عُقد في سالزبورغ النمسا أخيراً مؤتمر بعنوان "من وعاء التذويب الى الموزاييك: التغيّر في دور الهجرة في الحياة الاميركية"، شارك فيه مندوبون من تسع عشرة دولة. وقد دُعيت شخصياً للمشاركة خلافاً للقوانين المرعية الاجراء في مؤتمرات سالزبورغ والتي تقضي بمرور سبعة اعوام قبل السماح بالاشتراك مرة ثانية، ولم يمضِ على اشتراكي السابق سوى عامين فقط. ووجّهت الدعوة إليّ بناء على أبحاثي المنشورة ومساهمتي في حقل الهجرة ومنها تنظيم المعرض الفوتوغرافي للمهاجرين اللبنانيين الاوائل في الولاياتالمتحدة الاميركية الذي أقيم في بيروت في ايلول سبتمبر 1996. هذا المؤتمر واحد من ضمن المؤتمرات والحلقات الدراسية التي تجرى في مركز الدراسات الاميركية في مدينة سالزبورغ على مدار السنة. الهدف الاول منها جمع عدد كبير من المشاركين من جنسيات مختلفة حول موضوع معين بغية تقريب وجهات النظر وتبادل المعرفة. من بين المحاضرين الرئيسيين كان البروفسور ألان وينكلر، استاذ مادة التاريخ في جامعة ميامي في ولاية أوهايو منذ العام 1986. صاحب مؤلفات كثيرة وحائز على جوائز عدة من بينها تنويه من المجلس الاميركي للتربية. قدّم البروفسور وينكلر عرضاً تاريخياً عاماً وشاملاً للهجرة الى اميركا بشتى مراحلها، وتحدّث بدقة وعمق وتنظيم عن أهمية الهجرة واعداد المهاجرين ودول منشأهم والمراحل التي يمر بها المهاجرون والأسباب الدافعة للهجرة وتلك الجاذبة للمهجر وبحث المهاجرين عن هوية وأنماط المراحل التي يقطعونها بين نقطتي الانطلاق والوصول، والروايات والاساطير التي حيكت حول الهجرة والتي لا تخلو من الخيال والتشويق، وصولاً إلى أنماط الهجرة الحديثة. وتناول كذلك تأثير اعداد المهاجرين في التركيبة الاجتماعية للمجتمع الجديد وفي اقتصاده وفي ازدهار المدن والصناعة احياناً على حساب الارياف والزراعة. ثم عرض وينكلر الاسباب السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية التي تؤدي، بمفردها أو مجتمعة، الى الهجرة، كما عرض للعوامل التي اجتذبت المهاجرين الى الولاياتالمتحدة الاميركية ومنها النمو الاقتصادي وحاجة البلاد الى اليد العاملة الرخيصة، اضافة الى كون أميركا ارض الحرية والفرص للجميع، تساعد في ذلك كله الاساطير التي حيكت حول رغد العيش وسهولته وسرعة جني الاموال. وحاضر ايضاً البروفسور أورم أوفرلاند استاذ مادة الادب الاميركي في جامعة برغن - النروج منذ العام 1975، وشغل مناصب ادارية عدة في الجامعة وله مؤلفات كثيرة في موضوع الهجرة، وحاز على جائزة شبكة الدراسات الاميركية للعام 1998 التي تُمنح عادة لأعضاء الجمعية الاوروبية للدراسات الاميركية. وتناول في محاضرته موضوع "سخرية ان تصبح أميركياً" باحثاً في تطور التجاذب بين الولاء لثقافة خلّفها المهاجر وراءه وولاء لأرض جديدة اختارها وطناً له. واستعرض تأرجح هذه الولاءات ومحاولات التوفيق بينها من دون ان يلغي احدهما الآخر، مشدداً على ضرورة الحفاظ على التقاليد الثقافية وعلى قيم المجتمع الام للمساهمة في المجتمع الجديد. وفي حديث خاص مع البروفسور اوفرلاند، أوضح لي ان لقاءات سالزبورغ توفر رؤية أعمق إلى موضوع اللقاء وتفسح في المجال امام التعرّف على ثقافات الآخرين وآرائهم مباشرة عن طريق اللقاءات الشخصية. فالمعرفة التي تتولد من هذه اللقاءات هي معرفة عميقة تظهر لنا بشكل خاص أهمية الابحاث والدراسات في موضوع الهجرة والنزوح. وشارك في المحاضرات أيضاً البروفسور جون بلير استاذ الادب الاميركي والحضارة الاميركية في جامعة جنيفسويسرا منذ العام 1970، وله مؤلفات عدة وحائز على جائزة رالف هنري غابرييل للدراسات الاميركية. وتركز أبحاثه حالياً على الدراسات المقارنة والمؤلفات الاميركية في مضامينها وأطرها الثقافية. عرض البروفسور بلير في محاضرته التأثير المتراكم للهجرة على صورة المجتمع الاميركي من خلال التجارب المهجرية التي تجسّدت في كتابات المهاجرين باللغة الانكليزية، روائية كانت أم سير ذاتية. وخلص الى البحث في رموز تشبيه