قبل وصول الموفد الأميركي الجنرال انتوني زيني الى المنطقة، دعا وزير خارجية اسرائيل شمعون بيريز رئيس الوزراء ارييل شارون الى عشاء خاص في منزله لكي يبحث معه موضوع اختيار طاقم المفاوضات. وفاجأه شارون بالقول انه حسم مسألة انتقاء عناصر الطاقم الاسرائيلي، وانه اختار الجنرال في الاحتياط مئير داغان لترؤس فريق المباحثات مع الجنرال زيني. وبرر رئيس الوزراء تجاوز صلاحيات وزيره بحجة ان داغان العسكري يتقن لغة التعاطي مع الجنرال الأميركي أكثر من السياسيين. ولما أعرب بيريز عن انزعاجه من تجاوز دوره الديبلوماسي، أبلغه شارون بأنه عازم على تمرير هذه المرحلة الصعبة بانتظار ظهور وريث لياسر عرفات. وفهم بيريز بهذا الايحاء ان رئيس الوزراء راغب في نسف مهمة زيني قبل ان تبدأ، خصوصاً وأنه انتقى للتنفيذ عسكرياً عُرف بميوله اليمينية المتطرفة، وبتاريخه الدموي منذ تعيينه قائداً لكتيبة تصفية الارهاب في غزة تحت إمرة شارون. اللغم الثاني الذي زرعه شارون في طريق المفاوضات، يتعلق باشكالات تنفيذ توصيات لجنة ميتشل والشروط التعجيزية التي قدمها للوزير الأميركي كولن باول. لقد أحرجه عندما طلب منه الحصول على وعد من عرفات بضرورة تثبيت سبعة أيام هدوء كامل يتم خلالها اعتقال المطلوبين وجمع الأسلحة غير القانونية. ولما استوضحه باول عن الانجازات المتوازية المطلوبة من اسرائيل كاعلان تجميد بناء المستوطنات، اجابه شارون بأن تقرير لجنة ميتشل يحدد فترة ستة أسابيع، اضافة الى اسبوع الهدوء التام قبل الوصول الى بند تجميد المستوطنات. وفوجئ الوزير الأميركي لدى عودته الى واشنطن بأنه وقع ضحية احتيال سياسي إذ تبين له ان فترة اختبار النيات المحددة بستة أسابيع لا تعني الفلسطينيين وحدهم بقدر ما تعني الاسرائيليين أيضاً. ذلك ان التقرير يتحدث عن فترة الهدوء في الصفحة 28 كجزء من المرحلة الثانية المسماة مرحلة بناء الثقة. وهي تتعلق بتجميد المستوطنات واطلاق سراح السجناء الفلسطينيين وتقديم تسهيلات أخرى تقوم اسرائيل بعرضها حسب مبدأ التبادلية والمعاملة بالمثل. وهكذا نسج شارون شبكة من خيوط سياسية وأمنية أعاقت تحركات الوسطاء من أمثال كولن باول وجورج تينيت وانتوني زيني. التطور الأخير كان بمثابة الاعداد لمرحلة جديدة من التدخل الخارجي على اعتبار ان الضغوط العربية والأوروبية قد تدفع حكومة شارون الى التراجع عن قرار اسقاط الشراكة مع عرفات. ولكن اهتمام شارون كان منصباً اثناء زيارته الأخيرة لواشنطن، على استكشاف مدى استعداد واشنطن لتسخين الجبهة العراقية. والسبب ان الرئيس جورج بوش سيضطر الى مضاعفة ضغوطه على اسرائيل من أجل وقف النزاع اذا كان فعلاً يريد ترجمة خطابه العنيف ضد النظام العراقي الذي وصفه "بالشرير". وهذا ما فعله والده عام 1991 في موازنته السياسية بين ضرب العراق وعقد مؤتمر مدريد للسلام. ولكن العمليات الانتحارية التي نفذتها عناصر تابعة ل"حماس" و"الجهاد الاسلامي"، همشت موضوع العراق وجعلت شارون يركز في حديثه مع بوش على مسؤولية عرفات في تشجيع العمليات "الارهابية". خصوصاً وأن تصريح الجنرال زيني اعانه على كسب تأييد الرئيس الأميركي عندما اتهم الجماعات الارهابية بمحاولة احباط مهمته السلمية. واستغل شارون مناخ العنف ليطالب بضرورة ابعاد سلطة عرفات كشرط اساسي لاستئناف محادثات السلام. ثم عاد من واشنطن متسلحاً بغضب الرئيس، ليعلن الحرب ضد "طالبان الفلسطينية" مدعياً انه أخذ الضوء