كانت تظاهرة ثقافية رائعة تلك التي شهدها أخيراً معهد الدراسات والبحوث الأوروبية التابع لجامعة سالفورد البريطانية، باستضافته لمؤتمر أكاديمي مكرس بشكل رئيسي لموضوع الترجمة واللغة العربية. خلال أيام المؤتمر الثلاثة، قدم ما يقرب من ثلاثين محاضرة، تتراوح مواضيعها بين رصد لظواهر معقدة تتعلق بالتواصل الثقافي بين العالم العربي والغرب الى تناول اشكالات عينية في ميدان تأويل النصوص الأدبية، الى ورش ترجمة صغيرة تناقش فيها آليات نقل النص الأدبي من العربية الى الانكليزية، والتحولات التي تطرأ عليه حينما يتم انتقاله الى لغة أخرى، ما الذي يكسبه وما الذي يخسره. أثار الموضوع الذي تناوله باسل حاتم، أستاذ كرسي اللسانيات والترجمة في جامعة هريوت واط، اهتمام الحاضرين الكبير واثار نقاشاً ثرياً، اذ تميز أسلوبه الشيق بالتعامل مع مفاهيم الحضارة التجريدية بطريقة حسية عبر مجازات منقولة من الحياة اليومية. تناول البحث مفهوم الثقافة والحضارة من وجهة نظر التواصل الانساني بشكل عام وفي اطار الترجمة العربية والانكليزية بشكل خاص، أولاً على أساس ما يمكن اعتباره سطح الحضارة المتمثل بعناصر كالمؤسسات الاجتماعية والبنية الثقافية والبيئة والعادات والتقاليد، ثم الانتقال الى بعد حاسم يتقرر وفقه جانب آخر للحضارة. ويطلق حاتم على هذا العنصر اسم البعد السوسيو - نصي socio-textual. ووفق هذا البعد يمكن النظر الى ثقافة الأمة وحضارتها من خلال أنماط نصوص texts دأبت على انتاجها، وأجناس كلام اعتادت على استخدامها وأنظمة خطاب discourse تشكل في مجموعها ضمير الأمة الناطق ومستودع قيمها ومعتقداتها. يقول المحاضر ان "عدم التمييز بين الحضاري والسوسيو - نصي كان وما يزال وراء عدم قدرتنا على اقناع الآخر بما للحضارة العربية الاسلامية من مقومات تفوق ما قد يريد الآخر أن يراه ولا يرى غيره من أمور هي أبعد ما تكون عن جوهر ثقافتنا وصلب كياننا. من جهة أخرى وضع سوء الفهم هذا حاجزاً بيننا وبين ما هو جوهري بالنسبة الى حضارة الآخر". وعبر أمثلة ينتقيها حاتم من نصوص الخطاب السياسي المترجمة للانكليزية يتضح الخلل الأكبر المتمثل باسقاط المترجم للأرضية الحضارية الثقافية التي حددت طبيعة الخطاب، ما جعله يبدو نشازاً ضمن الخطاب السياسي الغربي. وفق هذه الرؤية أصبحت مفردة "الجهاد" حرباً مقدسة Holy war، في الوقت الذي تحولت مفردة "البنادق" والتي تعني لدينا الاصرار وعدم الخنوع الى ترجمة حرفية للكلمة: guns وتحريض على الارهاب، وفي ضوء ذلك تتحول مفردة "الفتوى" الى "الحكم بالاعدام". يقف المحاضر عند مثال آخر، مأخوذ من نشرة اخبارية لل BBC، وهو عبارة عن مقطع من خطاب ألقاه الخميني في شهر محرم، لكن المترجم الذي أقصى العنصر الثقافي المشدود بشكل بنيوي الى النص، والمتمثل بعاشوراء وطقوسها، أصبحت تعابير مثل "دماء الشهداء" تعني التطرف والتخريب. يعرف المحاضر تلك العناصر الثقافية الحضارية التي تقتحم الخطاب كجزء من مقومات هذه الحضارة أو تلك، لكن عند القيام بترجمة هذا النص الى لغة أخرى يجب على المترجمين القيام بتكييف هذه العناصر وفق المنظور الثقافي الحضاري لمجتمع اللغة المضيفة. ولإزالة هذا الإرث الكبير من سوء الفهم الغربي لنا، يدعو حاتم الى انشاء جامعة مفتوحة تسعى بشكل عام الى بناء خطاب عربي "يتناغم مع ماض مجيد وينسجم مع حاضر آماله عريضة، ومن هذا المنطلق سيكون التواصل الحضاري وأنظمة الخطاب مادة أساسية دسمة تقوم هذه الجامعة المفتوحة عن طريقها بتأهيل بل وحتى إعادة تأهيل ابناء هذه الأمة من تربويين وإعلاميين ورجال أعمال وديبلوماسيين". نجيب محفوظ والمترجم الغربي كرس ثلاثة محاضرين جهودهم للكيفية التي تم فيها تأويل بعض أعمال نجيب محفوظ الروائية في اللغات الانكليزية والفرنسية والاسبانية. تناول الدكتور أشرف عيسى أستاذ الأدب المقارن في جامعة سالفورد، الثلاثية بين القصرين، السكرية، قصر الشوق بتحليل مستند على أحدث النظريات في ميدان الأدب المقارن، ووقف عند الطبعة الصادرة العام 1990 عن دار دابلداي، والتي