التصوف ظاهرة إنسانية عامة، عرفتها الأمم والشعوب في الشرق والغرب قديماً وحديثاً، وهي ظاهرة روحية تهتم بتربية النفس وتزكيتها، وفق الأصول والقواعد المقررة في كل دين وملة، وبالتالي يعكس التصوف - بصورة أو أخرى - الخصائص المميزة لكل دين وملة، معبراً عن جوهر العقيدة وخصائصها والواقع أن التصوف كظاهرة روحية إنسانية، يحمل قاسماً مشتركاً على الأقل من حيث المظاهر والأهداف في مختلف الأديان السماوية والوضعية على السواء، ويمكن تلمس هذه المظاهر والأهداف في إطار الدراسات المقارنة كالتصوف المقارن، أو في مجال تاريخ الأفكار عند تناول التصوف كظاهرة في الأديان المختلفة كالإسلام والمسيحية أو الإسلام والبوذية مثلاً وقد اهتم كثير من الباحثين بمجال المقارنة كما هو الحال بكبار المستشرقين كنيكلسون وماسينيون وآربري وآنماري شميل ومن المعاصرين أمثال ماريا جودي في كتابها الروحية المسيحية والإسلامية رحلة مشتركة «Christian and Islamic Spirituality: Sharing a Journey». كما أن الكثير من الباحثين العرب أمثال أبو العلا عفيفي ومحمد مصطفى حلمي وعبدالرحمن بدوي وأبو الوفا التفتازاني وكمال جعفر لم يغفلوا في دراساتهم هذا الجانب، فأشاروا الى الظواهر المشتركة بين التصوف في الديانتين مع بيان خصوصية التصوف في الإسلام. وذلك لأن التصوف يعكس جوهر الدين الذي نبع من خلال أصوله، خصوصاً عقيدته وقيمه. وإذا أردنا أن نوضح بعضاً من خصائص أو خصوصية التصوف الإسلامي كظاهرة إيجابية له سماته الخاصة عن غيره من الأديان السماوية والوضعية، فلنلتمس ذلك في تناولنا معنى التصوف في كل من الإسلام والمسيحية. أ- معنى التصوف في الإسلام اختلف الباحثون قديماً وحديثاً في تفسير معنى التصوف وقدموا تفسيرات متعددة من الصعب الإجماع على معنى دون الآخر، وذلك لأن كل رأي من الآراء يرتبط بمعنى التصوف بصورة أو بأخرى. والحقيقة أن كلمة التصوف من الكلمات الغامضة من ناحية الأصل اللغوي، وقد أدرك مبكراً رجال التصوف أنفسهم وقدامى مؤرخيهم، من أمثال أبي نصر السراج الطوسي صاحب اللمع، والكلاباذي صاحب التعرف، والقشيري صاحب الرسالة هذا الغموض وحاولوا توضيحه أو شرح أسبابه. والكلاباذي، وهو معاصر للسراج، حاول أن يتلمس معنى يستند إليه اسم التصوف من طريق الربط بين معنى التصوف وبين الأسماء التي قيل إنه ينسب إليها كالصفاء، وأهل الصفة، والصف الأول، والصوف. فيرى أن من نسبهم إلى لبسهم وزيهم، فلأنهم لم يلبسوا لحظوظ النفس ما لان ملمسه وحسن منظره، وإنما لبسوا لستر العورة وأن من نسبهم إلى الصفة، والصف الأول، والصفاء فقد عبر عن أسرارهم وبواطنهم، وذلك لأن من ترك الدنيا وزهد فيها وأعرض عنها، صفّى الله سره، ونوّر قلبه، وعلى ذلك فإن جميع هذه المعاني من وجهة نظره صحيحة. ويؤكد هذا قوله: «فقد اجتمعت هذه الأوصاف كلها، ومعاني هذه الأسماء كلها في أسامي القوم وألقابهم، وصحت هذه العبارات، وقربت هذه المآخذ، وإن كانت هذه الألفاظ متغيرة في الظاهر، فإن المعاني متفقة. أما القشيري فكان أكثر واقعية من سابقيه فرفض صراحة هذه المحاولات، وصرح بعدم وجود مصدر معين اشتق منه هذا الاسم، فيقول: «ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربية ولا قياس، والظاهر أنه لقب، ومن قال اشتقاقه من الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي. قال: وكذلك من الصوف، لأنهم لم يختصوا بلبسه. وبالتالي فإن الاجتهادات التي بذلت في هذا الصدد كانت مجرد محاولات قصد أصحابها من ورائها إثبات أصالة هذا الاسم من طريق إيجاد صلة أو رابطة من أي نوع بين كلمة التصوف وبين