تعيد فرنسا، مرة أخرى، ابتكار الحدث حول حكايات «ألف ليلة وليلة» التي صدرت بترجمتها الفرنسية الجديدة عن دار «غاليمار» الباريسية ضمن سلسلة «لابلياد» العريقة، وتحمل توقيع كلّ من الباحث والشاعر الجزائري جمال الدين بن شيخ، المتخصّص في الأدب العربي في القرون الوسطى، والمستعرب الفرنسي أندريه ميكيل، الكاتب والمتخصّص في الحضارة العربية والاسلامية. في موازاة هذا الكتاب الذي ضمّ 327 ليلة من الليالي، وهو الجزء الأول من ثلاثة أجزاء تنشر تباعاً، أصدرت الدار أيضاً ألبوماً فخماً يحتوي على صور ومحفورات وصفحات من مخطوطات وأغلفة الترجمات الأولى ل«ألف ليلة وليلة»، وقد اختارتها وعلّقت عليها الباحثة في «المركز الوطني للبحوث العلمية» الفرنسية مارغاريت سيرنفال المعروفة بدراستها للحكايات عبر الترجمات الفرنسية والإنكليزية، وبتاريخ تزيين هذه الحكايات. حكايات «ألف ليلة وليلة» إذاً، في ترجمتها الجديدة، تشكل حدثاً ثقافياً بامتياز. إنها، بحسب تعبير جمال الدين بن شيخ، «ترجمة القرن الحادي والعشرين»، وهي لكذلك لأنها محطة في تاريخ ترجمة هذا الكتاب منذ الترجمة الأولى التي وضعها المستشرق الفرنسي أنطوان غالان في القرن الثامن عشر حتى اليوم، مروراً بترجمة ماردروس في القرن التاسع عشر ورينيه خوام في القرن العشرين. وما يمنح قوّة ومصداقية لهذه الترجمة عوامل عدة أبرزها أولاً المعرفة العلمية الموسوعية التي يتميّز بها كلّ من بن شيخ وميكيل وتعمّقهما بالحضارة العربية والإسلامية وآدابها، وهما، فضلاً عن ذلك، أديبان وشاعران مما أتاح لهما الجمع بين البحث العلمي القائم على منهج صارم ورؤية دقيقة من جهة، والحدس الشعري والأدبي من جهة أخرى. العامل الثاني هو أنّ الترجمة الجديدة هي محصّلة عقود من العمل على «ألف ليلة وليلة»، تراثاً وتاريخاً وأدباً ولغة. وقد جمع هذا العمل عدداً من البحاثة والأساتذة الجامعيين في جامعة «السوربون» و«الكوليج دو فرانس» وكان بين هؤلاء أيضاً المتخصص في فن القصّ كلود برومون الذي تمثّل كتبه مرجعيات أساسية حول الموضوع. وبين الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي فرضت هذه الجماعة نفسها على المستوى الأوروبي، وبات يُعرف العاملون فيها بِ «مدرسة باريس لألف ليلة وليلة»، على غرار المدرسة الألمانية والإنكليزية. العامل الثالث والأخير، هو أن فعل الترجمة نهل مباشرة من المخطوطات الأصلية المتواجدة في «المكتبة الوطنية الفرنسية» وفي عدد من الدول الأوروبية آخذاً في الاعتبار أيضاً إصدارَي كلكوتا وبولاق في مصر... صحيح أنّ الاهتمام بألف ليلة وليلة بدأ منذ القرن الثامن عشر في فرنسا لكنه بلغ أوجه بالفعل، بوصفه مادة للبحث العلمي، مع أعضاء «مدرسة باريس»، وقد صدر لجمال الدين بن شيخ وأندريه ميكل عدد من المؤلّفات حول «الليالي» سبقت الترجمة وواكبتها في كثير من الأحيان. في تصديره للكتاب، وهو الجزء الأول من الحكايات كما ذكرنا، ويقع في 1250 صفحة، وهو مهدى لذكرى أنطوان غالان، يتوقف أندريه ميكيل عند أسرار «الليالي» وخفاياها، ولادتها في الشرق وأفولها هناك، ثم اكتشافها في فرنسا مع غالان، كما يتوقف عند أسباب نجاحها في العالم الغربي من خلال الترجمات الكثيرة التي رأت النور من إنكلترا إلى ألمانيا فإسبانيا... ويركّز ميكيل على الراوي - وهو هنا شهرزاد - في بلوغه ذروة القصّ الشفهي، ويلاحظ أنّ كلّ شيء (مضمون النتاج، روحه وكنزه) يمّحي مع مرور الوقت وراء المبدأ الذي يحرّكه، ألا وهو تلك المخيّلة التي لا تنضب. وقبل أن يتكلّم على الليالي ومضامينها وحبكتها يمعن في رسم الإطار الذي احتضنها، أي «الحضارة العربية- الإسلامية التي أهدتنا إياها»، على حدّ قوله. يلي هذا التصدير تمهيد يحمل توقيع بن شيخ وميكيل معاً، وفي هذا التمهيد يتعرّض المترجِمان للمصاعب والتحديات التي واجهتهما أثناء الترجمة. ولقد اختزلاها بثلاثة تحديات أساسية. التحدي الأول يكمن في طبيعة الكتاب، أي في انتماء لغته وأسلوبه ومراوحته بين العامية والفصحى. فإذا كانت الحكايات بدأت في الأصل بصورة شفهية وتستوحي البيئة الشعبية للمدن التي انطلقت منها وبالأخصّ دمشق وبغداد والقاهرة، ثمّ انتقلت إلى المخطوطات بصورة أقرب إلى العامية، وتزاوج بين العامية والفصحى لا سيّما لجهة الشعر، فإنّ طبعات القرن التاسع عشر تدخّلت في صياغة المخطوطات وجعلت فقرات كثيرة منها أقرب إلى العربية الفصحى البسيطة، كما مارست عليها نوعاً من الرقابة فاجتزأت مقاطع منها باسم التقاليد والقيم. التحدي الثاني له طابع ألسني يتعلق باللغة العربية واستراتيجية السرد، كما يتعلق بالعبارات المكرورة وصيغة التقديم والتأخير وغياب لحظات الاتصال والانفصال أحياناً، وتداخُل القصيدة والنص المنثور الذي ينضح بالمحكية. أما التحدي الثالث والأخير فيتجسد في ترجمة القصائد ذاتها وهي المرة الأولى التي يُصار فيها إلى ترجمة الشعر بهذه الكثافة في الحكايات خاصة أنها تحتل حيزاً كبيراً وتبلغ قرابة 1250 قصيدة. من هنا كان على المترجمَين أن يأخذا في الاعتبار هذه المسائل ويستحدثا أسلوباً ولغة ومفردات تتلاءم مع المتن العام للحكايات ومخطوطاتها الأكمل. وهذا ما جعل من هذه الترجمة مشروعاً رائداً ولحظة مهمة في تاريخ ترجمة هذا الكتاب. في سياق التأريخ للحكايات أيضاً، لا بد من وقفة سريعة عند هذه الحادثة الرائعة التي حصلت في القاهرة عام 1896. ففي قاعة سفلية لصرح طقوسي قديم وفي أنقاض مدافن قديمة، تم العثور على محفوظات ووثائق لم يعبث بها الزمن ولا حروب البشر منذ مئات السنين. وعندما أخرِجت من مخابئها بيع الكثير منها وتبعثرت أجزاؤها في العالم أجمع. بين هذه الوثائق كان ثمة ورقة متآكلة وصلت إلى أميركا. وهناك أيضاً كان على هذه الورقة أن تنتظر أكثر من خمسين عاماً قبل أن تلمحها عين أحد العلماء الذي عمل على تفكيك حروفها. على بقايا تلك الورقة الوحيدة الناجية من مخطوط قديم خُطّ بشكل واضح التاريخ التالي: 879 . وهذا ما يلتقي مع الفرضية التي تقول إنّ ورود اسم «ألف ليلة وليلة» للمرة الأولى جاء مع المسعودي في القرن التاسع. أما المقطع الذي برز