لم يعد مهماً ان نعرف المزيد عن تفاصيل الحملة العسكرية الاميركية على افغانستان، ولا طولها وعرضها وامتدادها بعد ان اتضحت صورتها ومعالمها وأصاب العالم الملل من بداياتها بعد ان اكدت ادارة الرئىس جورج بوش بأنها قد تدوم بين 5 و10 سنوات وان مراحلها ستمتد وقد تشمل جهات اخرى لأهداف متباينة. لكن المهم اليوم معرفة أبعاد هذه الحملة على مختلف الصعد ولا سيما بالنسبة الينا كعرب تعودنا ان ندفع الثمن في كل حرب وأزمة ونخسر قضايانا في حروب الآخرين، ومن اجل مصالحهم لا مصالحنا القومية والوطنية لا سيما منذ مطلع القرن العشرين بعد الحرب العالمية الاولى حين خسر العرب استقلالهم ورسمت حدودهم المصطنعة وضاع حلم الوحدة الكبرى بعد إجهاض الثورة العربية "الكبرى" كما سميت، وصدر وعد بلفور باقامة اسرائىل شوكة في خاصرة العرب. وبعد الحرب العالمية الثانية ضاعت فلسطين في نكبة 1948 وبعد ذلك في الحرب الباردة التي استخدم العرب وغيرهم وقوداً لها وأدوات في لعبة الامم من اجل الصراع على مناطق النفوذ والثروة اولاً، ثم في اقتسام مناطق النفوذ بين المعسكرين ثانياً. وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفياتي دفنت الحرب الباردة، ولو بأشكالها التقليدية، وضاع العرب وفقدوا توازنهم الاستراتيجي والسياسي وربما... النفسي فدفعوا المزيد من الاثمان في ظل "النظام العالمي الجديد" الذي قيل انه تكون على واقع هيمنة الولاياتالمتحدة وأحادية "القوة العظمى". والمؤسف ان العرب، وعلى رغم ادراكهم لانتهاء الحرب الباردة، لم يتعاملوا مع النظام العالمي الجديد بعقلانية وواقعية ليجابهوا العولمة والغزو الثقافي والاقتصادي والمالي بتوحيد جهودهم وقواهم ونسيان خلافاتهم والعمل على خوض صراع من اجل البقاء موحدين في ظل عالم متوحش لا يفهم إلا لغة القوة، بل تصرفوا في معظمهم، افراداً وقيادات، وكأن الحرب الباردة ما زالت قائمة ليمارسوا السياسة والتعامل مع العالم بالأساليب البالية التي لم تعد تنفع ولا "تقبض" لا في الشرق ولا في الغرب. وفي ظل هذا الضياع برز عاملان مهمان: الاول، هيمنة اسرائىل على الولاياتالمتحدة التي هي في الاساس تهيمن على العالم الجديد، وتبنيها سياسة البطش وتنفيذ استراتيجية التوسع الصهيوني التي كادت تندحر في مؤتمر مدريد للسلام بالقوة المعراة وكأن يدها قد اطلقت في التصرف بفلسطين والمنطقة بلا حسيب أو رقيب أو رادع عسكري وسياسي وأخلاقي ما أدى الى تفاقم الشعور بالغبن والظلم وفي بعض الاحيان الكراهية والحقد ضد الولاياتالمتحدة قبل اسرائىل. العامل الثاني، تشرذم العرب بدلاً من توحيد قواهم او سياساتهم وظهور نزعات مدمرة لدى بعض القيادات والجماعات والاحزاب اعتقدت انها قادرة على سد الفراغ الناجم عن انتهاء توازنات الحرب الباردة فلجأت الى استخدام القوة في تنفيذ اغراضها السياسية والعقائدية ما أدى الى إحداث شروخ هائلة في الجسد العربي وتبديد الثروات العربية وتبرير الغطرسة الصهيونية واعطاء الذريعة للمطامع الاجنبية من اجل تنفيذ احلامها القديمة في الدخول الى المنطقة من ابوابها العريضة والسيطرة على منابع