اللغة العربية، سواء من ناحية الاشتقاق والقياس أو من ناحية الدلالة والمعنى ويبدو أن ذلك البحث والجهد المبذولين لمعرفة أصل الكلمة كان من أجل الرد على من ذهب إلى أن الاسم مستمد من أصول أجنبية خارج البيئة الإسلامية، بدليل أن البحث عن أصل الكلمة بدأ بعد ظهور المصطلح واستقراره في البيئة العربية الإسلامية في مرحلة متأخرة نسبياً، حوالى منتصف القرن الثاني الهجري تقريباً. وهذا ما نلمسه بوضوح لدى بعض الصوفية كالهجويري صاحب «كشف المحجب»، حيث نشعر بذلك واضحاً في قوله عند حديثه عن اسم التصوف: «وقد تكلم الناس في تحقيق هذا الاسم كثيراً، وألفوا كتباً في ذلك. فالإحساس بغرابة الاسم واضح، ومحاولة تقديم التفسيرات المقنعة مستمرة فأعلام التصوف قدموا عشرات التعريفات للتصوف مستمدة جميعها من تجاربهم الروحية وأحوالهم هم أنفسهم. فقد وردت في كتبهم تعريفات متعددة للتصوف، ينزع بعضها إلى توضيح حقيقته والنفاذ إلى جوهره، ويركز بعضها الآخر على وسائله ومنهجه في طريق الوصول، ويحاول فريق ثالث التركيز على جانب واحد فقط من جوانبه. ويعود ذلك إلى أن رجال الصوفية ومشايخها في تعريفهم التصوف لم يقصدوا إلى تعريف جامع مانع، بحيث يمكن أن نسميه حداً شاملاً لكل عناصره، بقدر محاولة كل واحد منهم التعبير الحقيقي عن مشاعره، وترجمة أحاسيسه وأشواقه الروحية، وتصوير حالته النفسية والوجدانية، ووصف تجربته بصدق، بالقدر الذي تسمح به اللغة بوصفها أداة التعبير التي يبين بها الإنسان عن خاصة نفسه. وفي العصر الحديث مال بعض الباحثين إلى جمع مجموعة من التعريفات التي وردت لدى القدماء في كتب التراجم والطبقات كما فعل نيكلسون في كتابه «في التصوف الإسلامي» حيث جمع مجموعة من التعريفات من عصور مختلفة ومن مصادر متعددة، وقد تابعه بعض الباحثين العرب على ذلك فنقلوا عنه تلك التعريفات وذهب فريق آخر إلى محاولة ترتيب هذه التعريفات ترتيباً زمنياً، فبدأ بأول تعريف قدم للتصوف في الفكر الإسلامي كما فعل أبو العلا عفيفي في كتابه «التصوف الثورة الروحية في الإسلام «وهي محاولة زكية ومفيدة. وحاول فريق ثالث أن يصنف هذه التعريفات في مجموعة أقسام كما فعل كمال جعفر في كتابه «التصوف طريقاً وتجربة ومذهباً»، وعبدالحليم محمود في مقدمة تحقيق كتاب المنقذ من الضلال للغزالي. ب- معنى التصوف في المسيحية اتسم مفهوم التصوف في المسيحية بالعمومية، وربما يعود ذلك لعدم وجود لغة محددة للمسيحية ارتبط بها الكتاب المقدس يمكن أن تكون مرجعاً يعود إليه الباحثون عند الاختلاف. فالتصوف في المسيحية ليست له صلة باللغة العربية، واللفظ - كما يرى الباحثون الغربيون - يعبر عنه باللغة الإنكليزية Mysticism وهي مشتقة من كلمة Myein الإغريقية وهي تعني تلقين مبادئ فن أو موضوع ما، كما تعني أيضاً يغلق، وتلاحظ كارين أرمسترونج وجود علاقة ارتباط لغوي بين الكلمات الثلاث: Myth وتعني أسطورة وMysticism وتعني التصوف وMystery وتعني الغموض واللغز والسر. وهي جميعاً مشتقة من الفعل اليوناني Musteion والتي تعني غلق العينين أو الفم. ومن هنا فالكلمات الثلاث مرتبطة بالظلمة Darkness والصمت Silence. ومن هنا، استخدم لفظ «مستيسم» بأكثر من معنى، منها الثيوصوفي، أو التفسير المجازي للكتاب المقدس وغيرها من المعاني. وبالتالي فكل ما هو سر وتجاوز لحدود العقل أو خارق للعادة داخل في اسم التصوف Mysticism حسب الاستخدام المسيحي. وهذا المعنى اللغوي وثيق الصلة بالمعنى الاصطلاحي كما هو شائع لدى الباحثين الغربيين فيرى سكوت أن التصوف هو معرفة الأسطورة الروحية، وأن الصوفي فهو المهتم والمعتقد