خاض أمين الريحاني ميادين عدة في الأدب والفكر، وكتب في حقول شتى وكان روائياً وشاعراً مثلما كان ناقداً ومفكّراً وكاتب مقالة. ومثلما كتب بالعربية كتب ايضاً بالإنكليزية على غرار رفاقه المهجريين من امثال جبران وميخائيل نعيمة. ولعل تراثه المكتوب بالإنكليزية لا يزال في معظمه طيّ الأدراج. وكان الأديب أمين ألبرت الريحاني باشر في إصدار بعض من هذا التراث بالإنكليزية. وقريباً يصدر كتاب للريحاني عن "ألف ليلة وليلة" وعنوانه "دراسة في الليالي العربية". وتقسم هذه الدراسة كما يشير أمين ألبرت الريحاني في كتابه "الينابيع المنسية: مخطوطات امين الريحاني المنسية" دار الريس، بيروت 2000 الى قسمين: الأول في عشرة فصول ويدور حول الكتاب، والثاني في أربعة فصول ويدور حول الترجمات. وتختتم الدراسة بمختارات مترجمة مع تعليقات حولها. اما النص المطبوع فيتضمن جملاً ومفردات مضافة بين السطور، أو في الحواشي، بخط الريحاني. ولا نقع على تاريخ محدد للمخطوطة. ... يشير الريحاني الى أنه، اضافة الى ترسمه لروحية ألف ليلة وليلة من حيث الأسطورة، والسحر، والروح الكونية، والإطار الأدبي، سيثبت ان هذا الكتاب هو اثر فني يرمز الى عبقرية شعب أسهم في الآداب الكلاسيكية العالمية. ولذا سيتوقف عند توغل "الليالي" في الغرب - اوروبا وأميركا - من طريق الترجمة وأثرها في الآداب المماثلة. ونظراً الى أهمية هذا النص النقدي المتمثلة في مقاربة الريحاني لأحد المؤلفات التراثية التي شغلت الأوساط الشعبية والأدبية في العالم فإننا نختار منه فصلاً ننقله الى العربية نموذجاً لهذه القراءة النقدية الفريدة. لعلّ النوعية الدخيلة الإكزوتيكية لحكايات "ألف ليلة وليلة" لا تجد دائماً ذلك التعاطف من القارئ الغربي، وهذا ليس مستغرباً. فالنكهة لاذعة - احياناً - أكثر مما يجب، أو أن الطعم مُتخِم Cloying أو ان الصلصة في الحالتين غامضة جداً ومنفّرة تقريباً. إلا ان الرفض غالباً ما يكون مزاجياً ولا يشير الى عجز أو عدم كفاية من المؤلِّف. إن نزواته الرائعة تنتمي الى بلاد وشعب آخرين. اما مبادرته الأدبية ففقدت امتيازها مع مرور الزمن. أما حبكة الرواية وآليتها فهما في أفضل الأحوال عبارة عن ألفاظ ركيكة وضعيفة. على أن المشاهد التي لها طعم وحرية تدفق الصنبور أو الصحراء لا تجد - من دون شك - صدىً في العقل الأخلاقي السوقي ذي الأفق الضيق. ولكن هناك الى جانب سحر القص الروائي في "الليالي" نوعية خاصة لها ديمومة وجاذبية عالميتان، لأنها تلمس ذلك الجانب في الطبيعة الإنسانية، التي هي مدرِكة في كل مكان - تقريباً - مواقع الضعف والمحدودية فينا، والتي لا تمانع في حال الانبساط أو البهجة من رؤيتها في ضوء الفكاهة والسخرية. ما الذي يمكن ان يبعث على الراحة والثقافة كإدراكنا الأوهام؟! وما الذي يمكن ان يكون اكثر مدعاة للمتعة من سلوكيات جارنا المتعالية - على سبيل المثال - حين نحوّلها الى موضوع للضحك؟! ونحن بالتأكيد لسنا ذلك الجار، وإلا فإن العالم لن يكون مكاناً مأموناً للضحك. في كتاب "الليالي" إن الميزان شمولي حاسم وتام، وليس من شيء مقدَّس أو مدنّس إلا