لخمسة قرون مضت، هي عمر الحداثة الأوروبية كتجربة تاريخية مركبة، ومتنامية، ومتحورة داخلياً، بل ومتجاوزة لنفسها، عجزت جل المجتمعات العربية عن طرح أسئلة حضارية ووجودية كبرى مواكبة أو موازية على تاريخها، ووضع إجابات وحلول تدفعها للتقدم من داخل هذا التاريخ نفسه، ومن ثم اختفت الدوافع الداخلية للتغيير. وإزاء عجزها، في الوقت ذاته، عن تبنى الأسئلة والإجابات التي تطرحها الرؤية الحديثة للوجود، خشية كسر الشعور العميق بالتناقض المبدئي مع الغرب الأوروبي، والذي كان سيُدرك باعتباره تماهياً مع الغازي أو ذوباناً فيه، لم يكن أمام هذه المجتمعات سوى «التوفيقية» كصيغة ثقافية تقيها الشعور بالاغتراب إزاء عالم لا تستطيع الانتصار عليه أو التقدم فيه، ولا تستطيع، من ناحية أخرى، الانسحاب منه أو قبول الانسحاق فيه. الصيغة التوفيقية هذه كانت من الاتساع لتستوعب تجارب عدة تبدو متناقضة ظاهرياً على منوال التجربة الناصرية في مصر، والبعثية في العراق وفي سورية، وغالبية الدول العربية التي كافحت ضد الاستعمار الغربي، وأخذت تشيد دولها الوطنية بعد رحيله، كما كان الأمر في الجزائر والسودان، وجل الدول التي اعتبرت نفسها دولاً تقدمية كليبيا وتونس واليمن. بل كانت هي الصيغة التي اعتمدتها بعض الدول التي وصفت بين خمسينات القرن العشرين وسبعيناته بالمحافظة أو الرجعية، خصوصاً المغرب والأردن، وبعض دول الخليج العربي، لأن وصف هذه الدول بالمحافظة أو الرجعية ربما انطبق على الموقف السياسي، ولا يمكن فهمه إلا في ضوء الصراع الدولي والتنافس بين المعسكرين الشرقي والغربي ضمن منظومة الحرب الباردة، ولكنه لا ينطبق على البنية الثقافية كاملة، أو المرجعية الفكرية لهذه التجارب الوطنية المختلفة سياسياً / ظاهرياً، والمتشابهة بنيوياً في نزوعها إلى تمثل الحداثة الغربية بمكونيها الأساسيين حيث النمط التحديثي العلمي الاشتراكي الشمولي من جهة، والتحديث العلمي الرأسمالي الديموقراطي من جهة أخرى، ولكن من داخل مرجعية قيمية ظلت إسلامية تصالحت حولها المجتمعات العربية ربما أكثر من الآن، ونصت عليها دساتير جل هذه الدول، ضمناً أو صراحة كما هو الشأن حتى الآن. غير أن الصيغة التوفيقية هذه انحرفت إلى «التلفيقية» عند الممارسة التاريخية طيلة القرن الماضي كنتيجة شبه منطقية للسياق الدفاعي الذي مورست فيه أمام ضغوط الغرب المستمرة، وضغوط الصهيونية الاستيطانية المستجدة على فلسطين والمشرق العربي منذ أربعينات القرن العشرين. ذلك أن التوفيقية الخلاقة كعملية تركيب جدلي تبدو بحاجة، ربما أكثر من الممارسة العادية التلقائية، إلى إرادة قادرة على ممارسة الاختيار بحسم وحزم، وإلى رؤية شفافة ناصعة لما تقوم بالاختيار من بين عناصره وإلى فضاء تاريخي مفتوح يسمح بوضع هذه الاختيارات موضع التجربة العملية كما يسمح بإعادة فحص هذه التجارب في الواقع المعيش قبل إعادة مراجعتها وتنقيحها نظرياً من جديد وعبر عملية تغذية استرجاعية في الأفق المفتوح بين الفكر والواقع، وكلها متطلبات ربما لم تتوافر للوعي