السؤال الذي يتأتى من مطالعة مواقف يهود القرن التاسع عشر الايجابي من الاسلام هو: ما هو مردود هذا النتاج الثقافي الذي أنتجه اليهود بين القرنين التاسع عشر والعشرين على السياسة الإسرائيلية وانساقها التربوية والتعليمية والإعلامية؟ وإذا كان صهاينة حزب العمل اليساري والعضو في "الاشتراكية الدولية" بين الذين يطابقون العداء للصهيونية بالعداء للسامية، ويقصون ماركس والماركسيين اليهود "اللاساميين" عن مواقع التأثير الثقافي والسياسي، فما هي مكانة وموقع المؤرخين والبحاثة اليهود المتعاطفين مع الإسلام والسباقين الى مقاربة الاسلام ورسالته مقاربة موضوعية، وأحياناً رومانتيكية، في ثقافة إسرائيل السياسية وسياستها الثقافية". الجواب ببساطة هو التهميش والاستبعاد. ذلك أن الصراع الدموي الذي أنتجه مشروع "دولة اليهود" أفقد نتاج أصدقاء الإسلام الثقافي امكانات التوظيف السياسي، وأخرجهم بالتالي من قطاعات التربية والإعلام، أي من الوعي الجمعي. بل ان الموسوعات المهمة مثل بريتانيكا وكوليير تطردهم من صفحاتها أسوة بالموسوعات اليهودية المعاصرة، بينما تستدخلهم "الموسوعة اليهودية" الصادرة عام 1905. وهذا يدل على أن الصراع الذي استحدثته الصهيونية يتطلب التأكيد على عناصر الاختلاف والتناقض الثقافي مع العرب والمسلمين، أعداء اليوم، بعد ان كان يهود القرن التاسع عشر يضيؤون عناصر الائتلاف والتجانس بين اليهود والمسلمين أقرباء الأمس. وكان لا بد من أن تواكب حال الحرب الفعلية حرباً ايديولوجية تستهدف محو الذاكرة التاريخية وكتابة ذاكرة جديدة تتمأسس في اقتلاع كل ما هو عربي وشرقي وإسلامي، وغرس كل ما هو غربي حداثي. ويتمظهر هذا الانقلاب على التاريخ والجغرافيا في استعادة طرد يهود المدينة "هو حادث معزول"، كما يلاحظ مارك كوهن، وتضخيم أشكال التمييز السلوكي التي عرفتها المجتمعات الاسلامية خلال حقبات قصيرة عابرة وأمكنة متباعدة لتبرير الزعم بأن وضع اليهود في المجتمعات الاسلامية لم يكن أقل سوءاً من أوضاعهم في المجتمعات المسيحية الأوروبية خلافاً لما اثبته المؤرخون اليهود انفسهم ممن ذكرنا من أن المسلمين لم يقتلوا اليهود ولم يفرضوا عليهم المعازل ولم يحدّوا من نطاق وظائفهم، ولم يطردوهم من بلدانهم، بل ان بلدانهم كانت أمكنة اللجوء من اضطهاد الأوروبيين، كما يذكر برتراند رسل في "حكمة الغرب". ويعتبر بعض كبار المؤرخين اليهود أمثال س.و. بارون أن توافر الملجأ الإسلامي كان أحد أهم أسباب نجاح اليهود في صراعهم من أجل البقاء ضد القوى الغربية التي كانت مصدر تهديد حقيقي لوجودهم. وفي الوقت الذي كانت فيه المراكز الدينية الكاثوليكية والبروتستانتية من جهة، واليهودية من جهة مقابلة، تحرم على جماعاتها الاستشفاء على أيدي أطباء من الملّة الأخرى على مدى قرون جازت العصر الوسيط الى عصر النهضة فإن العالم الإسلامي لم يعرف مثل هذا التحريم، بل ان صلاح الدين الأيوبي، اختار الفيلسوف اللاهوتي والطبيب اليهودي ابن ميمون ليكون طبيبه الخاص في خضم صراعه ضد الفرنجة في النصف الثاني من القرن الثاني عشر. لكن الصهاينة الذين نقلوا موضوع عدائهم من