يمكن التعليق عليه. فهنالك مدىً واسع يمتد من الKeynote أي "القرار الأرضي" في المسجد وهو مصطلح موسيقي يعني المنخفِض من الأصوات الغنائية. حتى الOctave اوكتاف في المسقى مصطلح موسيقي يعني "الثُمانية" أي مجموعة صوتية تامة ايضاً مؤلفة من ثماني وحدات متكاملة. ولكن لنقل انه من النادر للعربي ان يبتسم. قد يكون وغداً مختاراً أو شديداً، أو ضعيفاً لا يوصف أو قاسياً، إلا انه نادراً ما يكون خبيثاً. هو يضحك، أو يقهقه، أو يتدحرج على الرمل أو يكون وقوراً. ولكن هذا لا يعني ان روح الفكاهة ليست عميقة مصقولة أو مصفّاة لديه. وبالتأكيد فهي ليست دائماً "رابيليّة" نسبة الى المفكر الفرنسي رابيليه. وهي تهز الذهب من جناحها في مقابل الرحيق الذي ينتجه غباء أو غرور هذا العالم. حتى النزاهة قد يكون لها نقطة ضعف في درعها. فالتاجر في قصة "التاجر والجنّي" يستعطف العفريت للإبقاء على حياته، كي يعود لتوديع أهله، ولتسديد ديونه. وهو يَعِد بالعودة لكي يُقتل، ويفعل ذلك في اليوم الموعود متأبطاً كفنه. الطَموح المتواضع يصبح موضعاً للسخرية في قصة "شيركان" عندما لا يتمنى الحطّاب الذي ينعم بحظوة من ملكه اكثر من ان يصبح ملكاً للكنّاسين في دمشق. وهو بالتالي يصبح حاكماً للمدينة، ويسمى سلطان الزّبّال السابق "زيبلكان". أما "زُمرّد" فهي الملكة المتنكّرة، التي تعرف الغرباء الذين يأتون إلى ولائها. فهي تعطينا عرضاً ممتعاً بصفتها ضاربة بالرمل Geomancer. إن في وسع مهرِّج وأو جليس هارون الرشيد الشاعر أبو النواس الاحتفاظ بمكانته امام أي من مهرّجي شكسبير. حتى أن شيطان شهرزاد ممتع ومسلّ. إن هذا المخلوق ذو القرنين المجردين من الشرف والحياء، وحتى من الذكاء ايضاً يصوّر في فولكلور اوروبا بأن لا مكان له في خطتها للخلاص. فالرجل المسنّ الذي يتحلى بالوقار والوسامة يقوم "ذات ليلة" بزيارة "ابراهيم الموصلّلي" المطرب البغدادي المشهور، الذي يتصف بأخلاق كتلك التي يتصف بها أبطال تشيسترتون Chesterton الروائي الإنكليزي الذي يستشهد بالشعراء، معتذراً عن تطفّله، والذي ليس في كلامه او إشاراته شيء من سخرية المنافق، أو مدمّر الأرواح، بل بالعكس هو فنان وسيّد مثقف. وهو يرى في تململ مضيفه الرغبة في الاستمتاع. هل يمكنه ان يقترح أغنية؟ وهو مستعد لأن يغني. بالنسبة الى ابراهيم فإن الاقتراح بحد ذاته يبدو مسلياً، إلا ان الرجل المسن يغني وسط دهشة المطرب البغدادي الشهير ثم يختفي. الشيطان يوجّهه ويعلّمه، إضافة الى ما غنى، أغنية جديدة. لكن هذا ليس مفاجئاً حين نأخذ في الاعتبار ان الجن ايضاً هم من طبقة نبيلة، حتى أن الثعلب والصقر يصبحان بفضل الإسلام لطيفين وكريمين، ويتّصفان بوسامة المظهر. والآن حين ننظر الى الوجه الآخر من الصورة نجد ان الفراشة تصبح خفّاشاً. في عملية التحول هناك - على أية حال - استراحة قصيرة، يتخللها المزاج الكئيب الساخر. قال دزرائيلي ذات مرة: "إذا كانت طبيعة الإنسان تحتوي على الصدق الى جانب الحيوانية والرغبة في المرح، فإن هناك - بالفعل - ضرباً من السرد الشهواني الإباحي ايضاً، أو حتى النذالة ...