يبدأ وزير الخارجية الأميركي الجنرال كولن باول اليوم السبت جولة سريعة في المنطقة تشمل: مصر والسعودية وإسرائيل والضفة الغربية وسورية والأردن والكويت. ومع أن الحكومة اللبنانية حاولت إقناعه بأهمية ضم بيروت إلى برنامج زياراته، إلا أنه اعتذر عن عدم تلبية هذه الرغبة لأسباب تتعلق باختبارات سابقة مارسها من قبله جورج شولتز وجيمس بيكر. وتشير وقائع الفترة الحرجة في عهد الرئيس ريغان إلى أنه سجل اعتراضه على إقحام مهمة البارجة "نيوجيرسي" في حرب لبنان، مخالفاً بذلك قرار الوزير شولتز ومستشار الأمن القومي ماكفرلين. وبرر تحفظاته في حينه بالقول إن التدخل العسكري المحدود - كما في فيتنام - قاد الولاياتالمتحدة إلى هزائم وكوارث عدة. وأشار كولن في مذكراته إلى أن قصف المناطق الشيعية والدرزية أعطى الانطباع بأن واشنطن منحازة إلى خصومهم، وبأن الانتقام من "المارينز" أصبح الهدف المطلوب. وهو يرى أن عملية نسف مقر "المارينز" قرب مطار بيروت 241 قتيلاً كانت الثمن الذي دفعته السياسة الخارجية المشوشة. إضافة إلى هذه الخلفية المريرة التي يحملها الجنرال باول في ذاكرته عن المغامرة العسكرية الفاشلة في لبنان، فإن إدارته مقتنعة بأن إسرائيل نفذت القرار 425، وأن المطالبة بمزارع شبعا أمر مرتبط بمفاوضات الحل الشامل. وبما أن هذه الجولة مخصصة لاستكشاف المواقف المستجدة بشأن مسيرة السلام العربي - الإسرائيلي ومستقبل النظام العراقي، فإن وجهة نظر سورية تعكس تلقائياً وجهة نظر لبنان في سياسة وحدة المسارين! بعض زعماء العرب انتقد الغارة الأميركية - البريطانية على بغداد، واعتبرها تجديداً لسياسة التشويش والتخبط التي مورست في لبنان خلال عهد ريغان، ومن المؤكد أن الوزير كولن باول سيسمع في القاهرةودمشق اعتراضاً على الضربة العسكرية المفاجئة التي سُددت إلى النظام العراقي في وقت يتعرض الشعب الفلسطيني لأقسى أنواع القمع والحصار. ولم تكن التظاهرات التي طوقت السفارات الأميركية في العواصم العربية، سوى تعبير عن استهجان عارم حيال سياسة توقع كثيرون أن تكون أكثر توازناً وأقل انحيازاً إلى إسرائيل. ويرى المراقبون أن الاستعجال في قصف بغداد قبل الوقوف على آراء قادة المنطقة، يُعتبر إقراراً بأن هناك موقفاً أميركياً ثابتاً تجاه نظام صدام حسين لم يتغير منذ عام 1990. الصحف البريطانية المعارضة لحكومة حزب "العمال" كشفت هذا الأسبوع عن بعض الحقائق المتعلقة بالانعطاف المفاجئ الذي قام به طوني بلير تجاه الحزب الجمهوري في الولاياتالمتحدة. وذكرت أنه انعطاف سياسي غير متوقع من زعيم حزب ربط صداقته الشخصية وعلاقات بلاده بالرئيس بيل كلينتون وحزبه الديموقراطي. ولكي يزيل أجواء البرود، أرسل طوني بلير اشارات التودد إلى واشنطن، مؤكداً لجورج دبليو بوش أنه على استعداد لإحياء التحالف الذي أقامه بوش الوالد مع مارغريت ثاتشر. وكان بهذه الخطوة الجريئة يريد حماية حزبه المتصدع وقطع الطريق على المحافظين الذين عرفوا تاريخياً بارتباطهم الوثيق مع الحزب الجمهوري الأميركي. وتوقع بلير أن تحميه هذه النقلة السياسية داخل التحالف الأوروبي، وتمنع عنه الاستفراد والعزلة في حال جددت فرنسا المنافسة مع الولاياتالمتحدة. وزعمت صحيفة "صانداي تايمز" أن قصف مواقع عسكرية حول بغداد تم بناء على تشجيع الحكومة