوين ولو من خلال حفر رسوم وعلامات على ألواح من الصلصال كما كان الأمر في بلاد الرافدين وفي الحضارات البابلية والسومرية - والراجح أن مانغل الذي كان في صباه يقرأ طوال عامين، وفي أوقات معينة كل أسبوع، على مسمع الكاتب الأرجنتيني خورخي لوي بورخيس الضرير، نصوصاً لشعراء وأدباء كبار ويستمع الى تعليقات بورخيس الذكية، الراجح أنه استقرّ على الاعتقاد، كما هي حال بورخيس، بأن العالم كتاب ضخم لكل بلد وحضارة نصيب من صفحاته، وما يريد أن يلتقطه مانغل ويحوطه هو بالضبط وجه بارز من وجوه الكتاب - العالم هذا.
على هذا النحو تقريباً، يخوض مانغل في ما يسميه "بقراءة الظلال" حيث يحاول مقاربة التصورات والنظريات المتعلقة بالقراءة من حيث هي، بادىء ذي بدء، فعل بصري، وهذا ما قاده الى الخوض في بدايات علم البصريات الذي بلغ درجة عالية من الإبانة والشرح على يد العالم المسلم ابن الهيثم، صاحب النظرية الأكثر رصانة في حقل البصريات، وفي ما يتعلق بظاهرة القراءة الصامتة، يرى مانغل بأنه على رغم إمكانية العثور في أزمنة سابقة وقديمة على حالات معينة من القراءة بصمت، فإن هذا النوع من القراءة لم يصبح أمراً مألوفاً في الغرب إلا في القرن العاشر الميلادي، ذلك أن الكلمات أو العلامات المكتوبة منذ أقدم العهود، بما في ذلك الألواح السومرية، كانت موضوعة كي تقرأ بصوت عالٍ، وفي اللغتين الآرامية والعبرية نجد أن فعل القراءة وفعل الكتابة متماثلان ويدلّ عليهما بكلمة واحدة.
وكان شائعاً أن تحصل القراءة مصحوبة بأداء جسدي يساعد على حفظ وترسيخ الكلمات. وكانت هذه العادة شائعة كذلك لدى المسلمين، وهذا صحيح. ثم جاءت عمليات التنقيط وفصل الجمل عن بعضها البعض، وتطورت تدريجياً. ومع أن عمليات التنقيط لم تكن دائماً ناجحة بحيث تحظى بالثقة، فإنها ساهمت في تطور القراءة الصامتة. وقد فرض على النساخ باليد داخل الصوامع والأديرة التزام الصمت خلال عملهم، وصار هؤلاء يخاطبون ويتحادثون مع بعضهم البعض بواسطة الإشارات والإيماءات. ومن نافل القول أن القراءة بصوت عال على مسمع وأمام شخص آخر يفترض وجود قراءة مشتركة، أمّا القراءة الصامتة فمن شأنها أن تخلخل هذا الافتراض وأن تفلت كذلك من الرقابة الصريحة، لذا كانت القراءة هذه تثير تحفظ وارتياب بعض الدوغائيين الذين كانوا يرون أن القراءة الصامتة تجيز الشرود الحالم والكسل، ومع القراءة الصامتة ظهر خطر جديد لم يتوقعه آباء الكنيسة، وهو أن الكتاب الذي يمكن قراءته بطريقة خاصة وحميمة، والتفكير فيه حينما تكون الأبصار آخذة في اكتشاف معنى الكلمات، هذا الكتاب أو النص لم يعد موضوع توضيح وإبانة، ولم يعد موضوعاً لتوجيه الإرشادات والتوجيهات والإدانات وأشكال الرقابة من قبل انسان مستمع.
أي أن "القراءة الصامتة تجيز عملية الاتصال والتواصل، من دون شهود، بين الكتاب وبين قارئه، وبالاستناد الى هذا الوجه من تطور القراءة، ينطلق مانغل في تناول ظاهرة الهرطقة والتكفير، ويعلمنا بأنّ تنفيذ أول حكم بالإعدام حرقاً بسبب الهرطقة حصل عام 1022 في مدينة أورليان الفرنسية، علماً بأن الحكم هذا وضع قبل قرون.
