بادئ ذي بدء ينبغي القول ، إن الحلول التي قدمتها لنا العقلية الغربية في مختلف شؤون حياتنا . لم تؤد إلا إلى المزيد من التخلف والانسحاق أمام الغول الحضاري الحديث .. فالفشل الذريع هو حال الحلول الغربية لواقعنا العربي .. فلم تستطع أوروبا أن تعطينا في الحقيقة سوى منهج واضح لتفتيت مكوناتنا الاجتماعية وتمزيق أوصالنا .. جاء ذلك على مستوى بدائلها الرأسمالية والاشتراكية على حد سواء . والمسألة هنا ليست راجعة إلى طريقة فهمنا للاختيارات الأوروبية وعجزنا الذاتي عن ملاءمة واقعنا بها ، ولكنها ترجع إلى أن الاختيارات الأوروبية نفسها قد جاءت صادرة عن فلسفة الصراع أصلا وممنهجة له تاريخيا واجتماعيا واقتصاديا .. فالدواء الغربي لواقعنا ما هو في حقيقته إلا مجموعة أساليب وتكتيكات لتبريد طاقة الأمة العربية والإسلامية ، وبعثرة جهودها في أمور لا تؤدي إلى الانعتاق من الآخر الحضاري ، بل تكرس التبعية وتداعياتها المختلفة .. والسبب في ذلك أن النخب والجهات التي بدأت بتسويق المشروع الغربي في العالم العربي والإسلامي ، كانت تعيش الاغتراب على مستوى الأيدلوجية والمنهج ، ولا يمكن لمن نما بعيدا عن ثقافة الذات ، ومحاربا لقيمه العقدية وأصالته الحضارية ، أن يكون له التأثير الحيوي على جسم الأمة .. إذ لا يعقل أن توكل الأمة أمورها المصيرية والحضارية إلى نخب وكتل بشرية لم تهتد بعد إلى هويتها وحقيقة وجودها .. لأن غياب الهوية يعني فيما يعني الضياع والفراغ وأن يكون هؤلاء ساحة مفتوحة لكل التجارب على حد تعبير (لاوسيبوف ) في كتابه قضايا على الاجتماع .. وإننا كعرب ومسلمين لا يمكننا أن نستفيد استفادة حقيقية من مكتسبات الحضارة الحديثة ، من موقع الدونية والتبعية ومركب النقص .. إن المدخل الوحيد للاستفادة من مكتسبات الآخرين الحضارية ، هو مدخل التفاعل والتعاطي الإيجابي المنطلق من ذات تعتز بذاتها وحضارتها ، وتسعى نحو الإضافة الفعلية لواقعها الحضاري بما يخدم طموحاتها الحضارية ..وينبغي التأكيد على أن الخطيئة الحضارية الكبرى ، التي وقع فيها الغرب ، أنه قام بعملية الربط والالتقاء بين تقدمه وتطوره التقني والمادي ، وتقدمه في مجال القيم والأخلاق والسلوك . لذلك فهو يصدر تكنولوجيته مع قيمه ، وتطوره التقني مع أخلاقه ونمط معيشته ..واعتبر أن الالتحاق بركبه الحضاري ، لا يتم إلا عن طريق الغربنة في السلوك والأخلاق أولا . وفي الاقتصاد والسياسة ثانيا .. بينما موقف التفاعل يحافظ على الذات ، ويهضم معطيات الآخر الحضاري .. كما أن الوعي السطحي بالغرب ، يجعل الفكر العربي والإسلامي ، يعيش دوما مرحلة الانفعال والدهشة بإنجازات الغرب وتقنيته المتقدمة ..كما أنه يمنع عناصر الإبداع والتجدد في فكرنا الذاتي بفعل حالة الأسر والانبهار الفكري والنفسي .. ولهذا يمكن القول : إن أغلب الحركات التي تدعو إلى الارتماء في أحضان الغرب ، والاقتباس منه كل شيء ، هي حركات تدفعنا إلى السير باتجاه أفقي ينتقل بنا من حالة انحطاط إلى أخرى وتخدعنا ببعض الألوان والمظاهر .. كما أن نظرية القطيعة وغلق الأبواب والنوافذ تجاه الغرب ، نظرية طوباوية ولا نصيب لها من الواقعية ..لأن الغرب ليس استعمارا وسيطرة ونفوذا وحسب.وإنما إضافة إلى ذلك هو تكنولوجيا وتقنية متقدمة وثورة معلوماتية واتصالية لذلك لا يمكن لنا أن نستغني عن الحضارة الحديثة،وحتى الذي ينادي بنظرية القطيعة هو يقتبس من الحضارة الحديثة الكثير الكثير دون الإفصاح عن ذلك .. لذلك فإن خيارنا الاستراتيجي والمستقبلي تجاه الحضارة الحديثة هو التفاعل .. ونقصد بالتفاعل الأمور التالية : 1- الالتزام بالأصالة العقدية والتأكيد على دور الجذور في عملية التحديث : إذ ثمة حقيقة أساسية في عملية النهوض الحضاري بشكل عام .وهي أن أمة من الأمم لم تنهض ، ولم تحقق قفزة حضارية مطلوبة بدون الاعتزاز بالذات الحضارية ، والعمل على تجسيد قيمتها ومبادئها في مسيرة المجتمع الحاضرة . وكأن شرط النهوض الرجوع إلى الذات ، وأية عملية نهضوية لا تستمد من أصالتها الحضارية خريطة عملها ومبادئ مسيرتها هي أقرب إلى الابتذال منها إلى الأصالة . إذ أن الأصالة تشكل قاعدة التكوين التي لا غنى عنها في عملية الوثوب الحضاري . وهذا يؤدي بنا إلى الاعتقاد الجازم ، أنه لا نهضة حقيقية ولا تطور وتقدم اجتماعي وحضاري بلا أصالة . فالأصالة شرط النهضة ومنطلق التقدم والتطور ولنا في التجربة اليابانية خير مثال . 