لا شك أن الهجمات التي شهدها ذلك اليوم الاميركي الدامي ستظل تشغل المحللين الاستراتيجيين في العالم لفترة من الزمن، لا سيما بعد ان جعلت تلك الهجمات القرن الحادي والعشرين، الذي دخلناه للتو، يتقدم من الناحية الزمنية عقوداً الى الأمام، واظهرت أن مرحلة ما بعد الحرب الباردة لن تكون ابداً متوافقة مع ما تصوره المنتصرون في تلك الحرب. فمنذ الآن، بدأ بعض هؤلاء المحللين يرسمون سيناريوهات قاتمة لمستقبل يتوقع ان يشهد حروبا يخوضها، خلافا لما عهدناه، مدنيون ضد دول، بالاستناد الى قدرات ووسائل قتالية بسيطة او الى اسلحة غير تقليدية يضاف اليها تصميم قوي على التضحية بالنفس، وهي حروب لن يكون هدفها الحاق هزيمة نهائية بالعدو وانما تسجيل نقاط عليه من خلال توجيه ضربات موجعة الى الركائز الاساسية لنظامه، تزعزع هيبته وتوجد قلقاً دائماً في صفوف مواطنيه. ومع انه من السابق لأوانه، في تقديري،الشروع في رسم سيناريوهات مستقبلية، الا ان من المجمع عليه اليوم أن العالم قد دخل منعطفاً في تطوره التاريخي، بعد يوم الحادي عشر من ايلول الفائت، وان ما وقع في ذلك اليوم ستكون له انعكاسات عميقة على الولايات المتحدة الاميركية اولا، وعلى مجمل الاوضاع الدولية ثانياً، كما ستكون له بكل تأكيد نتائج مباشرة على كل المشكلات المتفجرة في العالم، ومنها المشكلة الفلسطينية والصراع العربي الاسرائيلي. هل كان هناك خطأ في تقدير منبع التهديد؟ هذا السؤال طرحه اكثر من محلل استراتيجي، ومنهم الفرنسي دانييل فيرنيه في مقال نشره في صحيفة لوموند الباريسية (13/9، ص1 و18). فمن المعروف ان الاستراتيجية العسكرية الاميركية قد ركزت، بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك المنظومة السوفييتية ، على مبدأين رئيسيين: الاول جعل اراضي الولايات المتحدة بمنأى عن أي هجوم تشنه عليها، باللجوء الى اسلحة الدمار الشامل والصواريخ البعيدة المدى التي تحملها، دولة من الدول التي تمتلك مثل هذه الاسلحة والصواريخ، وبخاصة من بين تلك الدول التي راحت الادارة الاميركية تطلق عليها اسم الدول المراقة . اما الثاني فهو ان تشارك الوحدات العسكرية الاميركية، عندما تدعو الحاجة الى ذلك، في عمليات عسكرية خارجية نظيفة ، تعتمد فيها اساسا على اسلحتها الذكية ووسائلها العسكرية المتطورة جدا مع الحرص على الا يسقط فيها أي قتيل اميركي، وهو ما عرف باسم خيار حرب : الصفر قتيل . وفي اطار تطبيق المبدأ الأول من هذين المبدأين، وتطوير امكانات الردع، جاء مشروع اقامة الدرع المضاد للصواريخ، الذي قام على فكرة انه لا يجب السماح لأعداء الولايات المتحدة بنقل معركتهم معها الى داخل اراضيها. والواقع، ان الولايات المتحدة الاميركية، وبفضل موقعها الجغرافي المميز وتفوقها العسكري النوعي في ميادين الحرب كافة، لم تتعرض منذ حرب عام 1812 مع بريطانيا لهجمات عسكرية استهدفت مباشرة الاراضي الاميركية، وهو ما أوجد لدى مواطنيها شعورا بالأمان لم يعرفه مواطنو دولة اخرى من الدول الفاعلة على الساحة الدولية خلال القرن العشرين. ولكل هذه الاعتبارات، كان للهجمات التي طالت مدينتي نيويوركوواشنطن وقع الصاعقة على المواطنين والسياسيين الاميركيين الذين لم يتصوروا ان تأتيهم الضربة من حيث أتت، علماً بأن خطر العمليات الارهابية التي تستهدف العمق الاميركي وتطال المدنيين لم يكن