البريطانية التي لمست تغييراً مؤثراً في النظام الدفاعي العراقي. وقالت إن الرئيس كلينتون كان على علم بهذا التطور، ولكنه تحاشى تهديد بغداد لئلا يغضب بعض الأنظمة العربية. وكل ما فعله في هذا الإطار انه طلب من وزارة الدفاع ابلاغ الطيارين تفادي الخطوط الخطرة في منطقة الحظر. لكن الإدارة الأميركية الجديدة تجاوزت محاذير كلينتون، وقررت قصف أجهزة الرادار حول بغداد لاعتقادها بأن العراق حصل على نظام دفاعي متطور قادر على توجيه الصواريخ. وتعمدت الدولتان القيام بغارة مشتركة لكي تؤكدا قرار التنسيق في شؤون الدفاع. ويبدو أن هذا التنسيق بلغ ذروته خلال الاجتماع الذي عقده الوزير البريطاني روبن كوك مع نظيره الأميركي كولن باول في واشنطن. وتبين من الخطوط العريضة أن لندن تفردت دون حليفاتها الأوروبيات، بقرار المشاركة العملية في بناء نظام الدفاع الصاروخي، وأنها أعربت عن استعدادها لمنح أميركا الحق في تثبيت أجهزة رادارات موجهة في منطقة "يوركشاير". يقول المحللون إنه لا يعقل أن يقوم طوني بلير بدور المشجع على قصف العراق - كما فعلت مسز ثاتشر مع بوش الاب - إن لم تكن السياسة الأميركية متجانسة مع هذا التوجه. وهذا يقتضي بالضرورة استكشاف الخطوط العريضة لاستراتيجية الإدارة الجديدة، ومدى تطابقها مع أهداف الغارة على بغداد! ويطل من وراء هذه الاستراتيجية نائب وزير الخارجية ريتشارد ارميتاج، المعارض الأول لفكرة الاحتواء المزدوج. وجاءت الأحداث لتثبت صدق توقعاته بدليل أن إيران عقدت تحالفات مع دول كثيرة أخرجتها من العزلة... وان العراق تخطى نظام العقوبات والمقاطعة. لهذه الأسباب وسواها يرى ارميتاج أنه من الضروري إعلان حكومة انتقالية تتبنى مبادئ المؤتمر الوطني العراقي المعارض، وتنشط بجدية للحصول على شرعية الاعتراف بها من غالبية دول الأممالمتحدة. ويرى صاحب هذا التصور أن مركز الحكومة الانتقالية يجب أن يكون في المنطقة الكردية الواقعة في شمال العراق، شرط أن تقام منطقة آمنة أخرى في الجنوب، حيث انطلقت حركة تمرد الشيعة. ويعترف الرئيس بوش الأب أنه اخطأ جداً عندما شجع القوات الموالية لصدام حسين على التصدي لحركات العصيان في الشمال والجنوب، بحجة الحفاظ على وحدة البلاد من دعوات الانفصال. كذلك يعترف الجنرال باول بأنه اخطأ في التقدير عندما أيد قرار انسحاب قوات التحالف، لاعتقاده بأن تدمير الحرس الجمهوري كان كافياً لإسقاط صدام وازاحته عن الحكم. وكان مقتنعاً - حسبما تقول النظريات العسكرية - ان الهزيمة المذلة تشجع انقلاب الجنود على القيادة، ولكنه سرعان ما تبين خطأ تطبيق هذه النظرية في دول العالم الثالث حيث القادة هم المنتصرون والجيوش هي المهزومة. الخطوة الثانية في هذه الاستراتيجية تتمحور حول معالجة النزاع العربي - الإسرائيلي في سياق الحلول المطروحة تجاه الشرق الأوسط، مع إعطاء أولوية التسوية لأزمتي إيرانوالعراق. ومعنى هذا أن القضية الفلسطينية ستتراجع في سلم الأولويات، خصوصاً وأن سياسة شارون لا تبشر بأي حل معقول أو مقبول. وينصح الرئيس جورج دبليو بوش بضرورة احياء الائتلاف الذي أنشئ عام 1991 بهدف طرد العراق من الكويت، على أمل إقامة تحالف جديد يكون مؤيداً لفكرة تغيير نظام صدام حسين. ولم تكن الغارة على بغداد سوى مؤشر على جدية الدعوة التي سيطرحها كولن