العربي الحديث الذي بدأ هذه العملية «التوفيقية» في سياق أزمة وجودية وسياسية محيطة به، وممسكة بتلابيبه قادته إلى التلفيق الذي تكرس بفعل عوامل ثلاثة مهمة: الأول: معرفي فلسفي يتعلق بتغير جوهري في الأساس المنطقي لعمل التوفيقية من نزعة سكونية سادت الحقبة التاريخية قبل الحديثة ووسمت الرؤية الكلاسيكية للوجود، قامت أساساً على المنطق الأرسطى القائم بدوره على مبدأ عدم التناقض ووحدة الحقيقة في مستواها الأعلى، حيث كان الإيمان الفلسفي بقدرة واحدة متعالية ومهيمنة «المبدأ الأول» أو «العلة الأولى» أو «واجب الوجود» يتم تأويله بسهولة نسبية إلى «الله» أو «الأول» في الفكر العربي الإسلامي القائم على عقيدة التوحيد المطلق. أو على النموذج المعرفي الأفلاطوني الذي قام على وحدة الحقيقة وثباتها «كمثال» ملهم دائماً «للواقع» الذي قد تتغير صوره وتمثلاته نسبياً وإن تشكل في كل الأحوال على صورة المثال الذي يعكس وحدة الحقيقة باعتباره أصلاً لها. أو حتى التصور الأفلوطيني الذي جعل من المثال الأفلاطوني موجداً أول وعقلاً هيولانياً ملهماً لسائر الموجودات، فياضاً بالمعرفة على سائر العقول وحيث تباينت درجات الوجود ودرجات المعرفة وبنى أصلها المشترك إرادة علوية مهيمنة وعارفة لم تكن سوى الله في تأويلات الفكر العربي الإسلامي الوسيط. وذلك إلى نزعة شكية هيمنت على الروح (الحقبة الحديثة) وأسهمت تدريجاً في تهميش مركزية الله في الوجود، لمصلحة مركزية الإنسان، بدأت مع العصر الهيوماني ثم نمت مع فلسفة التنوير، وجعلت من الخبرة الإنسانية وحدها، ومن القيم الوضعية النسبية المتغيرة بذاتها مطلقاً جديداً تُقاس به وإليه صوابية اتجاه السير البشري، وتتحدد في ضوئه غايات الاجتماع الإنساني، استقلالاً عن المرجعية الإلهية إن لم يكن في ضديتها: إما لأن الله - جلّ شأنه - قد ذاب في العالم الطبيعي، ملتبساً بصورة قوانينه المادية، ليصبح هو العلة الباطنة للأشياء كلها، ولكن غير المتعدية أو المستقلة عن العالم الطبيعي وقوانينه كما ذهب اسبينوزا. وإما لأنه - تعالى - قد انكمش إلى مجرد علة أولى لوجود العالم أو محرك أول لحركته قبل أن يستقل عنه، ويفقد اهتمامه بمصيره، فلم يعد يرعى حركة الكواكب، ولا مسيرة الإنسان، ولا يشي بأي نظام أخلاقي متسام على الخبرة الواقعية، كما ذهب أصحاب الدين الطبيعي منذ قدم برونو فلسفته عن الله باعتباره هو «المبدأ والعلة»، أي من حيث إنه هو الطبيعة نفسها أو أنه يتجلى لنا في نطاق هذه الطبيعة وحدها، وفي الأعراض والمظاهر التي تحيط بميدان تجربتنا الواقعية فقط. وإما لأنه - تعالت قدرته - ضمّن عنايته الإلهية في قوانين الطبيعة نفسها التي يستنها، فلا يستطيع الناس أن يعرفوا أي أوامر خاصة «أخلاقية» للعناية الإلهية في ما وراء المبادئ الكلية للعقل البشري، أي أن العناية الإلهية عامة بالكون وليست خاصة بالأفراد أو المؤمنين كما ذهب فولتير. ثم تغذت تلك النزعة الشكية، بالمنطق الجدلي/ الديالكتيك الهيغيلى القائم أساساً - في ضدية المنطق الأرسطي - على