لما اكتفى دارسو الريحاني بالعربية واللغات الأوروبية بتناول أعماله المنشورة دون المخطوطة، فقد جاء كتاب أمين ألبرت الريحاني "الينابيع المنسية" ليفصح عن مخطوطات أمين الريحاني الانكليزية التي لا تزال مطوية ومجهولة حتى اليوم. وهو كتاب صدر هذا العام عن دار رياض نجيب الريس. فالمخطوطات العربية نُشرت جميعها أما المخطوطات الانكليزية فكانت لا تزال محفوظة في متحف الريحاني في الفريكة وقد استغرقت ثمانية عشر عنواناً في واحد وعشرين مجلداً تقع في نيف وسبعة آلاف صفحة. أما "الينابيع المنسية" الذي يقع في ما يقارب الأربعمئة صفحة، فقد استهله أمين ألبرت الريحاني بمقدمة بلغت نحواً من مئة وخمسين صفحة كرر فيها أسباب هجرة الريحاني، ودوافعه الثقافية للكتابة بالانكليزية ومنها مخاطبة الغرب بلغة الغرب ولو ان الموضوعات كان بعضها شرقياً والبعض الآخر عربياً خالصاً، لانه من أصل احد عشر كتاباً انكليزياً منشوراً للريحاني، تدور ستة كتب حول موضوعات عربية خالصة، وخمسة كتب حول موضوعات مشتركة بين الشرق والغرب. وقد شاء الأمين ان يكون كتابه الانكليزي الأول جسراً من قديم التراث العربي الى حديث الآداب الانكليزية، لذا أصدر رباعيات المعري بحلة انكليزية أثارت اهتمام الصحافة الاميركية، حتى ان البعض رأى في رباعياته صنواً لفيتزجرالد في ترجمته الانكليزية لعمر الخيام التي تلامس الأصل في شفافية الافكار الشعرية. ثم كان كتاب "خالد" الذي جاء ينير عنصراً آخر في أدب الريحاني الانكليزي وهو تبادل المعايير الحضارية في عملية التقويم بحيث يقاس الغرب بمقياس شرقي مستغرب، ويقاس الشرق بمقياس غربي الجذور. هذا، ويرى أمين البرت الريحاني ان مخطوطات الريحاني الانكليزية لا تنفصل عن سائر أعمال الريحاني المنشورة لأنها تعالج مسائل أدبية وسياسية وفكرية تندرج في الاطار العام نفسه الذي عرف به نتاج الأمين، ومنها في الشأن الفلسفي خمس عشرة مسألة كالمعيار الزمني للأشياء وخلود النفس ودور الفيلسوف وكيمياء الأخلاق ونشدان السعادة ومبدأ النشوء والارتقاء والحلولية والصراع بين المادة والروح واللاادارية. ومنها في الشأن الاجتماعي مسألة الزواج والتساهل الديني والحرية والعدالة ومظاهر التمدن والغنى والفقر. أما في الشأن الديني فان الريحاني يقيم المواجهة بين العلم والدين وينادي بفصل الدين عن الدنيا وهي قضايا عبّر عنها في "المحالفة الثلاثية" قبل ان ينتقل لمحاربة الاكليروس في كتابه "المكاري والكاهن". أما في القضايا السياسية فقد نادى بالاصلاح ومن خلاله ظهرت نزعته الاشتراكية، وكان نقده للسياسة البريطانية وإشادته بالثورة الفرنسية وموقف روبسبيير والدعوة الى الديموقراطية والعلمنة والوقوف في وجه السياسة الاميركية والمجتمع الاميركي. ومن التمهيد للمخطوطات ينتقل أمين ألبرت الريحاني الى مضامين المخطوطات فيقول "ان اختيار تسلسل معين في الكشف عن مضامين مخطوطات الريحاني الانكليزية قد أدى الى مواجهة مصاعب تقنية جمة. لذلك آثرت توزيع المخطوطات وفق فنونها من دراسات أدبية، وقصة ومسرح ونقد فني ورحلات ومقالات وقصائد ورسائل". وكان من المخطوطات الانكليزية التي نشرت بالعربية ثلاث هي: "زنبقة الغور" التي نشرت بالعربية عام 