سواء تحدّث مانغل عن تقاليد التأويل للنص التوراتي التي تشربها الكاتب فرانز كافكا من المدرسة الأشكنازية، خلافاً للتفسير الحرفي الشائع في المدرسة السفاردية نسبة الى السفارديم، أو تحدث عن مكتبة الإسكندرية الذائع الصيت، أو عن الانعطافة الحاسمة في تاريخ الكتاب لدى ابتكار الطباعة على يد غوتنبرغ، أو عن تطور شكل الكتاب وحجمه وتصنيفه، أو عن تعليم القراءة ونشوء ظاهرة القراءة الجماعية التي تشبه لدينا تراث القصاصين والحكواتية، في كل ذلك يتعهد مانغل مادة بحثه بالطريقة الشيقة ذاتها. أي أنه يتحدّث قليلاً عن تجربته الشخصية ثم يرتحل في الزمان والمكان بحثاً عن سمات مشتركة للوجه الذي يحاول الإلمام به.
ينجح مانغل إذاً، والى حد بعيد، في توليد الانطباع لدى قارئه، بأن الحركات والظواهر القرائية التي تبدو بديهية، تضرب بجذوره في أزمنة عريقة وسحيقة، وفي ثقافات ومجتمعات متباينة، بحيث يتبدى أن لكل ملمح من ملامح القراءة، سواء كان بسيطاً أم معقداً، حكاية وتاريخ يجعلون القارىء يتفطن بعض الشيء الى الإرث الهائل، الإنساني والعالمي، الموضوع بين يديه وهو يقلّب الصفحات ويتهجى الكلمات ومعانيها، في المكتبة العامة أو في مكان مغلق، أو في السرير، وكتاب مانغل هذا يفتح الباب أمام أبحاث أخرى، ويحضّ على كتابة تاريخ القراءة في بلادنا.
مقطع من كتاب ألبرتو مانغل: بدايات الكتابة في بابل
خلال صيف عام 1989، قبل عامين من اندلاع حرب الخليج، ذهبت الى العراق لمشاهدة أنقاض بلاد بابل وبرج بابل. كنت أرغب بالقيام بهذه الرحلة منذ زمن طويل. وتقع بابل، التي أعاد بناءها ما بين عام 1899 وعام 1917 المهندس المعماري الألماني روبرت كولديوي، على مسافة ستين كيلومتراً تقريباً جنوبي بغداد - وهي دوامة شاسعة من الجدران ذات اللون العسلي الشاحب، والتي كانت في القديم أعظم مدينة على الأرض، على مقربة من تلة صلصالية كانت، بحسب ما نقرأ في الدليل السياحي، كل ما بقي من البرج الذي أنزل عليه الرب لعنة التعدد الثقافي، سائق التاكسي الذي كان يقودني الى بابل لم يكن يعرف الموقع الأثري إلا بصفته مجاوراً لمدينة الحلّة، حيث ذهب السائق مرّة أو مرّتين لزيارة خالته أو عمته. كنت قد حملت معي مختارات قصصية من منشورات "بنغوان" الإنكليزية، وبعد أن طفت بالمكان الذي كان في نظري، أنا القارىء الغربي، المكان الأصلي لكل كتاب، جلست كي أقرأ في ظلّ نبتة دفلى.