بتلك الأسطورة. ومن التعريفات المستخدمة لديهم: التصوف هو الشعور بالوحدة مع الله، التصوف هو طلب معرفة الله دون وسيط والتكلم معه وجهاً لوجه، التصوف هو النزوع إلى المطلق أبدياً بواسطة الرموز. وهي في مجملها تعريفات تعبر عن جوهر ومضمون التصوف المسيحي وهو الاتصال باللامتناهي أي الاتحاد بالرب Godhead وذلك من خلال حلول اللاهوت في الناسوت أي حلول الله في المسيح وبه يتم الخلاص، وهو ينسجم تماماً مع العقيدة المسيحية. ومن خلال نظرة شاملة على مفهوم التصوف الإسلامي والتصوف المسيحي من خلال المعنى اللغوي والاصطلاحي، نلاحظ ما يأتي: اختلاف الأصل الاشتقاقي للتصوف في كل من الديانتين، ما يعكس اختلاف المفهوم أيضا، وهو ما ينفي وجود علاقة التأثير والتأثر التي سادت لفترة طويلة في الدراسات الاستشراقية خصوصاً مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين - ومازالت مستمرة عند بعض الباحثين المعاصرين - عند تناول نشأة الى التصوف الإسلامي وأصوله برده للتصوف المسيحي. وجود فارق كبير وواضح بين مفهوم التصوف في الديانتين، على رغم وجود بعض أوجه الشبه في بعض النقاط تعود في الأساس للنزعة الإنسانية لظاهرة التصوف، وذلك مثل غلبة البكاء على الصوفية في الديانتين خوفاً من الله وتوبة وندماً على الذنوب. كما تبدو أيضاً أوجه الاتفاق في بعض التعريفات مثل قول الشبلي: الصوفي منقطع عن الخلق متصل بالحق. لكن بعض أوجه الاتفاق لا تعني أن التصوف الإسلامي متأثر في شكل أساسي وواضح بالتصوف المسيحي كما ذهب لذلك لفيف من المستشرقين ومن سار على دربهم من الباحثين المسلمين. خطأ الحديث عن التصوف الإسلامي بمصطلحات أجنبية كما فعل بعض المستشرقين الذين استخدموا مصطلحات مثل Islamic Mysticism أو باطنية الإسلام Islamic Esotericism وغيرها من الأسماء، ولكن يجب استخدام مصطلح Sufism or Tasawuf وهذا ما فطن له الكثير من المستشرقين منذ عصر نيكلسون وماسينيون، ومن جاء بعدهم كآربري وترمنغهام وآن ماري شميل وغيرهم. فقد استخدم نيكلسون مثلاً مصطلح مستيسم في المرحلة الأولى من حياته العلمية التي كان يرى فيها أن التصوف الإسلامي منحول من المسيحية وغيرها من الأفكار الوافدة كالأفلاطونية المحدثة والتصوف الهندي وغيرها متأثراً في ذلك بفكر مستشرقي القرن التاسع عشر كفون كريمر وغولدتسيهر بصفة خاصة، لكنه عاد مع بداية العقد الثالث من القرن الماضي ليؤكد على خصوصية التصوف الإسلامي وأنه يعود للمصادر الإسلامية في القرآن والسنّة وأن المظاهر المشتركة مع التصوف المسيحي مثلاً في لبس الصوف وغيرها لا تعني التأثير والتأثر. وقد استخدم نيكلسون نفسه مصطلحي مستيسم وتصوف في عناوين كتبه فمثلاً نشر عام 1921م كتاباً بعنوان «Studies in Islamic Mysticis» ثم في عام 1923 نشر كتاباً آخر بعنوان «The Idea of Personality in Sufism» وقد ظهر الاهتمام بعنوان تصوف بصورة ملحوظة مع الأجيال التالية أمثال آربري الذي نشر عام 1942 كتاباً بعنوان «An Introduction of the History of sufism» وبوركهارت، ومن المعاصرين مثل آن ماري شميل وغيرها. وذلك للاختلاف الأساسي في المفهوم بين ظاهرة التصوف في كل من الإسلام والمسيحية. وهذا أمر نبه إليه وليام سي سيتيك في حديثه بأن استخدام مصطلحات أخرى غير التصوف للتعبير عن التصوف الإسلامي حتى وإن كانت تلك المصطلحات قريبة من المعنى المقصود مثل الروحية الإسلامية أو الباطنية الإسلامية أو مستيسم، فإنه يعد سلباً لحقيقة التصوف الإسلامي، كما أنها غير كافية للدلالة على ما يشمله التصوف الإسلامي، وغير مبينة لسماته وخصائصه