مستبعدا كليا من قبل بعض الخبراء والمحللين، الذين اشاروا الى ضرورة وضع خطط لمواجهة منابع تهديد جديدة قد لا تكون الاسلحة الرئيسية وهياكل القوات التابعة للبنتاغون نافعة من اجل مواجهتها او تقليص مخاطرها. وفي هذا السياق، يشار الى التقرير الذي اصدرته اللجنة الاستشارية للأمن القومي برئاسة الجنرال السابق في البحرية تشارلز بويد، والذي رأى ان التهديد الاكثر خطورة في القرن الحادي والعشرين يتمثل في مقتل اميركيين باعداد كبيرة على ارضهم على ايدي ارهابيين، معتبرا أن حدثا امنيا كبيرا من هذا النوع سيقوض هيبة الولايات المتحدة في قيادتها للعالم كما يهدد الحريات المدنية لمواطنيها ( المستقبل ، بيروت 16/9/2001 ، ص17، نقلاً عن صحيفة واشنطن بوست ، 13/9). كما وردت مثل هذه التحذيرات في التقرير الذي اصدرته في بداية السنة الجارية اللجنة الاميركية للأمن القومي التي ترأسها العضوان السابقان في مجلس الشيوخ غاري هارت ووارين رودمان، والذي تجاهلته الادارة لأن اهتمامها كان مركزا على حملة الرئيس للحصول على الثمانين مليار دولار اللازمة لتمويل مشروع درع الدفاع الصاروخي. الجهاد الافغاني كان قيام الادارة الاميركية بتوجيه اصابع الاتهام الى منظمة القاعدة التي يتزعمها اسامة بن لادن، باعتبارها المشتبه الأول فيه عن تفجيرات نيويوركوواشنطن، مناسبة لاعادة طرح السؤال عن طبيعة العلاقات التي نسجتها الادارات الاميركية المتعاقبة، خلال العقود الماضية، مع الحركات الاسلامية الجهادية التي تتهمها اليوم بالارهاب. وفي محاولته تقديم اجابة عن هذا السؤال، اشار جيل كيبل، الاستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس والمتخصص في دراسة الحركات الاسلامية الجهادية ، في مقال له نشره في صحيفة لوموند بعنوان: فخ الجهاد الافغاني (20/9، ص1و12)، الى ان الولايات المتحدة بدأت في تطوير علاقاتها مع الحركات الاسلامية الجهادية بعد الغزو السوفييتي لافغانستان في نهاية سبعينات القرن الماضي، حيث نسجت طوال عقدين علاقات وثيقة مع المجاهدين الأكثر راديكالية في افغانستان، ودربتهم على اساليب الحرب الحديثة ضد الاتحاد السوفياتي، وانفقت سنويا على تدريبهم وتسليحهم حوالي 600 مليون دولار، بالاضافة الى مبلغ مماثل انفقه حلفاؤها. وكانت الادارة الاميركية تعتقد، في ذلك الحين، أنها ستجعل من اولئك المجاهدين اداة مطواعة في يدها، تلجأ اليها عندما تدعو الحاجة الى ذلك. غير ان الحرب ضد العراق كسرت، كما يتابع الباحث الفرنسي نفسه، التحالف السياسي الذي اقام بين الولايات المتحدة، من جهة، وبين منظمات المجاهدين ، من الجهة الاخرى، علماً بأن منطق اجهزة الاستخبارات سمح بالحفاظ على اشكال من العلاقات مع بعض هذه المنظمات، كان من ضمنها السماح لعدد من زعمائهم الملاحقين في بلدانهم الاصلية بالاقامة في الولايات المتحدة، كالشيخ عمر عبد الرحمن، الذي تتهمه السلطات المصرية بأنه زعيم الجماعة الاسلامية المسلحة في مصر والذي اعتقل بعد اتهام انصاره بتفجير مركز التجارة العالمي في 26 شباط 1993. والى جانب ذلك الموقف الاميركي المتسامح ، مع بعض زعماء تلك المنظمات الجهادية ، ظهر بوضوح، في تلك الفترة، أن هناك اوساطا سياسية اميركية كانت تنظر بعين الرضا لاحتمال وصول جماعات اسلامية متشددة الى السلطة في بعض البلدان العربية، مثل مصر والجزائر. ومع