جدران، نبتات دفلى، مبلّطات حُمرية، بوابات فاغرة، أكوام من اللبن الطين المطبوخ، قلاع منهارة:
أحد أجزاء السرّ المتعلق ببابل يقوم على هذا: أن لا يرى الزائر مدينة واحدة، بل عدّة مدن، متعاقبة في الزمن مع أنها متزامنة في المكان، فهناك بابل العائدة الى الحقبة الأكادية، وهي قرية صغيرة تعود الى ألفين وثلاثمائة وخمسين عاماً تقريباً قبل زمننا نحن. وهناك بابل التي قرئت فيها للمرة الأولى، ذات يوم في الألف الثاني قبل الميلاد، ملحمة جلجامش - التي تشتمل على واحدة من الحكايات الأولى عن طوفان نوح. وهناك بابل في عهد الملك حمورابي، في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، والتي شهدت نظمة شرائع هي من أولى المحاولات في العالم من أجل ترميز وقوننة حياة مجتمع بكامله. وهناك بابل التي دمرها الآشوريون عام 689. وهناك بابل التي أعاد بناءها نبوخذ نصر الذي حاصر، نحو عام 586، أورشليم القدس، ونهب هيكل سليمان وأخذ اليهود أسرى. وهناك بابل العائدة الى ابن أو حفيد نبوخذ نصر علماء الأنساب غير متأكدين من ذلك، وهو الملك بلتازار الذي اكتشف على جدارها الخط الرهيب ليد الرب، وهناك بابل التي أراد الاسكندر المقدوني الكبير أن يجعلها عاصمة لإمبراطورية تمتد من شمال الهند حتى مصر وحتى اليونان - بابل التي مات فيها فاتح العالم وهو في الثالثة والثلاثين من العمر، نحو عام 323، وبين يديه نسخة من الياذة هوميروس، في تلك الأزمنة البعيدة حين كان الجنرالات يعرفون القراءة. وهناك بابل الكبيرة التي تحدّث عنها القديس يوحنا - بأنها أم الغانيات والموبقات في الأرض، بابل التي سقت الأمم كلها خمر الغضب المتولد من فواحشها الزانية. ومن ثم هناك بابل العائدة الى سائق التاكسي، وهي موضع قريب من مدينة الحلّة حيث تقيم خالته.
هنا أو على الأقل في موضع ما، غير بعيد من هنا، على ما يؤكد علماء الآثار، بدأ العهد ما قبل التاريخي للكتاب، في نحو منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، عندما أخذ مناخ منطقة الشرق الأوسط يعذب وأخذ الجو يجف، راحت الجماعات الزراعية في بلاد الرافدين تغادر قراها المبعثرة كي تتجمع داخل وحول المراكز المدينية الكبرى التي تحولت بسرعة الى مدن - دول. ولكي يحفظوا الأراضي الخصبة النادرة، ابتكر سكان بلاد الرافدين تقنيات جديدة للري وطرائق معمارية مدهشة، ولكي ينظّموا مجتمعاً متزايد التعقيد، بقوانينه ومنشوراته التشريعية وقواعده التجارية، ابتكر هؤلاء المدينيون الجدد، حوالي نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، فناً سوف يبدّل نهائياً طبيعة التواصل والتحادث بين البشر: فنّ الكتابة.
والراجح أن ابتكار الكتابة جاء لأسباب تجارية، للتذكير بأن قطيع المواشي هذا يعود الى العلائلة الفلانية أو أنه نقل الى هذا الموضع أو ذاك، توضع علامة مكتوبة وتُستخدم لمساعدة الذاكرة: صورة الثور كانت تدل على ثورة لتذكير القارىء بأن الصفقة كانت تتعلق بثيران، كم من الثيران، وربّما اسمي الشاري والبائع. والذاكرة، في صورتها هذه، كذلك وثيقة، عملية تسجيل لمعاملة تجارية.