قام بترجمتها كل من وليم هتشنز واوليفر كيني وانجيل سمعان. وبمقارنات حية بين مقاطع من النص الأصلي والمترجم وصل المحاضر الى أن "الترجمة الانكليزية، على رغم كونها ناجحة يقبل عليها قراء الانكليزية بشغف كبير لشفافيتها وسلاستها، لكنها تخضع في معظمها الى الالتزام بالتكيف اللفظي وقسر السلاسة والتوافق مع الذوق السائد". وهذه العناصر أقصت النص عن ثقافته الأم وموروثه الأدبي الأصيل، وبما ان اللغة المضيفة للنص وثقافتها الانكليزية في هذه الحال لم تنظر الى اللغة العربية وآدابها الا في كونها ذات طابع خرافي وشاذ تمتد جذوره الى أساطير ألف ليلة وليلة وعفاريت الشعراء وشطحات المتصوفة، "فإن هذه الأفكار على رغم قدمها بقيت متأصلة في وجدان الثقافات المتحدثة باللغة الانكليزية وترسبت في عقليات مترجميها الى وقتنا هذا كما يؤكد فينوتي. ان نبرة الغرابة والشذوذ التي أضافها المترجمون بسخاء على النص الانكليزي للثلاثية تغطي على المستويات المركبة للنبرة الواقعية التي هي جوهر الخطاب الروائي لهذا العمل في لغته الأم". وتتناول ميريام كار، الأستاذة في جامعة سالفورد، من جانبها رواية "ملحمة الحرافيش" المترجمة الى الانكليزية والفرنسية. وباجراء مقارنة بين الترجمتين تتضح الفروق الكبيرة بينهما، اذ تميزت الطبعة الفرنسية باخلاصها أكثر للنص لكنها اثقلت الرواية بالهوامش ما جعلها عسيرة على التواصل خصوصاً بالنسبة الى من لم يعرف المجتمع العربي وتاريخ مصر الحديث. بالمقابل اتسمت الترجمة الانكليزية بالشفافية وبغياب الهوامش لكنها بالمقابل ابتعدت كثيراً عن النص، وأصبحت مقبولة أكثر لدى القارئ، بعد تكييفها مع الوسط اللغوي الجديد ومنحها قدراً من الغرابة والشذوذ يتماشى مع الصورة الوهمية القائمة في ذهن الأكثرية عن العرب. الشيء الغريب ان هذا النمط من الترجمة هو السائد أيضاً لروايات نجيب محفوظ في اسبانيا، وقد قام المستشرق اوفيديو كاربونيل بإيضاح هذا التحوير والتغيير اللذين اصابا معظم روايات نجيب محفوظ المترجمة الى الاسبانية. المترجم بين الاخلاص والخيانة السؤال الذي حضرني آنذاك هوك الى أي حد يستطيع المترجم أن يكون مخلصاً للنص الأدبي؟ لا يجد بيتر كلارك، الذي عاش في مجتمعات عربية عدة من خلال عمله في المجلس الثقافي البريطاني، أية غضاضة في القيام بتكييف النص الروائي كي يكون مقبولاً للقارئ الانكلو ساكسوني عبر تبني الأسلوب الروائي المألوف له، حتى لو أدى الى خلق قدر من "الغرابة" للجو الروائي. في ترجمته لروايتي الكاتبة السورية ألفت الادلبي المولودة العام 1912 "دمشق يا بسمة الحزن" التي صدرت بعنوان "صبرية"، و"حكاية الجد" قام بيتر كلارك بتغيير نمط السرد الروائي الذي يقترب من طابع الحكاية لجعله متوافقاً مع النمط الروائي الأوروبي اضافة الى حذف الكثير من التعابير التي تدخل في الكثير من الطقوس لكونها ستقصي القارئ الأجنبي. في محاضرة قريبة لورشة عمل قام توني كالدربانك، الأستاذ في الجامعة الأميركية في القاهرة، بتناول نماذج أدبية مصرية عدة، موضحاً أبعادها اللغوية والثقافية والسياسية، والشكل الذي ستظهر به بعد نقلها الى اللغة المضيفة. فالمرأة النوبية التي تتحدث بعربية مكسرة مع حفيدها مقرعة اياه، ستتبنى لهجة امرأة اسكتلندية تعيش في منطقة نائية عن المدن، وستتحول التعابير الى صياغات أخرى مناسبة للانكليزية، لكن هذا التغيير والتأويل لهما حدود والمترجم يظل بين طرفي عتلة من الصعب تحقيق التوازن فيها: الاخلاص للنص وخلفيته أو خيانته وجعله مقبولاً في محيطه اللغوي الجديد. تناول عبدالله الشناق أستاذ الترجمة في جامعة اليرموك الأردنية الخطاب السياسي العربي في الأممالمتحدة متتبعاً طابع التكرار والاطناب فيه، لكنه حاجج بأن هذين العنصرين لهما وظائف تركيبية ودلالاتية مهمة في النص، ويخلقان ما يمكن تسميته بتوازي المعاني. وهو اذ يتابع النص مترجماً الى الانكليزية، يكشف الفروقات بين اللغتين، وكم يصبح الخطاب السياسي العربي مغالياً باطنابه وغلوائه اذا لم يقم المترجم بتكييفه لمحيطه الجديد.