1915 وقصة "خارج الحريم" التي ترجمها عبدالمسيح حداد بعنوان "جهان" وصدرت عام 1917 واخيراً "العراق زمن الملك فيصل الأول" وهو إعادة لكتابي الريحاني الأول "قلب العراق" والثاني "فيصل الأول" الصادرين عامي 1934 و1935. ومن المخطوطات التي لم تترجم نطل على "ألف ليلة وليلة" وهي مخطوطة تقع في 94 صفحة من الحجم الكبير، وربما صدرت في العام 1929 وهدفها اثبات عبقرية شعب ساهم في الآداب الكلاسيكية العالمية، مما جعل الف ليلة وليلة تتوغل في الغرب وفي "ليالي" أوروبا وأميركا عن طريق الترجمة ولو ان أصولها التبست على كثير من الباحثين بحيث ردّت دنكن ماكدونالد أصول علي بابا الى جذور تركية سلافية ألمانية كما ردّ رينيه باسيه مغامرات السندباد الى أصول اغريقية، سريانية، عبرانية. أما الريحاني فقد كان يرى ان من أبرز المستشرقين المتخصصين في ألف ليلة وليلة سلفستر دو ساسي الذي يؤكد الأصول العربية للكتاب وفون هامر برغشتال الذي يؤكد أصوله الفارسية مستنداً الى المسعودي في مروج الذهب. وإذ يتوقف الريحاني عند عمل الراوي الذي يعود اليه فضل انتشار "الليالي" في أوروبا يرى ان ابن سعيد الغرناطي نقل معه قصص الليالي من القاهرة الى الأندلس فترجمت اولاً الى الاسبانية ومنها لاحقاً الى الفرنسية. ويشير الريحاني ايضاً الى انتشار قصص من الف ليلة وليلة في جنوبايطاليا وفي صقلية قبل الاهتمام بترجمتها الى لغات أوروبية حية، وقد كان من أفضل مترجميها ريتشارد برتون الذي اختبر مناخات الف ليلة وليلة طوال عشرين عاماً بتجواله في البلاد العربية وبتعرفه عن قرب الى عادات العرب وتقاليدهم بحيث أعدّ العدة الوافية لأفضل ترجمة علمية موضوعية بالانكليزية. ويتضح من خلال هذه المخطوطة ان الريحاني هدف الى اثبات الهوية العربية لكتاب الف ليلة وليلة والتوكيد على دور العرب في الآداب العالمية واسهامهم في الحضارة الانسانية. ومن الف ليلة وليلة ننتقل الى دور العرب في الحضارة وهي مخطوطة تقع في 38 صفحة وتؤكد على منجزاتهم الفلسفية والعلمية من القرن العاشر حتى القرن الثالث عشر. وتلي هذه مخطوطة في شعر العرب تقع في 29 صفحة مزج فيها الريحاني بين الرأي النقدي والسرد والمقابلة بحيث جاء بحثه تعريفاً أولياً بالمادة المطروحة وبعض محطاتها. أما المخطوطات السياسية فهي ثلاث: الأولى حول الشرق الاوسط خلال الحرب العالمية الاولى وبعدها وهي بعنوان "تركيا والاسلام في الحرب" والثانية بعنوان "رسائل الى العم سام" والثالثة حول الوعي القومي في البلاد العربية بعنوان "الحركة القومية العربية". وتقع المخطوطة الأولى في 140 صفحة بدأها الريحاني عام 1915 وانتهى منها أواخر العام 1917 ونلاحظ ان المؤلف لم يتبنّى اسم الامبراطورية العثمانية لاعتقاده ان هذه الامبراطورية قائمة على العنصرية التركية لذا يدعو الشعب الاميركي ان يساعد في تقويم الحركة العربية الساعية الى تأسيس "الامبراطورية العربية" وتوجيه قواها المعنوية والسياسية ضد تركيا وضد اية تسوية معها. أما رسائل العم سام فتقع في 54 صفحة ويبدو فيها الريحاني على شيء من الحماسة في طرح مواقفه السياسية الداعية الى تأييد الحلفاء ومحاربة تركيا والمحور. ويبرر اندفاعه امران: الأول العمل على