في هذه الصفحة فيأتي على ذكر شهرزاد واختها المتواطئة معها دينارزاد. ولا ذِكر فيه أبداً لشهريار الذي أراد أن يثأر من زوجته التي خانته بقتله جميع نساء الأرض. لكن لا شك في أن شهريار الغائب عن هذه الصفحة موجود في الصفحات الأخرى من هذا المخطوط الضائع، أو أنه يوجد، ربّما، على الصفحة ذاتها لكن أحرف اسمه تبدّدت مع الكلمات والأحرف التي تبدّدت. في موازاة هذه الترجمة يأتي الكتاب المصوّر الذي أتينا على ذكره مكمّلاً للحكايات وأجوائها، كاشفاً أثرها على المخيلة الغربية في جميع الحقول والميادين. فالحكايات التي وصلت إلى الغرب من الشرق كانت نصاً بلا صور، نصاً ينتمي إلى تقليد يحيل الصورة إلى خطوط هندسية لا متناهية وإلى إيقاعات الخطّ المتشعبة والدقيقة. لدى وصول الحكايات إلى الغرب في القرن الثامن عشر مع غالان أولاً ومع غيره من المترجمين في القرن التاسع عشر، دخلت في حضارة تشكل الصورة أحد مكوناتها الأساسية. هكذا كانت الحكايات مصدراً لآلاف الكتب المصوّرة التي تكشف، عبر الصورة، حساسية الغرب بالنسبة إلى نص يأتي من الشرق. ولقد ساهم في إنجاز هذه الصور فنانون تشكيليون وحفارون ومزينون. ولم يتوقف أثر «ألف ليلة وليلة» على الفنون التشكيلية بل ذهب أبعد من ذلك فطال المسرح والأوبرا والسينما وحتى الإعلانات مما أكد على عالمية هذا النتاج وبعده الكوني. الحكايات التي اعتمدت عليها شهرزاد لتطيل بها حياتها، هذا الإكسير من الفتوة الأبدية تحول مع الوقت إلى نافذة يأتي منها الضوء الفاتن، القادر على محاربة السأم والتخفيف من وطأة الزمن العابر. عام 1890، جاء على لسان كيبلينغ: «إذا سمعتَ نداء الشرق، فإنكَ لن تسمع شيئاً آخر غيره على الإطلاق». نداء الشرق هذا هو الذي يأتي من جانب الشروق لا من جانب الظلمة. ويأتي من جانب البدايات المفتوحة على كلّ شيء، المشرّعة على العالم. خورخي لويس بورخس سمع النداء، وقال إنّ كتاب «ألف ليلة وليلة» فسيح وشاسع إلى درجة لا يعود معها من حاجة إلى قراءته، ذلك أنه يؤلّف جزءاً لا يتجزأ من ذاكرتنا. معرض للفنان النمساوي غوستاف كليمت يقام حالياً في متحف «مايول» في باريس معرض للفنان النمساوي الراحل غوستاف كليمت الذي يعدّ من رواد الفن الحديث في أوروبا. ولد كليمت عام 1862 في ضاحية «بوم غارتن» القريبة من مدينة فيينا. ورث حب الفن عن أهله. كانت والدته مغنية أوبرا ووالده كان يعمل في صياغة المعادن، مما جعله يتعلق بالفنون الزخرفية منذ طفولته. عام 1876 درس في «معهد الفنون الزخرفية» في فيينا وأسّس عام 1880 محترفاً خاصاً به بالتعاون مع شقيقه إرنست وصديقه فرانز ماش. واستطاع كليمت، وبسبب موهبته ومهارته في التعاطي مع المواد الفنية المتنوعة، أن يفرض نفسه بسرعة في أوساط البورجوازية النمساوية، وقد عُهد إليه بإعداد رسوم الجدران في عدد من قصور فيينا. في تلك الفترة كانت فيينا تعيش تحولات ثقافية هامة، فهي من جهة كانت تحتضن مجتمعاً محافظاً يعيش تناقضات نهاية الإمبراطورية النمساوية المجرية، ومن ناحية ثانية كانت المدينة