يتوهم من يعتقد بأن الولاياتالمتحدة يمكن أن تقف عائقاً في وجه «يهودية دولة إسرائيل» أو في وجه الاستيطان، ولفهم هذه الحقيقة لا بد من مواكبة مسيرة التعليم اليهودي، ونشأة المركزين الجديدين لليهودية، الأول في الولاياتالمتحدة والثاني في فلسطين، إذ بدأت موجات الهجرة إلى فلسطين منذ ثمانينات القرن التاسع عشر. وتواجَدَ اليهود في الولاياتالمتحدة الأميركية منذ اكتشافها، لكن ما حدد شكل يهودية الولاياتالمتحدة، هو الهجرات الكبرى إليها من شرق أوروبا، والتي بدأت نهاية القرن التاسع عشر واستمرت حتى عشرينات القرن العشرين،عندما بدأت عملية توجيه الهجرات الكبيرة باتجاه فلسطين، وهذان المركزان اليهوديان كبرا على حساب اضمحلال المركزين القديمين لليهودية، الإسباني والألماني. بنى المركزين الجديدين يهود شرق أوروبا، ولفهم انعكاس ذلك في التعليم اليهودي لاحقاً كمحدد ليهودية أميركا وإسرائيل، لا بد من تتبع مسيرة التعليم الديني اليهودي، فالتعليم الديني اليهودي في شرق أوروبا كانت له سماته الخاصة التي تميزه عن باقي التعليم «الشتاتي»، لذا شكّل نواة ذات طبيعة خاصة للتعليم اليهودي في أميركا وإسرائيل، ولكن قبل ذلك خرج التعليم اليهودي في أوروبا عن نمط تعليم الغيتو، مع ظهور حركة «الهسكلاه» (التنوير) في ألمانيا بداية القرن الثامن عشر، كتعبير عن إخراج التعليم اليهودي من الإطار التقليدي الشرق أوروبي، وكتعبير عن أزمة المجتمعات اليهودية المغلقة في المجتمعات الأوروبية الكبيرة، لتعود هذه الأزمة لاحقاً لتظهر في إسرائيل ذاتها، كأزمة علمانية دينية، ومن أبرز مشاريع «الهسكلاه» كان مشروع مندلسون في ترجمة «التناخ» إلى الألمانية، وصدور كتاب «مواضيع الحق والسلام» لويزل، كدعوة الى اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية، أي تعليم يهودي من أجل البقاء في «الشتات» والتعايش معه، وشكل ذلك بداية لأدب عبري يستوعب الأدب الأوروبي. وبناء على ذلك، اتخذ التعليم اليهودي في كل من أميركا وإسرائيل لاحقا، خلفية مزدوجة لأجهزة التعليم الديني اليهودي ونُظُمه ومصادره، فهي ولدت من رحم التعليم التقليدي الشرق أوروبي، وتبنت «الهسكلاه» في مرحلة من المراحل دون العلمانية المعلنة، وهذا ما سمِّي بالتعليم اليهودي ونقيضه، وفي فترة ما بين الحربين العالميتين، أي فترة التغييرات الكبرى، ظهرت أجهزة ومفاهيم يهودية عدة للتعليم، كان أبرزها ثلاثة اتجاهات، اليهودي التقليدي، والهسكلاه، والترابوت المؤسس للتعليم «الوطني العبري» ومنشأه شرق أوروبا، وتحديداً بولندا، وتأثر ذلك طبعاً بعملية الانتقال من الصهيونية المسيحية إلى الصهيونية اليهودية، إذ لم يكن هناك أي وجود لفكرة «الوعي القومي اليهودي» التي مهدت لها الصهيونية المسيحية على مدار أكثر من قرنين من الزمن، لتشكل ولادتها عملية الانتقال من الصهيونية المسيحية إلى الصهيونية اليهودية، وبالتالي ولادة فكرة « الوطن القومي». التعليم التقليدي والتعليم اليهودي التقليدي القديم كان له جهاز على مستوى البلدة أو الغيتو، وعرف باسم «الحيدر» أي «الكتَاب»، فعلى رغم وجوده في وسط أوسع إلا أنه يحتفظ بعلاقة اقتصادية مع هذا الوسط، بينما يعزف عن حياته الدينية والاجتماعية والتعليمية، وذلك بوجود «غيتو أو موشاف» وصفه تسفي أدار (شعب يعيش وحيداً ولا «يأخذ الغوييم بعين الاعتبار» إنه يعرف نفسه جيداً ويثق بنفسه جداً، وهو ليس ملغى أمام المجتمع الواسع الذي يحيط فيه، بل على العكس، يلغي المجتمع الواسع وينظر إليه من عل)، انظروا إلى هذه النظرة العنصرية التي تعاطى بها اليهود مع مجتمعهم الأوروبي، وبعد ذلك يشتكون من العنصرية واللاسامية التي أنشأوها بأيديهم، أما المضمون الديني لتعليم «الحيدر» فهو التوراة، والتوراة التعليمي اسم أطلق على خمسة أخماس