إذا كانت الضربة العسكرية للعراق "تمريناً" أولياً لصقور البنتاغون لئلا يخطئ الرئيس صدام حسين في اختبار نيات إدارة الرئيس جورج بوش، فهي أيضاً شكلت أول فرصة لحكومة توني بلير كي تثبت أن ولاءها للتحالف مع واشنطن لا يتزعزع. أما الأداء البريطاني فكان رديئاً بامتياز. صمتَ البنتاغون بعد تبرير القصف "الروتيني"، فتولت لندن المبارزة الكلامية مع بغداد، وفي مقابل التهديد العراقي الذي يكرر شعارات بطولة فارغة، التفّت الحكومة البريطانية على ذاتها 180 درجة، بعدما لوحت بجزرة الحوار مع صدام فترة طويلة. يفسر ذلك حيرة الفرنسيين ازاء الضربة الجوية، فيما الغضب الروسي لا يعتد به كالعادة للتأثير في أي سياسة تنتهجها واشنطن بتجديد جدران "احتواء" العراق... ولو بررت موسكو ضرب الرادارات جنوببغداد بقصف التصلب الروسي حيال مشروع الدفاع الصاروخي الأميركي الذي يتبناه بوش بحماسة. والرسالة المستهدفة من الضربة قد تُقرأ رسائل عديدة: واحدة إلى بغداد وثانية إلى موسكو وثالثة إلى قمة عمّان العربية، ربما، ورابعة من البنتاغون لاستباق جولة الوزير كولن باول على المنطقة، وخامسة ل"قصف" الحوار بين العراق والأمم المتحدة... وهكذا. لكن، وسط بعض ضجيج التأييد للعراق في الشارع العربي والذي يكاد أن ينحصر في عمّان والأراضي الفلسطينية لأسباب معروفة، بدا تعاطف الحكومات العربية مع بغداد إثر الغارات متأخراً إلى حد ما، وبعضه مسافة يومين، كما لم يصل إلى حد الاجماع الكامل على رفض الخيار العسكري. وإذا كان يصعب على واشنطن نظرياً أن تتجاهل إلى ما لا نهاية الاستياء الشعبي وملل الحكومات، خصوصاً في الدول القريية، من لعبة القط والفأر التي شهدت "استرخاءً" استثنائياً فترة سنتين، أنهته الغارات الجوية، فالواضح أيضاً أن الدول المؤثرة في المنطقة تنتظر ما ستؤول إليه مراجعة السياسة الأميركية. وبعضها سيكرر أمام باول التحذيرات القديمة - الجديدة من مغامرات عسكرية ليست مضمونة النتائج، ولا يستطيع أهل المنطقة دفع ثمنها، لعل ذلك يعزز كفة الوزير "المعتدل" في مواجهة صقور البنتاغون الذين يعدون استراتيجية لإطاحة النظام العراقي، ما زال باكراً التكهن بطبيعتها ومداها. ولن يُفاجأ باول باستياء عربي من ازدواجية المعايير الأميركية، كلما دنت من مصالح إسرائيل التي تجد فرصتها في أولئك الصقور لتضخيم "عضلات" العراق مجدداً. وإسرائيل بحكومة "الوحدة الوطنية" أو من دونها باتت بأمسّ الحاجة إلى السيناريو العراقي. وإذا كان المرجح أن يكرر التاريخ ذاته، فيعطي النظام العراقي بتهديداته الكلامية - إلى الآن - الذريعة الجاهزة لمزيد من الضربات، ستنصرف حكومة ارييل شارون إلى تدمير الكيان الفلسطيني وسحق ما بقي من حجارة الانتفاضة وأهلها تحت دخان صواريخ "باتريوت" التي ستتصدى لانتقام صدام. ألا يفسر ذلك حفلة الإثارة الإسرائيلية ازاء رعب مفتعل من "محور" بين دمشقوبغداد وطهران؟ على أجندة بلير في رحلته إلى البيت الأبيض "عقوبات ذكية" تضفي تجميلاً على وجه الحظر، الذي نقل مأساة المدنيين العراقيين إلى شوارع لندنوواشنطن وبوسطن. ولا يتعارض المشروع البريطاني مع طموحات وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد ومستشاريه الذين يأملون باقناع بوش الابن بما عارضه بوش الاب، وجعل إطاحة صدام على رأس أولويات البيت الأبيض. فالعقوبات "الذكية" مجرد مرحلة لامتصاص نقمة الشارع، ولا أحد يعلم بعد هل تكون بذكاء وزير الدفاع البريطاني الذي اعتبر الغارات على ضواحي بغداد "عملية إنسانية".