وتعاليمه. وعلى رغم ذلك فإن العديد من الأكاديميين الغربيين يستخدمون مصطلح مستيسم كعنوان في حديثهم عن التصوف الإسلامي على رغم إيمانهم بخصوصيته وهذا ما نجده عند آن ماري شميل في كتابها المنشور عام 1974 بعنوان «Mystical Dimensions of Islam» وكذلك مارغريت سميث في العديد من أعمالها مثل كتابها المنشور عام 1973 بعنوان «Studies in Early Mysticism in Near and Middle East» وكذلك كتابها في نفس العام بعنوان «An Introduction to the History of Mysticism» على رغم الخلاف الشديد بين رؤية كل من شميل وسميث عن خصوصية التصوف الإسلامي واستقلاله فالأولى تؤكد على استقلالية التصوف الإسلامي على حين تذهب سميث لتأثره بالمسيحية. جملة القول إن كلاً من لفظي سوفزم ومستيسم مستخدمان حتى الآن، وبعض الباحثين يستخدمونهما بمعنى واحد مع إدراك الفرق بينهما وخصوصية التجربة الصوفية في كل من الإسلام والمسيحية، ومن ثم فإن المراوحة بين اللفظين ربما يعود ذلك للمقولة الشائعة لا مشاحة في الألفاظ، مادام المضمون صحيحاً وواضحاً. على حين يصر بعض الباحثين على استخدام لفظ مستيسم في حديثه عن التصوف الإسلامي لتأكيد تأثره بالتصوف المسيحي. وقد لاحظ كمال جعفر أن لفظ مستيسم قد اعتوره التطور وسوء الاستعمال واتسع نطاق مدلوله، حتى أصبح يطلق على ظواهر لا يمكن أن تتعدى كونها دينية عادية، ولا تتخطى نطاق الظاهر القريب، فأطلق مثلاً على ظواهر عاطفية كالحب، وعلى ظواهر فنية عابرة. وربما هذا ما يفسر لنا عدم وجود تمييز حاسم في المسيحية بين العواطف الدينية الخالصة وبين التصوف الحقيقي، على حين نجد مثل هذا التمييز واضحاً في الإسلام في صورة الفرق بين الظاهر والباطن – الذي هو التصوف – فهو غالباً ما يستتبع وجود نظرة ميتافيزيقية للأشياء، حتى في الحالات التي يغلب عليها طابع الحب، ما يجعلها سهلة التمييز عن الظاهر الذي هو الشريعة العامة. فعلى سبيل المثال فإن طابع المعرفة والحب يلتقيان في انسجام واتساق في المحيط الإسلامي، أكثر مما يلتقيان في المحيط المسيحي، وربما هذا ما دفع بعض المسيحيين أن يستبعد الأفراد الذين غلب عليهم طابع التأمل ومعرفة الحقائق من قائمة المتصوفة، على حين يختلف الوضع في الإسلام فلم يستبعد أحد من دائرة التصوف نتيجة غلبة نزعة التأمل عليهم. ومن جهة أخرى تبدو وثاقة الصلة بين الحب والمعرفة عند صوفية الإسلام، وبيان عدم استغناء أحدهما عن الآخر، فالحب يفترض المعرفة أولاً، ولكنه يولّد معرفة أخرى، كما تتطلب المعرفة مزيداً من الحب، وهكذا يتطور الطابعان في تقدم مستمر إلى مرحلة الوصول إلى الحقيقة. والحقيقة أن الكثير من أنصار الدراسات المقارنة وتاريخ الأفكار قادهم البحث في هذا الاتجاه إلى التعمق في دراسة التصوف الإسلامي واستبطان جوهره حتى إن الكثير منهم اعتنق الإسلام. نذكر منهم على سبيل المثال، رينيه جينو، ومارتن لنغز، وبوركهات وغيرهم. ممن وقفوا على أصالة التصوف الإسلامي وديناميته، وقدرته على إشباع الظمأ النفسي والروحي لدى الإنسان المعاصر في الغرب من طريق الطاقات الهائلة التي تكمن في هذا المجال الحيوي المهم والتي تتجاوز في كثير من الأحيان الأحرف الصامتة للكلمات، وتعلو على السلفية الجامدة التي تقف عند حدود التعامل الظاهري المباشر مع النص الديني، وذلك من طريق التأويل الصوفي الفلسفي العميق للمصادر الأصلية، خصوصاً القرآن الكريم، النبع الصافي الذي يشعل النار في نفوسهم فيزيدها اشتعالاً وتلألؤاً ونوراً وتوهجاً «نور على نور» فتعلو على مستوى الحس المادي، إلى التحليق عالياً في أفق الملائكة النورانيين. * كاتب مصري