باول في العواصم العربية، وعلى مدى اهتمام الإدارة الأميركية بإحياء فكرة التحالف التي قضت عليها السنوات التسع الأخيرة. ومن المتوقع أن تلقى دعوة باول اعتراضات جمة، لأن الشركات الأميركية والأوروبية هي التي تجاهلت المراقبة وأضعفت تأثير الحصار بسبب تزاحمها على عقد صفقات تجارية مع إيرانوالعراق. ونشرت الصحف الأميركية مراراً أسماء الشركات التي استمرت تتعامل مع بغداد طوال فترة الحظر. وفي هذا السياق يمكن أن يواجه الوزير باول اعتراضاً من المسؤولين السوريين إذا هو ناقش مسألة خرق العقوبات، إن كان بواسطة الرحلات الجوية أم بواسطة تصدير النفط العراقي. وكانت دمشق تجاهلت شروطاً أميركية لتعاونها النفطي مع العراق تقضي بأن تخضع كافة العائدات المالية لتصدير النفط العراقي عبر أراضيها لمراقبة الأممالمتحدة وبرنامج النفط مقابل الغذاء، كما تجاهلت أيضاً انتقادات الصحف البريطانية، وأعادت تشغيل أنبوب كركوك - بانياس الذي ينقل 150 ألف برميل يومياً. وقال المسؤولون السوريون إنهم يختبرون قدرة الأنبوب على نقل النفط مسافة 552 ميلاً بعد توقف دام حوالى عشرين عاماً. وأعلن الخبراء أن إعادة تشغيل هذا الخط توفر مليوني دولار يومياً للعراق بعيداً عن أعين الأممالمتحدة، كما تؤمن للخزينة السورية مبلغاً يزيد على البليون دولار سنوياً. على اثر انتخاب ارييل شارون رئيساً للوزراء، اتصل به الرئيس بوش مهنئاً وذكّره بالجولة التي قام بها فوق الأراضي الإسرائيلية يوم رافقه شارون في مروحية عسكرية. واقتبس شارون أثناء إلقائه خطاب الفوز، بعض العبارات التي سمعها من الرئيس الأميركي، وذلك بغرض التدليل على الصداقة التي تجمعهما. وخشي بوش أن يترك خطاب شارون أثراً سيئاً لدى زعماء الدول العربية، لذلك طلب من وزير خارجيته كولن باول أن يحدد الخط السياسي الذي ستنتهجه إدارته مع إسرائيل والفلسطينيين. وكان خطأ فظاً غير مُصاغ بلغة ديبلوماسية استخدم فيه الوزير عبارة "سياسة من دون نفاق". واعتبرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" ان هذه العبارة تمثل خروجاً على الخط التقليدي الذي اتبعته إدارة كلينتون، وان إسرائيل لم تعد الحليف المفضل الذي يحظى بأولوية الاهتمام، خصوصاً عندما ذكر بأن الاستقرار في الشرق الأوسط يمثل مصلحة أميركا العليا، وأن من يخرق هذا الاستقرار سينال العقاب الذي يستحقه. والمعروف أن شخصية شارون لا تستأثر بأي قدر من الاحترام والتقدير لدى زعماء الحزبين الرئيسيين في الولاياتالمتحدة، وربما تكون مجزرة "صبرا وشاتيلا" هي التي طبعت في أذهان الأميركيين صورة الوحش الذي تسبب في ذبح 800 عجوز وامرأة وطفل. ثم كبرت هذه الصورة البشعة في عقول السياسيين الذين أزعجتهم تصريحات شارون وتأييده للصرب يوم كان وزيراً للخارجية في حكومة بنيامين نتانياهو. وتنظر إدارة بوش بعين القلق إلى سياسة التودد التي يظهرها نحو روسيا، وإلى ميله لإعطاء موسكو دور الشريك المؤثر في أزمة الشرق الأوسط. ويلتقي في هذا الطرح مع اسحق شامير الذي انتقده مرة الوزير السابق جيمس بيكر بقوله: "عندما تكون جدياً في موضوع السلام، أرجو أن تتصل بي على هذا الرقم ... في البيت الأبيض!". ويؤكد جيمس بيكر أن خلفه الجنرال باول سيكرر هذه العبارة أثناء اجتماعه بالجنرال شارون! * كاتب وصحافي لبناني.