، بل إنها تستعير من النصوص الأكثر قداسة لتصف الأكثر دنساً، ... مجازاً، فتنتزع الضحك من اكثر الناس جلالاً ووقاراً". وعلى رغم ما يبدو في هذا من غرابة للقارئ الغربي حين يقرأ الطبعات غير المنقّحة من ترجمات بريتون وباين التي تُحذف منها الكلمات البذيئة وعلى رغم الفكاهة التي غالباً ما تفوتهما فإن النص يحتفظ بنوعية تُبقي له مباشرته وسلاسته وسذاجته. ذلك ان الرومانسي القديم راوي الحكاية في مثل هذه الواقعية هو في الواقع مثل الفراشة الباحثة عن الأزهار: بطزاجة، وانفتاح، وحرية، ومرح. فإن استبداله الرحيق بالدقيق يصبح ممكناً. "إنه ينظر الى الشهد ويتحدث عنه بلغة تشبه لغة الطفل البسيطة". ليس فيها شيء قط يوحي بعقل فاسق، ولا شيء من "الفسق المستور" أو "الشهوانية المعقدة" أو "الحذلقة المبطنة". في معظم قصص الجزء الثاني من طبعة بولاق فإن الأوصاف الواقعية محذوفة تماماً، الأمر الذي له دلالته، لأنه يميل الى أن يُظهر أنها إما ان تكون قد نُسِخت بيد عربي تحول الى المسيحية أي غسّاني أو ربما على سبيل المثال كُتبت في دولة يستشري الفساد في مجتمعها والانحلال الخلقي حيث الرقابة هي السائدة. يقسّم شوفان "الليالي" الى جزءين مختلفين في اوجههما الأدبية، ويشدد على أنهما كُتبا بيد مؤلفين مختلفين، أحدهما ذكي وأديب فنان اصيل، والآخر يهودي تحول الى الإسلام. تبرز مثل هذه الأسئلة حين يتطرق الأمر الى البحث في الأصل والتأليف. ويجب القول - ومن دون شك - ان هناك عنصراً عبرانياً في كتاب "ألف ليلة وليلة". إن الواقعية الجريئة في النصف الأول من الحكايات لا تختلف عن مثيلاتها في "العهد القديم". ولكن أليست كل الكلاسيكيات العظيمة مزيّنة بمثل هذا أو بما يشبهه؟ ومن المستغرب انه في الوقت الذي يجرى فيه تقطيع أوصال "الليالي" الى ما يسمى ب"طبعات الصالونات" و"طبعات العائلة" فإن اعمال شكسبير التي لا تذكر شيئاً عن مونتاين ورابيليه لا تزال توزع بحرية، ومن دون رقابة! والأمر ذاته ينسحب على الحكايات الساخرة لبلزاك المبطنة بالغرابة اللائقة الموحية. اما ديكاميرون فمحنّك بما فيه الكفاية لاستيعاب النسيج القاسي لمنطق المادة المتفجرة من الخيال المنحل أو الداعر. إن مؤلفي "الليالي" لم يطمحوا في اي يوم الى هذا الفن المبدع والمصقول. إن واقعيتهم العارية تقف تقريباً - معزولة في الأمكنة التي رست في توهج جُزر المستحيلات الرومانسية. وهي بذلك تشكّل دليلاً آخر على الصفات المتأصلة لطبيعة العربي المؤلفة من اكثر التناقضات تلوناً. وفي الحقيقة فإن درجة الحدة التي تتخلل كتاب "الليالي" كله تستثمر هذه الواقعية بمبالغة فائقة، والتي هي - كما يقول عنها بيرتون - "جزء من الفكاهة"، وهي ايضاً جزء من الخيال الجامح. ولأن خيمة الواقع السوداء أي "إن الزهرة هي حق للفراشة" - تقف في السراب الخرافي، يجب ان تبدو وكأنها جزء من التوهج المترجرج، أو النواة الصلبة في اشعاع الحلم الهارب. لكن عندما تهب رياح الحظ لتشتيت الوهم فإن الحياة في الداخل تفاجأ، ويُضبط الحب عارياً، من طفل ذنبه الوحيد ان في وسعه ان يكتب، وأن يرى أيضاً. عن الإنكليزية: غسان علم الدين