بمثابة ملجأ لعدد كبير من المبدعين المجددين في كافة المجالات ومنها الفكر والموسيقى والفنون. ولقد كان كليمت منفتحاً على التجارب الجديدة في مجال الفنون والفكر مما سمح له بإقامة صداقات مع عدد من الكتاب الطليعيين ومنهم الروائي والكاتب المسرحي أرثر شنيتزلير. كذلك كان كليمت شديد الإصغاء لما يحدث على الصعيد الفني في بقية الدول الأوروبية ومنها فرنسا التي شهدت ولادة تيار الانطباعية، وكان هذا التيار أول ثورة فعلية تمردت على القيم الكلاسيكية التي هيمنت على الفنون الأوروبية منذ عصر النهضة في إيطاليا في القرن الخامس عشر. يبيّن المعرض مدى متابعة كليمت للأحداث الثقافية والفنية التي شهدتها فيينا في عصره. عام 1895 قام بزيارة معرض كان مخصصا لفنانين من أمثال البلجيكي روبز الذي اشتهر بمخيلته الخصبة، والنحات الفرنسي رودين الذي يعد من رواد النحت الحديث وهناك متحف مخصص لأعماله في باريس. من الأمور الهامة التي يبرزها المعرض أيضاً الدور الذي لعبه كليمت في نهضة الفن النمساوي الحديث. فهو أسس عام 1897 صحيفة بعنوان «الربيع المقدس» وقد احتوت على العديد من رسومه المعروضة اليوم في المعرض. كذلك أنشأ كليمت مؤسسة بعنوان «اتحاد الفنانين التصويريين» وضمت تسعة عشر فناناً وكان من أهدافها العمل على إعطاء شهرة عالمية للفن النمساوي وردم الهوة التي تفصل بين ما درج النقاد على تسميته بالفنون الصغيرة والفنون الكبيرة. وكان المقصود بالفنون الصغيرة الفنون الزخرفية، أما الفنون الكبيرة فكانت تشمل النحت والفنون التشكيلية والهندسة المعمارية. وطوال مسيرته الفنية كانت المرأة مصدراً أساسياً استوحى منه الفنان أعماله المتنوعة. فالمرأة حاضرة في معظم لوحاته الزيتية وجدارياته ورسومه التخطيطية. وسواء رسم كليمت النساء المحيطات به في حياته اليومية أو النساء الطالعات من الأساطير فإنّ المرأة غالباً ما تحضر في أعماله كجزء من العناصر الزخرفية التي تهيمن على خلفية المشهد. إلى ذلك، كان كليمت متعلقاً بالموسيقى وعاشقاً لألحان بيتهوفن، وقد أنجز مجموعة من اللوحات المستوحاة من سمفونياته وبالتحديد سمفونيته التاسعة. تجدر الملاحظة أخيراً أنّ لوحات كليمت لاقت رواجاً عالمياً وبالأخص اللوحات التي تمثل العشّاق والتي يظهر فيها مدى تأثره بالفنون اليابانية. والمعرض المقام حالياً في باريس هو مناسبة لإعادة اكتشاف نتاج هذا الفنان المبدع الذي توفي عام 1918 بعد أن فرض نتاجه في فيينا وغيرها من العواصم الأوروبية ومنها باريس التي حازت فيها لوحاته عام 1900 على الميدالية الذهبية كأفضل عمل أجنبي. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ كليمت لم يرضخ للعقلية المحافظة المهيمنة على الأرستقراطية النمساوية والتي لطالما هاجمت أعماله. هذا لا يعني أنه كان ثورياً على طريقة الفنانين التجريديين بل هو، وبحسب الكثير من النقاد، تمكّن من ابتكار أسلوب مميّز تقاطع عنده الفنّ الكلاسيكي للقرن التاسع عشر وقيم الفنّ الحديث الذي نشأ وترعرع في الغرب عند مطلع القرن العشرين.