الأخضر من الادارة الأميركية. وقال في الاجتماع الطارئ لمجلس الوزراء ان على اسرائيل تسجيل الثاني من كانون الأول ديسمبر يوماً تاريخياً يمثل انعطافة كبرى شبيهة بانعطافة 11 أيلول سبتمبر لدى الولاياتالمتحدة والعالم الغربي. وكان بهذه المقارنة يريد الغاء فكرة الاحتلال، وتصوير ياسر عرفات أمام الرأي العام بأنه لا يختلف عن اسامة بن لادن في موضوع الارهاب المنظم. وهذا ما أشار اليه بنيامين نتانياهو عند ظهوره على شاشات التلفزيون واعلانه بأن الوسيلة الوحيدة لقطع دابر العنف هو تدمير النظام الذي يرعاه. ونصح شارون بألا يضيع الوقت في البحث عن الإبرة داخل كومة القش، بل يجب عليه ازالة كومة القش كلها، تماماً مثلما يفعل الأميركيون بمحو نظام "طالبان" وتقويض شبكة "القاعدة" معه. عندما استبعدت الولاياتالمتحدة اسرائيل من التحالف الدولي ضد الارهاب العالمي، كانت تهدف الى تثبيت الائتلاف الذي يضم دولاً عربية واسلامية. ولكن هذا الحذر لم يعد موجوداً بعد هزيمة "طالبان" واحتلال كابول وتأليف حكومة انتقالية. ومعنى هذا ان ادارة بوش لم تعد خائفة من المسّ بالدول العربية داخل التحالف. خصوصاًً وأن هذه الدول بقيت متحفظة في دعمها العسكري والسياسي خوفاً من إغضاب مجتمعاتها. ولقد استثمرت اسرائيل تحول الموقف الأميركي لتخلق تماثلاً استراتيجياً بين الحربين، وتدعي ان مقاومتها "للارهاب" الفلسطيني لا تقل عن مقاومة الولاياتالمتحدة وحلفائها للارهاب الطالباني. وفي سبيل تعزيز هذه القناعة عرض التلفزيون الاسرائيلي شريط الفيديو المسجل سابقاً للعملية الانتحارية التي نفذها سامر شواهنة. وفسر الشاب عمله بأنه ثأر لاغتيال القائد العسكري في "حماس" محمود أبو هنود، ولقتل الأبرياء في افغانستان بواسطة الحملة الجوية الأميركية. ومع ان أبو عمار نفى وجود أي علاقة لاسامة بن لادن بفلسطين، الا ان ال"شاباك" وزعت على الصحف معلومات تشير الى اكتشاف خلية "للقاعدة" في غزة كشف عنها المعتقل نبيل عوكل العام الماضي. وبين الادعاءات التي نُسبت الى عوكل اعترافه بأنه تدرب في مخيمات "القاعدة" في افغانستان، وبأنه كان يحصل على المال من الشيخ أحمد ياسين. وترى واشنطن ان هناك ترابطاً سياسياً بين افغانستان والساحة الفلسطينية بدليل ما ذكره شواهنة من أنه توخى تخفيف الضربات الجوية الاميركية في افغانستان، وتحويل انتباه الرئيس بوش الى هدف آخر لا يقل اهمية عن الهدف الأول. وربما كانت الولاياتالمتحدة أول دولة تمارس نظرية الترابط بين حدثين متباعدين جغرافياً بعدما وضعها هنري كيسنجر موضع التنفيذ. وفي مرحلة الهزائم التي منيت بها القوات الاميركية في فيتنام، كان كيسنجر يعطي الضوء الأخضر لاسرائيل لكي تنتقم من الفلسطينيين حلفاء موسكو وهانوي. وكما استخدم صدام حسين صواريخه ضد اسرائيل لتخفيف الضغط عنه أثناء حرب الخليج، هكذا استخدم بن لادن فلسطين في خطاب المغارة لكي يخفف عنه الأذى الأميركي. وتزعم اسرائيل ان عرفات استفاد من اجواء الحرب الباردة لكي يقوم بدور مزدوج، أي دور الدولة المسؤولة تجاه الرأي العام، ودور المنظمة غير الرسمية المتحررة من قيود المسؤوليات والواجبات. ولقد تمتع بهذين الامتيازين خلال السبعينات والثمانينات لأن الدول العظمى كانت ترعى العنف والارهاب بالواسطة. ولكن انهيار الاتحاد السوفياتي أنهى هذه اللعبة، الأمر الذي احرج عرفات وحدد تحركاته. وعلى الرغم من وجود صعوبات جوهرية بعد اتفاق أوسلو