كنت أتصفح أعداد مجلة "الجامعة" لفرح أنطون فرأيت صورة من العام 1907 تضم "جمعية النساء السوريات في نيويورك"، نساء يلبسن طراز المرأة الأميركية في تلك الفترة، قماش كثير مطرز يدل الى تعب المصمم والخياط كما إلى حياة باذخة تعيشها لابسة الفستان. ولكن، ثمة في عيون السيدات في الصورة لمعانُ حزن واغتراب وشيء من انقطاع روحي. كأن تلك العيون طالعة من أجساد فلاحات في لبنان وسورية، يمضين النهار في الحقل القريب والسهرة في تطريز القماش. والهجرة هي تلك الصورة: أجساد للمكان الجديد وعيون تشي بالأرض الأولى. كذلك في الكتابة تؤدي الإقامة الطويلة في الأرض الجديدة الى تغيير الثوب - اللغة واستمرارية الروح - العين، ربما لجيلين أو ثلاثة ثم يحصل الاندماج. لكن اندماج المهاجرين يتباطأ مع انطلاق قرننا الحادي والعشرين، فالاتصال الإلكتروني من الهاتف المتطور الى الإنترنت يؤدي الى اكتساب المهاجر مناعة أكبر ضد الاندماج، فهو قادر على معرفة تفاصيل بلده الأم وأهله والتدخل في شأنه من بعيد. وتعسّر الاندماج هذا، مترافقاً مع تزايد الهجرات، لا بدّ أن يوسع من رقعة المجتمعات المتعددة الثقافات والأعراق، وفي هذا المعنى تكتسح التجربة الاجتماعية الأميركية العالم، وتحقق انتصارات على المجتمعات والثقافات المغلقة، تلك التي تستعين في دفاعاتها، غالباً، بشعارات الاستقلال والثقافة الوطنية ومقاومة استلابات العولمة. بقدر ما تجتاح التعددية عالمنا فهي تضم الثقافات "النقية المغلوبة" وتغتني بها وتزداد قوة وقدرة على "ابتلاع" ثقافات "نقية" أخرى. لكن العرب حاضرون مبكراً في هذه التعددية التي أسستها المجتمعات الأميركية وأدت الى العولمة مع تطور تكنولوجيا الاتصال. ويمكن القول إن ثقافة الجاليات العربية هي من ضمن مكوّنات الروح الأميركية، وقد كان هذا الموضوع من ضمن أوراق مؤتمر جبران العالمي الذي عقد دورته الأخيرة في جامعة ماريلاند قرب واشنطن، وقدم باحثون عرب كما باحثون يونانيون وإيرلنديون وسود وهنود ويابانيون ويهود أوروبيون وإيطاليون دراسات وشهادات عن دور جالياتهم في تكوين الروح الحاضرة للولايات المتحدة الأميركية: وقد نجد من الجاليات هناك فئات تريد أن تحدّ من مدى التأثير العربي كاليهود الذين يناصرون إسرائيل لكن معظم الجاليات الأخرى يمكن ان تتقبل تأثير العرب وتعترف به، إذا تم تنبيهها إليه. بمثل هذا نؤسس اللوبي العربي في الولاياتالمتحدة، تأسيساً ثقافياً إنسانياً قبل ان يكون سياسياً. والخطوة الأولى هي معرفتنا كعرب مقيمين بعرب القارة الأميركية، بوقائع تاريخهم وحاضرهم الثقافي والاقتصادي هناك، ولم ننجز في هذا المجال سوى خطوات أولية في التعريف بأدب مهجري، اقتصرنا على أعلامه ولم ننفذ الى قاعدته المؤثرة في الجاليات العربية نفسها كما في شركائها من الجاليات الأخرى. فالشخصية العربية حاضرة في أدب ومسرح وموسيقى أميركا الوسطى واللاتينية بوضوح، وببعض الغموض في اميركا الشمالية. لنعرف نحن تاريخ الامتداد العربي في الأرض الجديدة، قبل ان ندعو الآخرين الى معرفته والاعتراف.