التوراة، أي القسم الأول من «التناخ»، إلا أنها طورت بعد فترة التناخ إلى مجموعة كبيرة شكلت التوراة الشفوية، وبعد ذلك التلمود، وتعليم التلمود هو الأساس في التعليم الديني اليهودي، عليه يستند التعليم الديني إلى خمسة أخماس التوراة والتلمود، حيث حيدت أسفار الأنبياء والمكتوبات من بين أسفار التناخ، وجرى تعليم التوراة ارتباطاً بالتفاسير الأسبوعية في الكنيس، إي أن التوراة لا تدرس لنفسها، بل من خلال ولأجل نمط الحياة اليهودية، لذا كان من السهل استقبال الأيديولوجيا الجديدة «الصهيونية»، ولكن تبدو الدراسة الأصعب هي دراسة التلمود، لذا اختص «الحيدر» بتعليم التوراة بينما اختصت «أليشيفا» أي المدرسة الدينية بتعليم التلمود، وهذا يقسم التعليم إلى أساسي ومتوسط. التعليم اليهودي في فترة «الهسكلاه» شهد التعليم اليهودي تغييرات كبيرة على يد دعاة حركة التحرر «الهسكلاه»، ما أدى إلى اضطرابات مست المجتمعات اليهودية (الغيتو)، حيث تغيرت المنطلقات. وجوهر التغيير نابع من دعوة «الهسكلاه» اليهود الى نيل حقوق المواطنة في دول أوروبا المختلفة، والانتماء إلى تلك الدول، وظهر ذلك منذ اجتماع السنهدرين في فرنسا، في عهد نابليون، اذ منحت الدولة اليهود حقوقاً شرط أن يعدوا أنفسهم مواطنين فيها، فكانت «الهسكلاه» بمثابة دعوة لليهود الى الخروج من الانغلاق الاجتماعي والحضاري، والدخول في عالم اجتماعي حضاري أوسع، فتولد مع ذلك التناقض الآتي من سؤال: كيف ينظم اليهودي حياته كيهودي، وكيف ينظم المجتمع اليهودي كينونته كمجتمع يهودي في تداخله مع المجتمع الأوروبي وحضارته؟ ما ولد مسألة الاندماج واللااندماج، وهذا ما عرف تماماً بالمسألة اليهودية، ومعها تولدت عملية البحث عن حل لتلك المسألة خارج حدود أوروبا، والإجابة عن أسئلة الاندماج لا شك في أنها كانت ستنعكس على نظم التعليم اليهودي، أو العكس تنظيم التعليم الديني اليهودي سيعكس عمق تلك الأزمة، بيد أن دعاة «الهسكلاه» اعتبروا التعليم المجال الأساسي لمقاربة تلك التناقضات، ودار صراع -ولا يزال- بين التيارات المختلفة في اليهودية على تلك المسألة، أي طريقة تنظيم التعليم اليهودي، وبموجب «الهسكلاه» انبثق أدب عبري جديد كان أول من تصدره نفتالي هيرتس 1782، فبرزت ملحمته الشعرية «قصائد فخر» وكانت عبرية مشبعة بروح الأدب الأوروبي، بينما دعا كتاب «مواضيع الحق والسلام» إلى التمييز بين «توراة الرب» و «توراة الإنسان»، فدعا ويزل مؤلف الكتاب إلى تدريس أقسام مختلفة من «التناخ» ومن ثم تدريس «المشناه» والتلمود لأولئك التلاميذ القادرين على الاستمرار، واقترح جعل «التناخ» كتعليم يهودي أساسي مشاركاً لجميع العلوم، ويكثف علوم التلمود لذوي الكفاءات في المرحلة الثانية، ويربط دراسة «التناخ» بدراسة اللغة العبرية وتدرج التعليم بحسب الفئة العمرية ليشتمل على «تناخ، مشناه، تلود، لغة الدولة الأوروبية، تاريخ ، جغرافيا، علوم طبيعية... إلخ». وفي حين تقبلت النخبة المثقفة الأوروبية المسيحية مبدأ تعليم «التناخ»، رفضت التلمود، الذي شكل عامل شقاق واختلاف، فلاءم «التناخ» أهداف «الهسكلاه» بينما اعتبر التلمود معيقاً لها، ولحل هذا التناقض، قام الحاخام شمشون رفائيل هيرش بوضع خطة تعليم «حريدي» تجمع بين «تعليم ديني يهودي وتعليم إنساني عام»، واعتبر ذلك خطة جديدة في مواجهة «الاندماج والكفر»، إلا أن ذلك أدى من وجهة نظر يهودية إلى «ضمور توراة الرب»، فساد في الولاياتالمتحدة تحديداً، نمطُ تعليم مزدوج، قائم على إرسال الأولاد اليهود إلى مدرسة عامة قبل الظهر من أجل تعلم «توراة الإنسان»، ومدرسة خاصة بعد الظهر لتعلم «توراة الرب»، وقد أقيمت أول المدارس الدينية اليهودية في ألمانيا، بينما استمر التعليم التقليدي «الحيدر» في أوروبا الشرقية حتى بداية القرن