2- الانفتاح والتعاطي الموضوعي مع العصر ومتطلباته : لأن الانغلاق والانطواء عن منجزات الحضارة الحديثة هو بالدرجة الأولى إفقار للوجود الذاتي .. بحيث تضحى هذه الأمة المنطوية والمنغلقة وكأنها تعيش في القرون السالفة بعيدة كل البعد عن إنجازات الإنسان المعاصر ، وآثار العلم وحسناته . وإننا كعرب ومسلمين من الطبيعي أن نرفض بعض أجزاء وأسس وتجليات الحضارة الحديثة . لأننا في بعض حقب تاريخنا الطويل ضحايا لهذه الأسس والتجليات .. فإننا نرفض مبدأ الاستعمار بكل تبريراته ونظرياته ، كما أننا نرفض تغليب القيم المادية الجوفاء ، على قيم الإنسان والعدالة والحرية والمساواة . وإننا وعبر تاريخنا المجيد كان لدينا مشاريع مقاومة لهذه الأسس والتجليات المنحرفة . فتشكلت في كل بقاع العالم العربي والإسلامي حركات وتيارات واجهت المستعمر وطردته من ديارنا ، ومشاريع للتحرر من ربقة السيطرة والهيمنة المادية والثقافية التي تفرضها علينا قوى الحضارة المادية الحديثة .. وإن المشروع العربي والإسلامي الحضاري ، ليس مشروعا مغلقا ومقفلا ولا يقبل التعايش والتنوع .. وإنما هو مشروع مفتوح على كل الإمكانات والطاقات الإنسانية والمنجزات التقنية والعلمية .. مشروع يؤمن بالتفاعل والانفتاح مع الآخر كثابتة من ثوابت منهجه وكركيزة من ركائز مسيرته . إنه مشروع يجمع ولا يفرق ، يوحد ولا يشتت ، يحترم الطاقات والكفاءات ولا ينفيها أو يتجاهلها . مشروع مسكون بالامتداد والانتشار ودعوة الناس جميعا إلى الخير والهداية .. إنه مشروع يؤمن بضرورة التطوير والتجديد والإبداع ، ولا يعتبر نفسه اقنوما جامدا لا حياة فيه ولا تطور ، إلا أنه يرى أن شرط التطوير والتجديد والإبداع ، الانطلاق من الأصالة والهوية لا تجاوزهما .. ويقول الفيلسوف الكندي : ( وينبغي أن لا نستحي من استحسان الحق واقتناء الحق من أين أتى ، وإن أتى من الأخبار القاصية عنا ، والأمم المباينة لنا ، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق ، بل كل يشرفه الحق ) . 3- تأسيس خطاب حضاري منبثق من قيمنا وأصالتنا ، ينسجم والتعاطي مع الآخر الحضاري . والجدير بالذكر هنا أننا حينما ننادي بالتفاعل كنظرية وموقف للتعاطي مع الحضارة الحديثة فإننا نقصد بذلك التفاعل مع نتائج ومكاسب الحضارة ، لا مع أسسها ومبانيها الفكرية والفلسفية . إن الحضارة الحديثة ليست شرا مطلقا ينبغي الابتعاد والانزواء عنها ، وإنما هي تحمل الوجهين .. والتفاعل يختص بالجانب الإنساني من هذه الحضارة .. لهذا فينبغي أن يسبق التفاعل معرفة بالآخر الحضاري ، حتى يؤتي التفاعل ثماره بما يخدم الإنسانية جمعاء .. وإن وتيرة التفاعل تتصاعد باستمرار بشكل حسن وإيجابي ، حينما تكون هناك معرفة دقيقة بالآخر الحضاري ، كما أن معرفة الآخر تزيد مجالات التفاعل وخياراته .. وإننا ندعو إلى خطاب يؤسس منهجا للمثاقفة والتفاعل بين الأطراف الحضارية في المجتمع البشري كله ، من دون إحساس أحد الأطراف بالوهن والتبعية والذيلية ..وإنما يكون حوارا علميا – ثقافيا – حضاريا ، بعيدا عن ضغوطات السياسة ومصالح السياسيين. وختاما نقول : إن عمليات الإبداع والتطور في كل المجتمعات الإنسانية ، كانت وليدة ظروف التفاعل وتداعياته . ولم يسجل لنا التاريخ تطورا أو إبداعا في غير هذه الظروف .. فلا إبداع معرفيا واجتماعيا وثقافيا في إطار التقليد والجمود . كما أنه لا تقدم وامتلاك ناصية العلم والتقنية . في إطار الانسلاخ والاستلاب والقطيعة التامة والشاملة مع الذاكرة الحضارية للأمة .. وبهذا فإن التفاعل هو عبارة عن عملية التجديد الذاتي ، الذي تحدثه الأمة باستمرار اعتمادا على اصالتها ، وإدراكها السليم والدقيق للظروف المحيطة بها .. إنه التجديد الذي ينطلق من أرض الذات ، لا من أرض الغير ، وهو تجديد ينسجم ومنطق العقيدة والتاريخ ..