أوروبا المسيحية الى عالم العروبة والإسلام، يتجاهلون هذه الصفحة من سيرة ابن ميمون ولا يعلق في شباكهم التي يرمونها في بحره سوى رسالة كتبها بعض يهود اليمن في نهايات القرن الثاني عشر يجيب فيها على شكواهم من سوء معاملة المسلمين لهم. وعلى رغم إبراز لويس في العديد من مؤلفاته لظاهرة التمييز الإسلامي ضد اليهود، إلا انه كان حريصاً على التفريق بين "التمييز" الذي عرفته المجتمعات الاسلامية، و"الاضطهاد" الذي مارسته أوروبا المسيحية. الايديولوجية الصهيونية لكن معركة الصهيونية الايديولوجية ضد العرب والمسلمين تتنكر لهذا التاريخ، وعصر العولمة الذي يحلُّ صدام الحضارات وحرب الهويات محل حروب الطبقات والايديولوجيات العلمانية والأنظمة السياسية، ويتخلَّق فيه المسلم على صورة الضد الحضاري المتنافي مع الغرب وقيمه الليبرالية، يوفر للقيادة الاسرائيلية والحركة الصهيونية وظيفة جديدة تحل محل وظيفة الشريك في الحرب الباردة البائدة، ويمكن إسرائيل من انتحال دور طليعي في الصدام الأميركي - الأطلسي ضد الإسلام الأصولي. وتستمد إسرائيل من وظيفتها الجديدة هذه مشروعية تمديد العقد الذي وقعه تيودور هرتزل مع أوروبا الاستعمارية القديمة، الذي تعهد فيه ان تكون دولة اليهود "سوراً أمامياً يحمي الحضارة الأوروبية من البربرية الآسيوية"، وهي موضوعة استعادها المفكر الصهيوني موسى هِس الذي دعا اليهود المهاجرين الى فلسطين الى "أن يتحولوا الى مثقِّفي بالكسر القطعان العربية المتوحشة والشعوب العربية". وهكذا يتنكَّب صهيوني القرن العشرين، الغربي التمركز، المهمة الاستعمارية التي تنكبها "الرجل الأبيض" الأوروبي على مستوى الكوكب، في حين كان يهود القرن التاسع عشر في أوروبا يعبرون على لسان هرمان هِس 1812-1875 عن يأسهم من امكان جدوى اندماجهم في مجتمعات "الرجل الأبيض": "حتى لو اندمجنا فلن ننجو من عاهة العداء. ماذا نفعل بالأنف اليهودي والشعر الأجعد الأسود؟". إن الدولة الصهيونية تمارس فعل خيانة للأصول الثقافية الشرقية، في الوقت الذي تستبقي فيه اليهودية معياراً للمواطنية في دولة اسرائيل. وهوية العبريين الثقافية الشرقية ليست فرضية نظرية، بل حقيقة مثبتة، ليس فقط في موروث العبريين الديني، بل في انتفاضاتهم المسلحة الثلاث ضد السلطة الرومانية حسمتها روما عام 70 م باقتلاعهم من أرض فلسطين ما عرف بالسبي الثاني وتهديم هيكلهم. كما يؤيدها كذلك نفور العبريين التقليدي من الثقافة الهيلينية. وأبدى الشرق المصري والسوري القديم ممانعة ثقافية مماثلة في زمن كانت فيه روما تنفرد بقيادة العالم القديم تفرد اميركا بقيادة العالم المعاصر. ويفسر العديد من المؤرخين بينهم اللبناني جواد بولس في كتابه "الاسلام والشرق القديم" استعصاء الروح الشرقية المصرية والسورية على الرومنة والهيلنة وتمثلها السريع للإسلام ولسانه بأن "محمداً، في نظر الشرقيين جميعاً جاء لهدم ما بناه الاسكندر الذي مهَّد الطريق لليونان، ثم للرومان". ويصف "الحضارة الهيلينية" بأنها "ظاهرة دخيلة بين حضارتين متجانستين". ويؤكد فيليب حتي في كتابه "تاريخ سورية ولبنان وفلسطين" "ان الشرق