مبدأ التناقض والصراع بين أطراف ثنائيات بحثاً عن المركب الجدلي الجديد المندمج الذي سريعاً ما يتحول في حركة الواقع إلى طرف في ثنائية جديدة يصارع طرفها الآخر، وهكذا... ولا شك في أن هذه الجدلية المتحركة، وما صاحبها في الفكر الغربي من نزعات شك وإلحاد بلغت ذروتها مع إعلان موت الله على مذبح الإنسان الأعلى «السوبرمان» في البيان النيتشوي للعدمية، قد مثلت عامل إرهاق للذهن، وإرباكاً للوعي العربي الحديث لأنها عمقت من إحساسه بالخوف تجاه المطلقات الكامنة في الاستنارة الغربية، وزادت من شعوره بالتناقض إزاءها، ومن ثم أضعفت إمكانية التوافق الجدلي معها، قياساً إلى تلك الإمكانية التي كانت متاحة للتوافق مع الفلسفة اليونانية، مثلاً، في العصر الإسلامي الوسيط. والثانى: سياسي/ عملي يتعلق بطبيعة السلطة العربية «التقليدية» حتى النخاع على رغم الشكل الحداثي الذي اتسمت به على مستوى الخطاب الإيديولوجي، وهي الطبيعة التي لم تخرج عليها أو تنجو منها معظم حركات التحرر الوطني التي كافحت ضد الاستعمار، واضطلعت بالدور الحاسم في عملية بناء الدولة «الحديثة». لقد كانت النتيجة دائماً مخيبة للآمال وأدت المقدمات إلى نتائج عكسية، وذلك لوجود فجوة حقيقية بين طبيعة السلطة العربية التقليدية وبين الأهداف التحديثية التي كانت ترجوها أو تدّعيها لمجتمعاتها، وهي الفجوة التي قادت دائماً إلى المراوغة بين الوسائل والأهداف وبين الأبنية ووظائفها العملية، وبين المؤسسات وأدوارها السياسية الحقيقية، إذ قادت المراوغة إلى التلفيق الذي صار ملكة طاغية في الثقافة العربية تكشف في أحد تجلياتها مثلاً عن مفارقة الموقف العربي من العلم الحديث، إذ تنامت الصداقة مع منتجاته التكنولوجية ولكن من دون منهجه الشكي، ومنطقه الوضعي، لأن استلهام هذين كان يتطلب نوعاً جديداً من التنظيم السياسي، ومستوى أعلى من التحرر الفردي لم يكن القائمون على عملية بناء هذه الدولة مستعدين للقبول به، وإن لم يمنعهم ذلك بالطبع من إقامة أبنية جامعية وأكاديمية وبحثية تحمل في مسماها أوصاف العلوم والتكنولوجيا، مثلما تحمل أبنية ترسيخ حكم الفرد شتى تعبيرات الديموقراطية والنيابية والتمثيلية. وساعد على تكريس هذه التلفيقية ملمح أساسي في التطور السياسي العربي، وهو أنه لم يصدر، غالباً، عن وعي ذاتي أو عن تجربة تتطور بثقة واستقلال في أفق تاريخي مفتوح، وإنما عن نزعة دفاعية في مواجهة خطر داهم استعماري/ استيطاني/ عسكري. وبغض النظر عن مدى جدية هذا الشعور بالخطر أو درجة صدقيته، فإنه كان مربكاً، ودافعاً للهاث خلف اللحظة التاريخية ومحاولة اللحاق بها وفقاً لرؤية الحاكم الفرد أو على الأكثر النخبة القائمة بعملية البناء/ التغيير، والتي كانت بلا شك، ودائماً، خائفة من قيم الحداثة السياسية، ومتوجسة إزاء متطلباتها، ومن ثم نزعت إلى تجاهلها، بحجة قوية كانت متاحة دائماً وهي ضغط اللحظة التاريخية، وضرورة التفرغ للعدو سواء كان هذا العدو حقيقياً أو متوهماً. أما الثالث: فهو دافع لغوي/ شكلي يتعلق بعدم دقة