جديدة تصف المجتمع الاميركي غير التشبيه الذي دام رواجه طويلاً وهو "وعاء التذويب"، والحاجة الملحة الى توصيف جديد يأخذ في الاعتبار المناقشات والجدل الدائر حول مفهوم "التعددية الثقافية". ودارت المناقشات حول الخضم الذي يغوص فيه المهاجر يتجاذبه قطبان هما: الحنين الى الوطن الأم والحاجة الى التأقلم والبقاء في الوطن الجديد، أو بين هروب من... وتوق إلى... مع ما قد ينجم عن ذلك من محاولات ترفض قبوله شريكاً في مجتمع جديد اختار التأقلم فيه طوعاً فاصطدم برفض المجتمع له ولاشراكه في المواطنية وامتيازاتها فاضطر للانكفاء في "الغيتو" المغلق مكرهاً. ومن الغريب أنه متى أتيح لهذا المهاجر الذي رفضه المجتمع الجديد ان يعود الى وطنه الام واجهه مواطنوه هناك برفض آخر لاعتباره اصبح "أميركياً" وبالتالي غريباً... فعلى الطريق بين الوطن والمهجر فقد الهوية. اما أولئك الذين تسنّى لهم الانخراط في العمل السياسي فطريقهم الى قبول المجتمع الجديد كانت أكثر سهولة. واللافت أنه بين حين وآخر نرى ان دول الاغتراب تسمح بالهجرة اليها وتشجع حفاظاً على تركيبتها الديموغرافية. فمع تراجع معدل الولادات يختل التوازن في المجتمع بين جيل الشباب وجيل المعمرين. ويبقى السؤال المحور: من هو الأميركي؟ فالمجتمع الاميركي خليط اعراق واجناس والوان، ولذلك يبقى التعريف متحركاً غير جامد، والفارق العرقي من الفوارق الملموسة. فإذا كنت من اللون الاصفر أو الاسود أو الاسمر الداكن حكم عليك فوراً أنك أجنبي الى ان يتضح بعد حين انك تنتمي الى الجيل الثالث من المهاجرين، ولدت في اميركا وتحمل جنسيتها وتتساوى في الحقوق مع الأنكلوسكسوني ذي الشعر الاشقر والعينين الزرقاوين. فهذه الحدود العرقية التي تؤدي الى تمييز عنصري فوري تتحرك أحياناً، لكن تحركها بطيء غير فاعل وضمن هامش محدود. ولا يمكن لهذه الحدود ان تزول الا من خلال التزاوج بين الاعراق ومشاركة مقاعد الدراسة. وناقش المؤتمرون طويلاً مفهوم "وعاء التذويب"، فلفترة طويلة كان المجتمع الاميركي يشبّه بوعاء تذوب فيه مختلف الفروقات الثقافية وتنصهر في بوتقة واحدة. لكن هذا المفهوم يواجه اليوم رفضاً كبيراً بعد التشجيع على التعرف على الاصول. لكن دعاة المفهوم القديم لم يقصدوا به ان يذوب الكل بحيث تفقد كل مجموعة خصوصيتها الحضارية. وتطرّق المؤتمرون الى البحث في مختلف التسميات التي يقترحها الباحثون اليوم ومنها مفهوم "الموزاييك" الذي يتميز بديمومة الصورة مع الحفاظ على كل جزء ساهم فيها. لكن هذه الصورة هي صورة جامدة غير متحركة وبالتالي غير قابلة للتطور. وجرى البحث في المقابل بصفة "كاليدوسكوب" الذي يتميز كما "الموزاييك" بتعدد الألوان ولكن يختلف بفقدان الديمومة بسبب التحرك الدائم الذي لا يوحي بالاستقرار وبثبات المضمون. ولفتت الاهتمام مداخلات المحاضرين الرئيسيين الذين عرض كل واحد منهم تجربته الشخصية. فكل واحد هو أميركي من اصل ما، ينتمي الى الجيل الثالث من المهاجرين. وشرحت احدى المشاركات كيف ان مقاعد الدراسة في إحدى مدارس منطقتها تضم طلاباً من جاليات مختلفة، ولذلك فهي المكان المثالي لتوفير الاجواء امام التعرف على الآخرين وقبولهم، وهي التي ترسخ الامل بامكانية العيش بسلام في مجتمع يغتني من غنى افراده ومساهماتهم. وتفرّدت كمندوبة من لبنان بتقديم مشروع مستقل لمسيرة المهاجرين اللبنانيين الأوائل تمثّل في عرض سلايدات للمهاجرين في مختلف نشاطاتهم وشروحات تناولت مسيرة المهاجرين في نواحيها الاجتماعية والدينية والاقتصادية والحرفية والفنية، خصوصاً المسرح، وصولاً الى تراثهم الثقافي الغني من خلال دور النشر والصحف والمؤلفات الادبية للكثيرين ومن بينهم اعضاء الرابطة القلمية وبالتحديد جبران خليل جبران المعروف عند معظم المشاركين. ووزّعت على المؤتمر رسالة لجبران وجهها الى الشباب المهاجر في دعوة للتوفيق بين حضارة غنية وتراث مهم يحملونه معهم ليساهموا في بناء المجتمع الجديد وضرورة ممارستهم للمواطنية الصالحة. * استاذة جامعية لبنانية.