تحرير سورية من ربقة الدولة العثمانية والثاني تأييد مبادىء ولسون في دعوة الشعوب الصغيرة لتقرير مصيرها. أما عن الحركة العربية القومية فتقع هذه المخطوطة في 57 صفحة كانت فيها غاية الريحاني الخروج من عثرات التشرذم العربي الى القوة والتوحيد، خاصة بعد قيام مشكلة فلسطين واسهام بعض العرب ببيع أراضيهم مما أدى الى تعميق مشكلة الوحدة وتعقيدها. ومن مخطوطات السياسة ننتقل الى مخطوطات أدب الرحلة وهي ثلاث: واحدة حول الحضارة المكسيكية القديمة وهي بعنوان "في بلاد الماياس"، وثانية حول الأوضاع السياسية والاجتماعية في العراق بعد الحرب العالمية الاولى وهي بعنوان "العراق زمن فيصل الاول" والثالثة تشكل امتداداً للثانية وتتناول الاوضاع السياسية للمنطقة الكردية من العراق وهي بعنوان "كردستان". و"في بلاد الماياس" يقول الريحاني ان حضارة الماياس اغنى من حضارة الأزتك، لذا فهي تشكل الرمز الأبرز للحضارة المكسيكية. وفي هذه المخطوطة التي تقع في 53 صفحة يقارن الكاتب بين اهرامات الشرق واهرامات الغرب فيرى في الأولى تحدّ للعقل ويرى في الثانية مدعاة للخيال. وقد يقرر قارىء هذه المخطوطة انها أقرب ما تكون اليوم الى علم الأنتروبولوجيا ويرى ان الخطوط الفنية للرحلة الريحانية منذ عهده الأول بهذا الفن تتشابه مع عهده الاخير به في "قلب لبنان". وإذ نعود الى مخطوطة "العراق زمن الملك فصول الأول" التي تقع في 430 صفحة نرى انها تتوزّع في الموضوعات الآتية: بغداد، الملك فيصل والانكليز، الظلمة والفجر، بلاد الشيعة واخيراً النهر والصحراء. وهي مخطوطة كتبها الريحاني بنصها الانكليزي قبل ان يعيد كتابتها بالعربية. ويبدو ان معظم فضول الأقسام الثلاثة الأولى واردة إما في "ملوك العرب" الجزء الثاني أو في "قلب العراق" أو في "فيصل الأول". أما القسمان الأخيران فلم ترد فصولهما في كتاباته العربية. وتقع مخطوطة كردستان في 160 صفحة وهي تتوزّع على احد عشر فصلاً، كما أنها صورة حية عن أدب الريحاني وخصائصه، إذ يصادف فيها الدارس اقتران السياسة بالأدب، والأدب بالاجتماع، والاجتماع بالتاريخ، والتاريخ بالرحلة وكأن المؤلف يستجمع معظم خصائصه الأدبية في عمل تأليفي واحد. وإذ يتساءل الدارس عن سبب اهتمام الريحاني بالأكراد وبالكتابة عنهم يعرف ان المؤلف لم يتصد لمشكلة الأكراد كمعضلة قائمة بذاتها بل عالجها من حيث هي نموذج لنوع من المشكلات المتماثلة في الشرق الأوسط ألا وهي مسألة الأقليات. والريحاني يتخذ من هذه المسألة حجة لموقفه السياسي الداعي الى كف يد الدول الغربية عن الأقليات الشرق أوسطية ومنع استغلالها. ومن مجهول كتابات الريحاني الانكليزية "وجده" وهي مسرحية شعرية مأساوية في اربعة فصول وتسعين صفحة كتبت ما بين العامين 1908-1909. ويلاحظ قارىء هذه المسرحية ان الكاتب اختار المسرح المأسوي الذي تنتهي عقدته الى الفاجعة كما اختار المسرح الشكسبيري الملقح بالمسرح الاغريقي من حيث طبيعة الصراع الذي يتخذ شكل مواجهة البطل لقدره ومصيره. اما من حيث الموضوع فالغرابة تكمن في ان المؤلف لقح هذه المناخات الشكسبيرية الاغريقية بمادة اسلامية عربية. إذ ان "وجده" هي أميرة يمنية شاركت في معارك عدة بعد اعتناقها الاسلام على