وانتقال أبو عمار الى غزة ورام الله، أوجد رئيس السلطة الفلسطينية هامشاً وسيعاً للتحرك مشابهاً للاجهزة الرسمية مثل القوة 17 وفتح - التنظيم. ويبدو ان هذا الدور المزدوج قد انتهى حالياً بعد الانذار الذي وجهه اليه الجنرال زيني. وهو انذار بالغ الخطورة لأنه وضع عرفات في مواجهة الحقيقة من دون الحصول على وعد بالدولة الفلسطينية. وفجأة وجد نفسه مضطراً للتعامل مع الأحداث كرئيس دولة وليس كرئيس تنظيم. ومثل هذه المغامرة وضعته في مواجهة مباشرة مع فلسطينيي "حماس" و"الجهاد الاسلامي" تفادياً لحرب شاملة ضد اسرائيل قد تنتهي باغتياله وتقويض سلطته الضيقة على أرض فلسطين. في غياب اسرائيل والولاياتالمتحدة تبنت 114 دولة اعلاناً يؤكد مجدداً انطباق معاهدات جنيف على الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، بما في ذلك القدسالشرقية. ونشطت منظمة المؤتمر الاسلامي ووزراء الخارجية العرب لدعم السلطة الفلسطينية، اضافة الى اجتماع اسلامي طارئ دعت اليه طهران. واعلن الوزير الروسي ايفانوف ان عرفات يسيطر على الوضع كزعيم معترف به دولياً، وان بلاده ستساعده على الخروج من الأزمة. وأيد الرئيس الفرنسي جاك شيراك هذه الجهود محذراً اسرائيل من تدمير ما تبقى من اتفاقات اوسلو. وكان من الطبيعي ان يساعد هذا التطور على تليين الموقف الأميركي المتصلب، ويعطي جورج بوش الدليل القاطع على أن دعم اميركا في افغانستان لا يلزم حلفاءها على دعمها في فلسطين. ويبدو ان عرفات ركب موجة التحدي واتصل بشمعون بيريز ليعاتبه على قرار حزب العمل مواصلة الشراكة مع شارون، ويطلب منه ومن الجنرال زيني فتح المعابر لكي تسهل عملية تحرك قواته أثناء ملاحقة المتهمين. وأكد لبيريز استعداده الكامل لتجديد البيان المشترك الذي صدر عقب اجتماعهما في آخر أيلول الماضي. أي البيان الذي يتحدث عن التعاون الأمني واللجان المشتركة ورفع الحصار. ووعده الوزير الاسرائيلي بالعمل على احياء البيان شرط ان ينفذ الوعود التي قطعها في أوسلو أمام اسحق رابين. وهي وعود أمنية تقضي بتولي السلطة الفلسطينية كامل المسؤولية المتعلقة بناشطي المنظمات المعارضة. وذكّره أبو عمار بأن هذه الوعود جاءت نتيجة تعهد منه ومن رابين بالعمل على تحقيق الدولة الفلسطينية. الرئيس الفرنسي جاك شيراك ورئيس الحكومة البريطانية طوني بلير حاولا اقناع الرئيس جورج بوش بأن يكتفي بالخطوات المحاذرة التي يتخذها عرفات لكبح العنف. وحذرا من حنق شارون على سياستهما، ومن التمادي في الضغط على السلطة الفلسطينية، المعرضة لمخاطر التصفيات والحرب الأهلية. والملاحظ ان الرئيس الأميركي لم يختر مبعوثاً خاصاً مثل دينيس روس في عهد كلينتون، انما طلب من الوزير كولن باول ان يتولى هو انتقاء الوسيط. وارسل عسكرياً مثله هو الجنرال انتوني زيني لعله يرهب العسكري شارون ويؤمن بعض الامتثال لرغبات معلمه المباشر. ويستنتج من تصرفات الرئيس بوش انه لا يريد اعطاء الانطباع بالانحياز الى أحد الفريقين المتناحرين في ادارته. لذلك انبرى نائب وزير الدفاع بول ولفوفيتس ليصف اسرائيل بأنها حاملة طائرات صديقة، في حين يلعب عرفات دائماً دور اللغم الارهابي. ووسط هذا التناحر الأميركي المرير يسعى ياسر عرفات لأن ينقذ سلطته من صواريخ شارون ومن مؤامرات "البنتاغون"، ومن خصومه العقائديين الذين يعرفون ان خسارة "طالبان" الحرب هي ايضاً خسارة عقائدية لكل التيارات المشابهة! * كاتب وصحافي لبناني.