الهيليني كان شيئاً مصطنعاً". ولا ننسى في هذا المقام وصف هيغل للإسلام في "فلسفة التاريخ" بأنه "ثورة الشرق المتجهة بكليتها الى الواحد الكلي في حركة معاكسة للغرب المرتد آنذاك الى الخصوصية والفردية والتجزئة". ولا يفوتنا كذلك وصف أرنولد توينبي لليهودية في مؤلفه "دراسة في التاريخ" بأنها "فرع من الحضارة السريانية". ويفسر توينبي ثورات اليهود الثلاث ضد روما ومقاومتهم للهيلنة الثقافية بأنها "حركات انعزالية تعبر عن تمرد الروح السورية على النزعة الهيلينية الغربية". وفي خط موازٍ، يفسر فيليب حتي انتصار الاسلام الصاعق بحجة دامغة مفادُها "أن الاسلام الحضاري يشتمل على عناصر سريانية، آرامية، فارسية، مصرية، عبّر عنها اللسان العربي واللغة العربية". أما هنري بيرينييه فيصف "فتوحات الاسلام بأنها دائمة، خلافاً لفتوحات جنكيز خان واتيلا والاسكندر الزائلة". ان نجاح الاسلام حيث فشلت الهيلينية لا يعود الى نقص في الثقافة الهيلينية أو الى تناقض بين الروح الثقافية اليونانية والشرقية، فاليونان يشرق بالمعنى الثقافي، وهي ثقافة انسانوية كونية قطعاً. لكن كونية الثقافة الهيلينية تخالفت مع عنصرية المحتلين اليونانيين واستبدادية الروم المتمذهبين على جمود دفع شعوب المشرق الى اعادة انتاج تراثها الثقافي على شكل أسلحة عقائدية تدفع بها التغريب عن شخصيتها الوطنية، قبل ان تتمثل الاسلام وتقبل على التعريب بسرعة لا يفسرها الا تمثل الاسلام للمكونات الثقافية الشرقية لشخصية الشعوب في المنطقة. وكان اليهود على أرض الغرب الأوروبي هو الشرقي في حال الاغتراب. وفي هذا السياق يذكر ستيفن شاروت، استاذ علم الاجتماع في جامعة بن غوريون، "أن اليهود الذين هاجروا من مدن الشرق الأوسط الى أوروبا في أوائل العصر الوسيط نقلوا ثقافتهم الدينية الى أوساط اجتماعية غريبة عنهم"، مضيفاً "ان التناقض بين تطور اليهودية في كل من الشرق والغرب لافت للنظر: في الغرب، لم يحافظ اليهود على ثقافتهم الدينية وحسب، بل عززوا تمايزهم الديني - الثقافي، أما في الشرق فقد استدخلوا الى نسقهم المعتقدي الكثير من ثقافة الشرق وديانته". إن القيادة الاسرائيلية الأوروبية التمركز تشيح بصرها اشمئزازاً وكراهية عن الشرق العربي والإسلامي الذي اشتمل معظم العناصر الثقافية الشرقية القديمة التي تمثلتها اليهودية. وهي تدفع الوعي الجمعي الى استدخال نموذج الغرب الأميركي والأوروبي، تماماً كما كان يهود أوروبا يشيحون بأبصارهم اشمئزازاً وكراهية للغرب الأوروبي، ويبسطون أجنحة الحنين الى البلدان العربية والإسلامية. وهم يوحون لليهود الشرقيين، المزراحيم والسفارديم، بضرورة انكار الذات الشرقية، انكاراً يمكن ان يتطور الى كره هذه الذات. وكراهية الذات، هي الصفة التي يلصقها كبار المؤرخين اليهود أمثال س. و. بارون وبرنارد لويس ب"اليهود اللاّيهود" الكبار أمثال ماركس وتروتسكي وفرويد. والصهاينة الغربيون الأشكينازيم، في حربهم الايديولوجية على العرب والمسلمين، يعيدون تخليق العربي والمسلم على الصورة الدونية التي كان عنصريو الغرب الأوروبي يخلِّقون عليها صورة اليهود الشرقي والسامي