مبتكر الألواح الأولى المحفورة كان يسعه أن يتفطن الى الأهمية التي تمثلها هذه القطع الصلصالية بالمقارنة مع الذاكرة المخزنة في الدماغ: أولاً، كمية المعلومات التي يمكن تخزينها على الألواح هي غير محدودة - إذ يمكن مواصلة صناعة الألواح الى ما لا نهاية، بينما قدرة الذاكرة القائمة في الدماغ محدودة، ثم أن الألواح، وبغرض العثور على معلومة، تجعل من حضور صاحب الذكرى أمراً لا طائل منه. هكذا فجأة، الشيء غير المادي. رقم، معلومة، فكرة، أمر - يصبح قابلاً للالتقاط من دون الحضور المادي الجسدي لحامل الرسالة كما لو أن الأمر يحصل عن طريق السحر، بات في وسع المرء أن يكوّن فكرة عن الأشياء المذكورة، أن يسجلها وأن ينقلها عبر الفضاء وفيما وراء الزمن. منذ عهود الآثار الأولى للحضارة ما قبل التاريخية، كان المجتمع البشري يحاول تجاوز حواجز الجغرافيا، حواجز الطابع المحتوم للموت، التآكل الناتج عن النسيان بواسطة حركة بسيطة - حفر طيف على لوح من صلصال، أنجز هذا الناسخ الأول والمجهول بضربة واحدة كل الأفعال الكبرى والمستحيلة في الظاهر.
على أن الكتابة ليست الابتكار الوحيد الذي قدم الى العالم في اللحظة الأولى لحفر الرسوم: ثمة ابتكار آخر نشأ في الوقت ذاته. فلئن كان هدف فنّ الكتابة هو جعل النص قابلاً للاسترداد والاستعادة - أي مقروءاً -، فإن الحفر ابتكر في الوقت عينه قارئاً، وهو دور بدأ وجوده قبل أن يقوم القارىء الفعلي الأول ويكتسب حضوراً جسدياً. في الوقت الذي كان فيه الناسخ الأول يتخيل فناً جديداً أثناء رسمه لعلامات على لوح من صلصال، كان يتولد ويظهر، ضمنياً، فن آخر لولاه لبقيت هذه العلامات خالية من المعنى. الناسخ كان مبتكر رسائل، مخترع علامات، على أن هذه العلامات وهذه الرسائل كانت في حاجة الى ساحر يقدر على فك رموزها، والتعرّف على دلالتها، وعلى اعطائها صوتاً. كانت الكتابة في حاجة الى قارىء.
العلامة الأولية بين الكاتب والقارىء تقدّم مفارقة مدهشة وعجيبة: بابتكاره دور القارىء، يعلن الكاتب موت الكاتب، ذلك أنه لكي يتمّ النص ينبغي على الكاتب أن ينسحب، أن يكفّ عن الوجود. بقدر ما يظل الكاتب حاضراً لمدة طويلة، فإذا النص يظلّ غير مكتمل. لا يبدأ النص بالوجود إلا عندما يتركه الكاتب. وجود النص في هذه الحال هو وجود صامت الى أن يقرأه قارىء. فقط عندما تأتي عين يقظة وتتصل بالعلامات المرسومة على اللوح، تبدأ الحياة الناشطة للنص، كل ما هو مكتوب يخضع لسخاء القارىء....
هذه العلاقة القلقة بين الكاتب والقارىء كان لها بداية معينة" وهي بداية نشأَت والى الأبد بعد يوم مجهول في بلاد الرافدين. إنها علاقة خصبة ولكنها مغلقة زمنياً بين متبكر أول يضع شيئاً في العالم لحظة موته، وبين مبتكر لاحق على الوفاة، أو بالأحرى بين أجيال من المبتكرين اللاحقين الذين يعطون الكلام الى الابتكار والذين من دونهم يبقى كل مكتوب شيئاً ميتاً، منذ البداية، القراءة هي ذروة الكتابة.
لقد جرى بسرعة التعرف على الكتابة كما لو أنها صنعة ثمينة وغالية، وعليه انبثقت من صفوف مجتمع بلاد الرافدين شخصية الناسخ. وبديهي أن معرفة القراءة كانت أساسية لديه، لكن لا الإسم المعطى لمهنته، ولا الإدراك الاجتماعي لأنشطته كانا يعترفان بفن القراءة، إذ على العكس جرى التشديد تقريباً في صورة حصرية على قدرته على التسجيل والتدوين.
عن الفرنسية - حسن الشامي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.