الصياغة العربية للموقف التوفيقي نفسه والتي تمثلت بالأساس في قالب «الأصالة والمعاصرة» أو ما يعادله أو يشبهه من مفاهيم/ قوالب سادت القرن العشرين، تأسست على قاعدة تناقض حدي بين الأبعاد الأساسية للزمن، وجعلت اختياراتنا الفكرية الشاملة أسيرة تناقض تاريخي مستمر بين الماضي والحاضر. ذلك أن مفهوم الأصالة تم تفسيره غالباً في الاتجاه السلبي الذي يحدده بالزمن، وينطلق به في اتجاه الماضي حيث لحظة التشكيل الأولى بكل قوالبها وأشكالها هي مستودع الأصالة الكاملة لدى الذات العربية، وخصوصاً لدى التيار السلفي الذي نظر إلى هذه اللحظة وكأنها «فوق تاريخية» ومن ثم قام بتثبيت هويته عندها رافضاً كل ما بعدها. في المقابل لم يتم الالتفات، سوى نادراً، إلى التفسير الإيجابي لمفهوم الأصالة والذي يربطه ب «الكينونة» لا الماضي، وينطلق به في اتجاه ثوابتها لا تاريخها، حيث معيار تحقق الأصالة هنا هو مدى استلهام العناصر الجوهرية لهذا التشكيل وليس الرجوع إلى القوالب والأشكال المصاحبة لبدايته. وهكذا تتحول الأصالة عن الارتباط بالماضي نحو الارتباط بالجوهر، فنصبح أمام «ذاتنا» التي تعكس «تكويننا» وليس «ماضينا». ولذا نقترح، في هذا السياق، أن نطلق عليها مسمى «خصوصيتنا» بديلاً ل «أصالتنا» في مواجهة الطرف الآخر للمعادلة الثقافية والذي نفضل تسميته «العالمية» بديلاً ل «المعاصرة»، وصفاً لتقاليد العالم الحديث. هذه الصياغة تعمل كآلية ذهنية ولغوية لتكسير التناقض بين مسار تكوننا وحركة سير التاريخ، لأنها في بحثها عن الذات إنما تفصل بين الشكل والمضمون، وبين الطقوس والقيم، وبين الثوابت والمتغيرات ثم تقوم بعزل القوالب: الأشكال والطقوس والمتغيرات لأنها تاريخية تعكس لحظة التشكيل. وفي المقابل تبقي على الجوهر: المضمون، والقيم، والثوابت لأنها تكوينية تصوغ خصوصيتنا ذاتها. والمهم في هذا السياق أن الصياغة السلبية هذه «الأصالة - المعاصرة» ومشتقاتها، أسهمت في تعميق حالة التلفيق لدى الفكر العربي لأنها عمقت شعوره بالاغتراب إزاء صورتين متمايزتين في الفكر، إذ جعلت من ماضي الذاتي طرفاً ثالثاً في معادلة الأنا والآخر، ومن ثم أصبحت الذات العربية الحديثة في مواجهة وجودين غريبين عنها، الأول منهما ينتمي إلى الزمان حيث «ماضي الذات»، والآخر ينتمى إلى المكان حيث الآخر الغربي، ولذا فهي غربة الزمان، وغربة المكان اللتين واجهتا الفكر العربي المعاصر وأضفتا صعوبة كبيرة على محاولة التوفيق التي لم تعد فقط بين حقيقتين إنسانيتين مختلفتين، أو وجودين حقيقيين متمايزين يدخلان في صراع ينجز المركب الأرقى، بل صارت بين وجود حقيقي واحد، وبين وجودين صوريين غريبين مكاناً وزماناً عن واقعنا «نحن العرب المعاصرين» الذي كان يزخر بمشكلات تحتاج إلى رؤى نظرية وطرائق للحل والانسجام لم يلبها أو يسعى إلى إنتاجها الفكر العربي المعاصر الممزق بين الصورتين الغريبتين عنه، فانتهى به الأمر إلى الخضوع للرؤيتين المتضاربتين، واقعاًَ، من ثم، في أسر التلفيق على نحو شبه كامل تقريباً. * كاتب مصري.