نظر ياسين الحافظ إلى الغرب المعاصر كلاً متكامل، «له سيرورة، له هيكل، له آلية، له ركائز. أما أن نستوعبها وأما أن تهرب منَّا كلها. التيار القومي التلفيقي لم يدرك هذه الحقيقة تارة، أو كان يهرب منها تارة أخرى». انتقد الأصالة والمعاصرة معاً: «جعلتا التيار التلفيقي هجينة، وجعلتا تحديثه سلفية خجولة. إن جانباً من هذا التيار غارق في أوروبا والجانب الثاني غارق في الماضي. وكما فسخ التيار الأول أوروبا إلى قسمين، حاول الثاني أن يلصق نتفه من أوروبا مع نتفة من الماضي في كيان واحد». ينتقد النظر إلى نتف يمكن أخذ كلاً منها على حدة دون نظرة أشمل. فنحن – برأيه - نركض منذ الجبرتي وراء التكنولوجيا، ولم ندرِ أن «التكنولوجيا الحديثة ليست سوى ثمرة من ثمرات التراث الغربي، هي الجانب التقني في بنيان واحد متكامل يتطور منذ خمسة قرون. لذا فإن استيعاب التكنولوجيا الحديثة إنما يقتضي أن نستوعب المقدمة والأرضية الثقافية لهذا التراث»، ويخلص إلى القول «يجب أن نستوعب الماضي لا أن يستوعبنا الماضي. يجب أن نستوعب الغرب لا أن يستوعبنا الغرب، فيطرح علينا مشاكل ليست مشاكلنا، إنه لطريق طويل، ولكن بعد هزيمة حزيران (يونيو) لا بد من السير في هذا الطريق». لم يقصر نظرته إلى الغرب على جانب سياسات حكوماتها تجاه القضايا العربية، ومع أخذ هذا الجانب بالاعتبار، فإنه ينظر إلى الغرب في بنيانه الاجتماعي – الثقافي في اجتماعه السياسي وسلوكه تجاه ذاته وطريقة تعامله مع الآخر، المواطن. فحاول أن يحيط بنظَرِه اللوحة الشاملة للغرب في جوانبها المختلفة، فميز فيها «بين غرب وغرب: غرب الفتوح الثقافية والعلمية والمجتمعية والاقتصادية التي صنعت العالم المعاصر، المكوَّن من لحظات ثلاث: عصر الأنوار والثورة الفرنسية، والمجتمع الصناعي، الحركة الاشتراكية، وغرب الاقتصاد الكولونيالي ثم الهيمنة الإمبريالية». بل يذهب إلى التنبيه إلى أن الكولونيالية الفرنسية جلبت معها إلى سورية بعض الجوانب الإيجابية / التحديثية، فيقول: «... مع الاستعمار، ولأول مرَّة في التجربة العربية الحديثة، أمكن للفرد العربي أن يعارض سلطة قائمة دون أن يُقتل أو يُحاصَر إلى أن يستسلم، من جهة، وأن يحظى بضرب من العطف السلبي الصامت من قبل المجتمع من جهة أخرى. ومن هنا يمكن القول إن التجربة الكولونيالية هي التي أطلقت، ومن دون أن تتعمَّد ذلك، عملية تسييس المجتمع العربي، الذي لم يكن يعرف التقليد السياسي من قبل». وفي السياق نفسه، يجهر بتجاوزه لثنائية الأصالة والمعاصر، التي تفضي إلى التمسك بخصوصية فارغة لا تاريخية، فكتب «بعد أن نبذت الأصالة، باعتبارها تعبيراً عن وعي سكوني لمجتمع تقليدي، وعن رؤيا دورانية لحركة التاريخ، أصبح تأكيدي على الخصوصية العربية نوعاً من التأكيد على العياني من جهة، ومن جهة أخرى على تصفية البنى المُفوَّتة، المُتآكلة، الوسطوية، ما قبل القومية (طائفية، عشائرية، محلية، إقليمية) التي تركِّد حركة المجتمع العربي». ويذكِّر قراءه بتجربة رحلته إلى أوروبا، حيث أن هذا التماس المباشر، أو المعايشة «أعطى صورة جديدة حية لمعرفتي (الكتبية) به»، فإن هذه المعيشة فرضت عليه مقارنة دائمة بين الوضع في الوطن العربي والوضع في الغرب، الأمر الذي كشف لة أكثر فأكثر «حالة التأخر والتفتت والضعف التي يرسف فيها شعبنا»، وفي معايشة أوروبا «تتحول كلمات، مثل إنسانوية، قومية، مواطنة، عقلانية، الخ، تصرفات يومية معاشة تصبح عالماً آخر، عالماً حياً آسراً... في باريس لمست عيانياً كيف أمكن للمرأة أن تستعيد إنسانيتها وتقف إلى جانب الرجل لاوراءه، وماذا يمكن أن يفعل كلٌّ من الشغل والأيديولوجيا الإنسانوية العقلانية في تطوير الكائن البشري، من (حرمة) إلى الإنسانية. في الغرب، كنت أُذهل عندما أرى قوة الفرد وجرأته وثقته بنفسه، أو تحرره الكلي من مختلف أشكال الخوف. فالغربي بلاده كفَّت عن أن تكون بلاد الخوف. في ديارنا العربية تتعاور الفرد أشكال لا تُحصى من الخوف: خوف من العائلة، من المعتقد الإيماني، من التقليد، من المجتمع، من المدرسة، من الغد، وأخيراً من السلطة الاستبدادية الشرقية»، ومن ثم يضيف: «أخذت أتلمس وأكتشف القيم والمناهج التي توجه وتنظِّم حياة هذا الشعب الحديث: القومية، المواطنة، سيادة الشعب أو الديمقراطية، الإنسانوية، الفردوية، قيم الشغل، سيادة القانون، السيطرة على الوقت، ربط الكلمة بالشيء أو الفكر بالواقع». وربط الحافظ متطلبات التغيير الراديكالي العربي بم سمَّاه: الوعي المطابق أي أن تمتلك سياسات النخب العربية «الوعي المناسب لحاجات الأمة العربية وتحررها ووحدتها. هذا الوعي المطابق ذو ثلاثة مستويات: في الأول، وعي كوني، في المستوى الثاني وعي حديث، وفي المستوى الثالث هو وعي تاريخي». فهو وعي يجب أن يكون كونياً، لأن «الوعي المحلَّوي – القوماوي لأمة مفوتة... هو وعي مفوت، لذا لم يعد كافياً ولا مطابقاً لحاجاتها المتمثلة في تحديث بنيانها ورفعها إلى مستوى العصر... إن قوى التغيير الراديكالي، في بلد مفوت أو متأخر، هي الارتسام أو التحقيق المسبق للمجتمع الحديث». والوعي المطابق وعي حديث عصري. والحداثة والتقليد نقيضان ولا يتصالحان، «ذلك أن الأولى تتمحور على المستقبل، في حين أن الثاني يتمحور حول الماضي، ناهيك عن أنَّ المناهج والقيم والمثل وأنماط السلوك الخاصة بكل منهما على تباعد أو تناقض لا مصلحة فيه». كما أن المستوى الثالث للوعي المطابق يتمثل بالوعي التاريخي، وذلك لأن «في المجتمعات التي لم تحرز تقدمات تاريخية كالمجتمعات العربية، يكاد الماضي والحاضر أن يتمازجا أو يتوحدا، ومن هنا الأهمية الحاسمة للوعي التاريخي في رؤية أو تشخيص الحاضر أو الواقع الراهن». * كاتب سوري