الثروة العربية. والامثلة على هذه الشروخ كثيرة، لكن مثلها الصارخ والأكثر اتساعاً يتمثل في الغزو العراقي للكويت عام 1990 وما تسبب به من اضرار وكوارث وخسائر للأمة العربية وفي ضرب حاضرها ومستقبلها. والمثال الصارخ الآخر تمثل في بروز ظاهرة العنف والارهاب والتطرف ورفع السلاح داخل المجتمعات العربية للترويج لأفكار الجماعات التي اتخذت من تحرير افغانستان من الاحتلال السوفياتي منطلقاً لبعث ما كان يتردد في ارجاء المنطقة منذ زمن طويل ما ادى الى نشوب حروب اهلية ومذابح ودمار وانهيارات ضربت الاوطان في صميم حياتها اليومية واستقرارها ولقمة عيش المواطن العادي المنكوب، عدا عن الاساءة لسمعة العرب والمسلمين واعطاء المبرر للأعداء كي يتزودوا بأسلحة حملاتهم المغرضة ضد الاسلام والاساءة اليه كدين السلام والمحبة والتسامح. وهكذا ظهرت موجات العداء ضد الاسلام والمسلمين في العالم... وفي الغرب والشرق على حد سواء، وفي روسيا كما في اميركا وأوروبا، وتم الترويج لنظرية "صراع الحضارات" التي تقوم على اساس زعم ان الاسلام هو الخطر الداهم الذي يهدد ما يسمى بالحضارات الغربية او الدول المتقدمة. ولم يعالج احد اسباب بروز هذه النزعات المتطرفة بأسلوب عقلاني وموضوعي وبالحوار البناء والهادف من اجل البحث في الاعماق والاسباب والدوافع ومواطن العلل وصولاً الى البحث عن حلول جذرية ووصف العلاج الناجع. والمسؤولية هنا تقع على الجميع من دون استثناء، لأن من الموضوعية ان نعترف بأننا كعرب وكمسلمين لم نتحمل كفاية مسؤولية المجابهة والحوار بأسلوب علمي، ولم نأخذ الامر على محمل الجد داخلياً وخارجياً وكأن الامر لا يعنينا، ويحدث في مجاهل افريقيا لا في عقر ديارنا. الا ان المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الغرب وبصورة خاصة على الولاياتالمتحدة التي فاخرت بأنها هي التي تتفرد بحكم العالم والهيمنة على النظام العالمي الجديد وتسلمت مسؤولية راعي مسيرة السلام في الشرق الاوسط ثم تخلت عنها شيئاً فشيئاً لتدير ظهرها للعرب وتظهر انحيازها لاسرائىل في السر والعلن وتمارس في عهد ادارة الرئيس جورج بوش الجديدة سياسة النعامة بدفن رأسها في التراب وهي ترى المذابح والدمار وممارسات اسرائىل الظالمة واستخدامها الطائرات والاسلحة الاميركية في قصف المدن وقتل الاطفال والنساء والشيوخ من دون ان يرف لها جفن او تدرك ان انهيار مسيرة السلام سيضر بها قبل أية جهة في العالم وسيعرض مصالحها لخطر أكيد. وعلى رغم محاولات الكثيرين الفصل بين اجواء النقمة السائدة عند العرب والمسلمين وعمليات التفجير المستنكرة في واشنطنونيويورك التي هزت الولاياتالمتحدة من اعماقها وأيقظتها من سباتها فإن الادارة الاميركية، ومعها الغرب والشرق، ادركت ان عدم إحلال السلام في الشرق الاوسط وبالتالي حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً وشاملاً سيجر الى مزيد من العنف والاحداث الدامية والكوارث التي قد تكون اخطر وأشد ضرراً من عمليتي نيويوركوواشنطن، والمخفي اعظم. وبغض النظر عن توافر الادلة على اسامة بن لادن ومن معه في "القاعدة" وغيرها فإنه وان كان البعض يردد بأن منطلقاتها مختلفة فإن الباب فتح على مصراعيه لاعادة تقويم الاوضاع برمتها ولجوء جميع الافرقاء الى وقفة مع النفس لمحاسبة الذات وايجاد الجواب على السؤال الملح الذي يطرحه كل واحد منا وهو: لماذا وصلنا الى هنا؟ وكيف يمكن حل معضلة "الاسلاموفوبيا"؟ ذكرت في البداية انه لم يعد مهماً شكل الحملة العسكرية الاميركية والضربات ولكن المهم هو ايجاد الجواب الثاني بعد السؤال الاول: لماذا وصلنا الى هنا وهو ماذا بعد؟ والى اين ستصل هذه الحرب التي اطلق عليها اسم "الحرب ضد الارهاب" والأصح "حرب اميركا الجديدة" كما تطلق عليها اجهزة الاعلام الاميركية؟! والأهم من كل ذلك ان تستوعب الولاياتالمتحدة قبل غيرها دروس ما جرى ومعها الغرب، وان تطالب بفعل اعتراف عربي بوجوب استيعاب هذه الدروس وتحليل ابعادها والعمل على تجنب تكرار الاخطاء السابقة والبعد عن الشعارات والالتفات لتحقيق اهداف رئيسة تقطع دابر الازمات ويكفي مبررات كل من تسول له نفسه تهديد المصالح القومية ويثير الفتن ويشعل نار حروب الكراهية والتدمير الذاتي. فبالنسبة للولايات المتحدة "وقع الفاس في الرأس" ودفعت ثمناً غالياً نتيجة لعمليات التفجير ليس من ناحية الاضرار والخسائر البشرية والاقتصادية والمادية فحسب بل في صميم عنفوانها وسمعتها ومقدراتها العسكرية والاستخباراتية والتقنية وفي عمق دورها الدولي في "النظام العالمي الجديد". بل يمكن القول ان ما جرى دفن هذا النظام في مهده وفتح الباب امام قيام نظام آخر جديد لن يتحدد شكله الا بعد انتهاء الحملة العسكرية وتحديد نتائجها وعوامل الربح والخسارة وردود الفعل والاصداء والتداعيات. وهناك من يؤكد ان هيمنة الولاياتالمتحدة على العالم لن تدوم بعد اليوم اذ اظهرت الاحداث خلال حملة تحرير الكويت ثم في حملة ضرب حكم "طالبان" في افغانستان ان الولاياتالمتحدة لم تستطع ان تعمل بمفردها بل احتاجت بشدة وإلحاح الى تغطية من جهات عدة: روسياوالصين، وأوروبا وحلف الاطلسي من جهة والى غطاء عربي وغطاء اسلامي ثم غطاء الاممالمتحدة، ولولا ذلك لما تمكنت من تحريك قطعة عسكرية واحدة. هذا هو الدرس الاول الذي يجب ان تتعلمه الولاياتالمتحدة على رغم وجود تحليل آخر مناقض ينطلق من نظرية المؤامرة ليؤكد ان الولاياتالمتحدة ستخرج أكثر قوة وهيمنة على العالم بأسره وانها ستفرض سياسة "شرطي العالم" بالقوة تحت ستار محاربة الارهاب وانها نجحت في تحقيق اهداف استراتيجية بعد تحالف حرب الخليج نتيجة لفرصة ذهبية منحها إياها الغزو العراقي للكويت، وانها ستحقق المزيد من الاهداف الاستراتيجية بعد استغلال الفرصة التي اتاحتها لها التفجيرات وصولاً الى دول آسيا الوسطى وأفغانستان وطريق الحرير وطرق انبابيب النفط والغاز عبر العالم، إضافة الى استعدادات مواجهات المستقبل مع الصين وغيرها على المدى الطويل. أما الدروس الاخرى التي يجب ان تتعلمها الولاياتالمتحدة فهي كثيرة من بينها وجوب تسريع خطوات مسيرة السلام في الشرق الاوسط وردع التطرف الصهيوني والمساهمة في تنفيس اجواء الكراهية ضدها في المنطقة من رفع