على مدى ألفي عام. وتتجلى آخر التظاهرات السياسية لهذا الانحياز الثقافي في الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتانياهو في موسكو ونشرته الصحف، الحياة 27 تشرين الأول أكتوبر 2000. فقد خاطب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحكومته قائلاً: "إن روسيا واسرائيل تقفان في خندق واحد ضد عدو مشترك هو التطرف الاسلامي الغريب علينا حضارياً، وعلينا التضامن في ما بيننا لمكافحته". وأنهى الزعيم الليكودي خطابه بالثناء على "السياسة الصائبة التي اتبعتها روسيا في محاربة حالات مماثلة" ملمحاً الى حرب الشيشان. هل التطرف غريب على الروس واليهود؟ من قال ان التاريخ لا يعيد نفسه ولكن بطريقة تحول المأساة الى ملهاة! وينزلق المؤرخ لويس في كتابه "مستقبل الشرق الأوسط" الى التكهن بعلاقة مستقبلية أكثر من ودية بين روسيا وإسرائيل، وهو تكهن أقرب الى الكهانة منه الى علم التاريخ. أن لويس لا يستبعد احتمال انقلاب "روسيا الجديدة" على نهج العداء التقليدي لليهود الذي مارسته "روسيا القديمة"، القيصرية والبلشفية. وهذا يعني ان روسيا واليهود الروس مطالبين بمحو الذاكرة التقليدية التي كتبتها قرون العداء الأمرّ، وكتابة ذاكرة أخرى في المساحات الممحوة يستذكر فيها الروس "ان المجتمع الإسرائيلي تأسس على أيدي مهاجرين من الامبراطورية السابقة، دعمهم أخيراً مليون مهاجر من الاتحاد السوفياتي السابق". وهذا العنصر التكويني الروسي يجب ان يدفع روسيا الى ادراك "الصلة الثقافية القائمة بين روسيا وإسرائيل". هذا يعني ان لويس يطالب روسيا بالانقلاب على تاريخ علاقتها باليهود من دون ان يتهيب موضوعته، المكتوبة في أكثر من مرجع والقائلة "ان الروس هم ألدّ أعداء اليهود". وهو يطالب اليهود بنسيان اسباب هجرتهم، أو تهجيرهم من روسيا، ليتذكروا لسانهم الروسي الممزوج باللكنة "البيدشية" لغة يهود الشتات. فهل يستطيع اليهودي ان ينسى يهوديته، وهي العنوان المعلن لاضطهاده، والبنية التحتية في وعيه، ليتذكر أنه روسي؟ وهل يستطيع الروس الفلاحون خصوصاً ان ينسوا أسباب عدائهم لليهود؟ وهل كانت الأكثرية اليهودية مخلصة في ولائها للوطن الروسي؟ أم أنها كانت، في أحسن الأحوال، مزدوجة الولاء؟ آه، "ازدواجية الولاء"! تلك التهنة - اللعنة التي أنزلتها وسائل إعلام الإسرائيلية بفلسطينيي 1948 حين تظاهروا في تشرين الأول 2000، تضامناً مع الانتفاضة الأخيرة، فوصفتهم جريدة معاريف ب"الطابور الخامس" و"السرطان"، وأخيراً وليس آخراً، ب"ازدواجية الولاء"! هل عانى معظم اليهود في تاريخهم مثل هذه الآفة في روسيا والشرق الأوروبي السلافي كما في الغرب اللاتيني والجرماني؟ هل ازدوج ولاء اليهود في دول أوروبية كانوا فيها ولم يكونوا منها؟ ألا تعبر مظاهرات عرب 1948 عن يأسهم من امكان اندماجهم على قاعدة المساواة في المواطنية مع الأكثرية اليهودية، تماماً كما كان اليهود المهمشون عاجزين عن الاندماج مع الأكثريات الأوروبية؟ لو نظر الإسرائيليون بالعين النقية لهذه التظاهرة الفلسطينية لرؤوا وجوه يهود الشتات في وجوه عرب فلسطين، ولاستبانوا مدى نجاحهم في تخليق الفلسطيني على صورة اليهودي المهمش والمنتقص في معازل الغرب الأوروبي. ولو ان لويس أحسن الاصغاء لصوت المؤرخ، وليس لأي صوت آخر، لرجح احتمالاً مستقبلياً أكثر قابلية للتحقق، هو أن يتذكر اليهود الشرقيون، ألف سنة من الحياة الطبيعية الآمنة في دار السلام، ومحو حقبات من التمييز وليس الاضطهاد عابرة، ولا نقول مبررة، وهو أمر أسهل عليهم من نسيان ألف سنة تقطَّع فيه الاضطهاد من دون ان ينقطع، وأسهل من بناء ذاكرة في العراء. ولم يعد كافياً ان يقول شمعون بيريز ان معاناة اليهود تجربة المعازل والتجوال تؤهلهم أكثر من أي شعب آخر لفهم معاناة الفلسطينيين في المخيمات والمهاجر، فالمطلوب هو تحويل الفهم الى معايشة غيرية لتلهف الفلسطينيين الى وطن ودولة يلمون فيها شتاتهم على أرضهم، وتتواصل فيها الأراضي وتزول المعازل، دولة يكون فوقها سقف وعلى حدودها سياج. ولا يكفي ان يعلن بيريز ورفاق له في "حزب العمل" انتماءهم الى عصر الأنوار، بينما يتوزع المجتمع المديني الإسرائيلي الى حارات وأحياء ومعازل متفاوتة الحظوظ، تحمل هويات مذهبية واثنية في المجتمع الإسرائيلي. والمفارقة هي أن باراك نفسه، الذي قدم في آب اغسطس الماضي مسودة دستور ديموقراطي علماني يحل محل القانون الأساسي للدولة، هو باراك الذي قام، قبل استقالته، باستدعاء الكاتب الإسرائيلي دان شويفتان ليعرض على مجلس وزرائه مشروعه الخاص بحل يستند الى الفصل الكامل بين الشعبين، وبناء جدار يشطر القدس يكون أكثر صلابة من جدار برلين الشهير. وشويفتان يقبل بإعطاء جزء من القدسللفلسطينيين كما تذكر مجلة التايم عدد 6، تشرين الثاني نوفمبر 2000 "ليس لأن الفلسطينيين يستحقون أن يحكموا أي جزء منها، بل لأننا لا نستحق عقوبة أن يكون لنا أية علاقة معهم". ولا حاجة للقول ان مثل هذه الحلول هي نتاج ذهنية "غيتوية" انعزالية مبرمجة بالهواجس الأمنية، ولا تأتلف تالياً مع مثل عصر الأنوار وقيمه، بل تؤسس لحروب مستديمة تحقق توقعات المتنورين والاشتراكيين أمثال بر بوروشوف أحد زعماء حزب البوند الذي كتب في مطلع القرن العشرين "أن اقامة دولة لليهود في فلسطين يجعل الصراع بين اليهود والعرب أبدياً". وتروتسكي الذي توقع ان "تحول الطبيعة للصهيونية، الاستيطانية الاحتلالية فلسطين الى بقعة صراع ساحقة، وأن يكتسب الصراع بين اليهود والعرب في فلسطين طابعاً مأسوياً في شكل متزايد، وأن تتطور الأحداث العسكرية في المستقبل في اتجاه قد يحول فلسطين الى فخ دموي لبضع مئات الألوف من اليهود". فهل يتخفف اليهود من النهج الاستيطاني التدميري ويؤسسون لسلم مديد تنبني في مناخاته ذاكرة ثقافية تتساوق مع مسار التاريخ والجغرافيا، ذاكرة يسكنها أصدقاء الاسلام من اليهود الذين أسسوا وطوروا "التقليد الثقافي اليهودي - الإسلامي"؟ أم يستمر نهج القطيعة مع المحيط، والوصل مع الغرب الأميركي، والبناء على جدار "التقيلد اليهودي - المسيحي" الذي ابتدع حديثاً، واستقام على قاعدة التعاطف مع ضحايا المحرقة النازية ليؤسس لمستقبل لا يسترشد ظلامه الدامي بنيران المحرقة؟ * استاذ الدراسات الحضارية والأدب المقارن في الجامعة اللبنانية.