العشرين، إلى أن دخلت حركة «الهسكلاه» شرق أوروبا، إلا أنها لم تفلح في بناء تعليم ثابت ليحل محل «الحيدر»، فولد «الحيدر» المعدل وحل محل «الحيدر» القديم، مضيفاً إلى التعليم الديني تعليماً مهنياً، وذلك في فترة الحرب العالمية الأولى، وظهور ما سمي «بالتعليم الوطني الجديد في أرض إسرائيل»، كما ظهرت تيارات تعليمية ثلاثة في بولندا (التعليم الإيديشي الاجتماعي، التعليم التربوي، التعليم الديني)، وأدى التنافس بين هذه التيارات التعليمية إلى نشوب نزاع، بين ثلاثة مفاهيم لليهودية والحياة اليهودية، وانعكس ذلك على ظهور التيارات المختلفة للصهيونية، ومازال يلقى تعبيراته على التيارات السياسية داخل المجتمع الصهيوني اليوم «السياسة والسياسة التربوية». التعليم «الترابوت» وما سبق كله، مهَّد لظهور نمط التعليم «الترابوت»، المرتبط بالأيديولوجيا الاجتماعية الصهيونية، وظهرت مدارس «الترابوت» بين الحربين في بولندا، وهي مدارس صهيونية بكل معنى الكلمة، وربّت تلاميذها على الهجرة إلى فلسطين. يقول لوينسون:» أصبحت أرض إسرائيل القلعة المركزية، وعمود تعليمنا الفقري»، فاختلفت وظيفة التعليم، فبدل أن يكون التعليم من أجل حياة يهودية في بولندا، أصبح من أجل الانتقال إلى مجتمع جديد (إسرائيل)، وبلغت نسبة المهاجرين اليهود المنتمين لمدارس «الترابوت» 60% من نسبة المهاجرين اليهود إلى فلسطين، فولدت ثقافة نفي المهجر، وهذه لم تكن موجودة لا في التعليم التقليدي ولا في تعليم «الهسكلاه»، وحتى أنها غير موجودة في التعليم اليهودي القائم اليوم، حيث قدمت تعليماً أيديولوجيا، على رغم أن العلمانية فيه كانت غير معلنة. ولكلمة «ترابوت» معنى دلالي هو» إكساب الطلاب ثقافة شعب إسرائيل العبرية»، ف «الهسكلاه» قام على أساس التكيف مع المهجر، أما «الترابوت» فقام على أساس نفي المهجر. فقط في الولاياتالمتحدة ظل التعليم يقوم على أساس تقبل المهجر، وعماده الأساسي التعليم الديني. والهدف من «الترابوت» هو بعث فكرة «أرض إسرائيل» وفكرة «الشعب اليهودي»، لذا تحول التعليم إلى تعليم حركي مرتبط بالصهيونية كمشروع هجرة، لكنه في إسرائيل ذاتها راح يأخذ شكلاً مؤسساتياً لا حركياً، ففي الجو الحركي ينصَّب المعلم «كزعيم روحي» لتقديم ما لا تستطيع تقديمه المؤسسة التعليمية كمؤسسة. وتبني «الترابوت» التعليم المهني أيضاً، لخصوصية الإنتاجية المطلوبة من أجل الحياة المستقبلية في أرض إسرائيل. واليوم تشهد إسرائيل كاستمرار للقديم في الجديد، انقلابات على تعليم المؤسسة لصالح التعليم القديم، وذلك عبر نماذج من «اليشيفاه»، التي تعتبر ان دخول العلمانية بالدين اليهودي، كان له علاقة بالأزمات التي مر بها اليهود، أما التعليم في الولاياتالمتحدة، فاستمر كتعليم ديني، ومن وجهة نظر المتدينين اليهود لا بد من أن يعود كذلك في إسرائيل، فاليهودية القديمة اندثرت في شرق أوروبا واستمرت في الولاياتالمتحدة، كضرورة للإبقاء على مركز كبير وجديد لليهودية بعد اضمحلال المراكز القديمة. ومن وجهة نظر يهودية، استكملت إسرائيل أيضاً تحولها كمركز يهودي إلى جانب الأميركي، وبالتالي هناك ضرورة لعودة التعليم اليهودي القديم، ولكن هذه المرة ليس على أساس الغيتو، بل على أساس يهودية الدولة، فالمهاجرون اليهود إلى الولاياتالمتحدة «أسسوا يهودية أميركا، بوصفها الشتات الأكبر والأكثر استقلالية للشعب اليهودي»، وعلى الاستيطان وجمهور المستوطنين «أن يؤسسوا اليهودية»، لتكون هناك كينونتان جديدتان للشعب اليهودي «هما الاستيطان في دولة إسرائيل اليهودية، ويهودية أميركا»، وهذا ما يفسر السلوك الهمجي في الاعتداءات على المقدسات من قبل ما يسمى «فتيان الهضاب». بالاستنتاج، يعبث من يعتقد أن أميركا ستقف يوماً في وجه الاستيطان أو في وجه «يهودية الدولة».