يد الإمام علي، فبدت وكأنها الليدي مكبث الاسلامية، وبدا الإمام علي الى حد ما، هاملت العربي. ثم تأتي مخطوطات النقد الفني وتقع في 237 صفحة يتراوح تاريخ كتابتها بين 1918 و1921 وتتناول الحركات الفنية ما بعد الانطباعية ومنها التنقيطية والتكعيبية والتقسيمية والحميمية والفوقية والمستقبلية. ويتناول الريحاني فنانين انطباعيين امثال مانيه ودوغا وغوغان وبيسارو. وقد تكشف لنا هذه المخطوطات في الفنون التشكيلية وجهاً يكاد يكون جديداً للريحاني، ففي العربية لم يترك سوى مقالتين في النقد الفني الأولى بعنوان "الوطنية والفن" والثانية بعنوان "في المعرض"، أما في المخطوطات الانكليزية فيبدو ان الريحاني قد توغل في عمق الفن الغربي أوروبياً واميركياً، فأظهر سعة اطلاع على الاتجاهات الفنية وخصائص الفنانين في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين مما ينبي عن طول باع في الشأن الفني من جهة وفي الحضارة الغربية من جهة ثانية، حتى ولو ان النقد الفني عند الريحاني كان يميل الى الانطباعية في كثير من الأحيان. أما مقالات الريحاني والتي تقع في 341 صفحة فتتوزّع موضوعاتها في الحقوق والمرأة والتربية والشعر والشعراء والمسرح والصحراء والشرق والغرب. وقد تكون الثنائيات الحضارية واللغوية عند الريحاني سبباً من أسباب صراعه الفكري والنفسي والحضاري. ومما أدى اليه هذا الصراع طرح معاني الانتماء والالتزام والحرية ومثيلاتها من القيم والقضايا التي عانى منها الأمين طوال حياته الأدبية والسياسية والفلسفية. ثم يأتي الشعر المنظوم منه والمنثور ويقع في 254 صفحة ويتألف من قصائد نشرت بعد مجموعتي الريحاني الانكليزيتين السابقتين الأولى بعنوان "المر واللبان" الصادرة في نيويورك سنة 1905 والثانية بعنوان "أنشودة الصوفيين" الصادرة في المدينة نفسها سنة 1912. وقد كان الشعر ملاذاً يلجأ اليه الريحاني في ساعات استراحة المحارب من عناء التأليف الأدبي والسياسي. ويلحق بالشعر رسائل الريحاني التي تقع في 1200 صفحة وتنقسم في رسائل أدبية وسياسية واخرى شخصية وثالثة عاطفية. وتشكل هذه الرسائل وثيقة مهمة في سيرة الرجل وفي طبيعة نتاجه وفي علاقاته مع الآخرين. ومن اللافت ان الريحاني كان يوجه بعض رسائله الى رؤساء وحكام الولاياتالمتحدة والمكسيك واسبانيا وايطاليا، يناقش فيها لعبة الأمم، ويدلي باقتراحات للتوازن الدولي، ويشارك الرأي في المشكلات الاقليمية والدولية ويعرض وساطته بين العرب والانكليز في فلسطين وبين العرب والاسبان في المغرب. واخيراً يأتي السؤال المنهجي الذي يطرحه أمين البرت الريحاني حول هذه "الينابيع المنسية" وحول ادراجها في باب الأدب العربي المكتوب باللغة الانكليزية أم في باب الأدب الانكليزي ذي المضمون العربي أم في اعتبارها نوعاً ثالثاً يسميه بعض الدارسين الأدب العربي الاميركي نسبة لنشوء صاحبه في البيئة الاميركية وتثقفه بثقافتها؟! ان هذه الاسئلة تشكل مدخلاً الى دراسة مستقلة تتناول معنى الهوية الأدبية ومعنى الانتماء ومعنى تداخل الحضارات والثقافات واللغات في سؤالها: "الى أي مدى يستطيع الباحث ان يرتبط باللغة كإطار عام وليس كأداة للتعبير يختلف من كاتب الى كاتب ومن نص الى نص؟".