الحصار على بعض الدول العربية والاسلامية وانهاء اجراءات مقاطعتها والمساهمة في إيجاد حلول عاجلة لقضايا الفقر والديون والمشكلات الناجمة عن العولمة وهيمنة الارادة المالية الدولية على حياة الشعوب. وتجاهل هذه الدروس يعني توقع مزيد من الكوارث بعد ان غيرت عمليات التفجير من موازين القوى وأثبتت انه لا الجيوش ولا التكنولوجيا ولا القنابل النووية قادرة على منع قيام حرب من نوع آخر قد تكون جرثومية او بيولوجية يعد لها رجل واحد او مجموعة صغيرة في وجه اكبر قوة عظمى... فمواجهة الارهاب لا تنجح بالقوة وحدها لأن الحق اقوى من القوة، وبالحق والعدل يمكن حل معظم المشكلات. أما بالنسبة الى العرب فالدروس كثيرة وتحتاج الى مقال آخر ولكن لا بد من وقفة مع الذات والاتعاظ بما جرى وادراك الحقائق الآتية: ان العنف لن يولد الا العنف وان التطرف سيؤدي الى كوارث قد تلحق بالآخرين ولكن اخطارها تصيب العرب بصورة مدمرة، كما ان طريق الارهاب لم يعد مجدياً بل ان العرب، سيدفعون ثمناً مضاعفاً كما جرى أخيراً كما ان التعرض للمدنيين يسيء الى سمعتنا ويعطي الاعداء مبرر انطلاق مخططاتهم الخبيثة. إن الحوار هو السبيل المجدي للدفاع عن العرب والمسلمين وللرد على الحملات المغرضة ومواجهة الآخر، لن ننجح الا ببناء الاقتصاد القوي والانسان الحر على اساس العلم والايمان. ان التشرذم نتيجته معروفة، وهي الوصول الى ما وصلنا اليه، ومن غير توحيد مواقف العرب لا يمكن توقع اي تقدم او انتظار الترياق من هنا وهناك او الحصول على حق او حلول لقضايانا. إن الحديث عن مطامع اجنبية وما شابه يجب ان ينطلق من البحث عن المتسبب والمساعد والمسهل وهذا يستدعي محاسبة المسؤولين عن هذه الخطايا الضارة مثل غزو الكويت والعمليات الاخيرة. ان الشعارات والتظاهرات وعمليات اثارة الجماهير وتجييش عواطفها لم تعد تفيد في الدفاع عن المصالح الحقيقية في ظل المتغيرات العالمية الحالية، والأصح هو تنوير هذه الجماهير ودعوتها للمشاركة في الاعمال الايجابية والابتعاد عن كل من يحاول استغلالها لتحقيق مآربه. هذه كلها مجرد نقاط عامة يحتاج كل منها الى بحث وحوار جدي ولكن الهدف من اثارتها في ظل هذه الظروف العصيبة هو دعوة الجميع: الولاياتالمتحدة والعرب والمسلمين وكل من له علاقة بالتطورات الى وقفة مصارحة مع النفس ليس للمحاسبة فحسب بل من اجل المصالحة. مصالحة مع الذات اولاً... ثم مع الآخر... مصالحة حضارية تقوم على حوار الحضارات لا صراع الحضارات، وعلى النيات الحسنة لا على الاحقاد والكراهية، وعلى العدل لا الظلم والمساواة لا الفوقية والاستكبار، وعلى الرغبة بأن يسود العالم السلام والاستقرار وقطع دابر العنف والارهاب. فإذا خلصت النيات... وكانت المصارحة صادقة يمكن للمصالحة ان تتحقق... وللمصالح ان تتأمن... ومصالح الولاياتالمتحدة بالذات لا بديل لها عن هذا الطريق... وأي سبيل آخر مصيره الى الفشل. واعلان الرئيس جورج بوش عن الدولة الفلسطينية هو خطوة في الطريق الصحيح نحو تصحيح الاوضاع، وأول الغيث قطر... والمطلوب ان ينهمر بسرعة وقبل فوات الاوان!؟ * كاتب وصحافي عربي.