ان الاهتمام الاميركي بافغانستان قد ضعف بعد خروج القوات السوفييتية من اراضيه، الا انه تبين أن الادارة الاميركية لم تكن منزعجة من تصاعد قوة طالبان ، التي تشكلت نواتها الاولى ابان عهد الجنرال ضياء الحق في باكستان خلال سنوات 1977 - 1989 داخل شبكة المدارس الدينية المعروفة بالحقانية، والتي وصل عددها الى 2500 مدرسة، خرجت 225000 طالب، ارسل عدد كبير منهم، فيما بعد، الى افغانستان باشراف المخابرات العسكرية الباكستانية وبمرافقة متطوعين من الجيش الباكستاني، ونجحوا في استلام السلطة في كابول عام 1996. وقد برز مؤشر على رغبة النظام السياسي الجديد في كابول في الانفتاح على الادارة الاميركية لدى قيام حكومة طالبان بتسهيل حصول شركة نفطية اميركية على امتياز مشروع لمد خط انابيب غاز يصل بين تركمنستان وباكستان عبر افغانستان، وهو مشروع لم ير النور فيما بعد. غير ان العلاقات بين طالبان والادارة الاميركية ما لبثت ان توترت بعد رجوع اسامة بن لادن الى افغانستان، واعلانه في 23 آب 1996 الجهاد على الاميركيين. ثم تفاقمت تلك العلاقات، في شباط 1998، بعد قيام هذا الاخير، بالتعاون مع مجموعات اسلامية راديكالية اخرى، بتشكيل جبهة اسلامية عالمية ضد اليهود والصليبيين ، تبنت ميثاقا دعت فيه انصارها الى محاربة الاميركيين المتهمين بمعاداة الاسلام والمسلمين.وفي 7 آب 1998، اتهمت هذه الجبهة بالوقوف وراء الانفجارين اللذين وقعا في سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام وتسببا في مقتل 200 شخص، من بينهم 12 اميركيا، ثم اتهمت بتدبير الهجوم الانتحاري، الذي وقع في عام 2000، على البارجة الاميركية كول في ميناء عدن. هل سيبقى المجتمع الامريكي مجتمعاً منفتحاً؟ أكد الرئيس بوش، بعد ان استفاق من صدمة حادث التفجيرات، ان الارهابيين الذين نفذوا الاعتداء على الولايات المتحدة لم يحققوا اهدافهم لأنهم اخفقوا في تدمير العزيمة الاميركية. غير ان توني جودت، استاذ الدراسات الاوروبية في جامعة نيويورك، عبر في مقال نشره بعنوان : الفراغ والانقاض (لوموند، 18/9، ص12)، عن موقف مخالف لموقف الرئيس، ورأى أن بوش لم يدرك، عندما تحدث عن العزيمة، ان هدف الارهابيين لم يكن تدمير العزيمة الاميركية وانما اظهار ان القوة العظمى الوحيدة في عالم اليوم قابلة للعطب، وتابع انه عندما شبه ماوتسي تونغ في سبعينات القرن الفائت اميركا ب نمر من ورق ، كان الزعيم الصيني يدرك أن كلامه فارغ، لكن الامور تغيرت اليوم بعد ان ظهرت هذه الهوة الكبيرة بين القدرات العسكرية الهائلة التي تمتلكها اميركا وبين الوضع الحقيقي لبلد قابل للعطب، معتبرا انه لا ينبغي الاستهانة بالأثر الكبير الذي سيتركه على مستقبل الولايات المتحدة سقوط هذا العدد الهائل من الضحايا وضرب الرموز الاقتصادية والعسكرية لقوتها. واذ بات من الواضح ان الادارة الاميركية ستولي اهتماما كبيرا، في مرحلة ما بعد الحادي عشر من ايلول، لتدابير حماية الامن الداخلي، فقد تباينت اراء المحللين حول الانعكاسات التي ستتركها تلك التدابير على بنية المجتمع الاميركي وقواعد تنظيمه. فالمسؤول السابق البارز في الخارجية الاميركية ستروب تالبوت أكد، بعد أن لحظ أن العدو قد استغل ما يجعل من المجتمع الأميركي مجتمعاً قوياً وفعالاً: الحرية والانفتاح والحركية ، انه يجب السعي من أجل ضمان بقاء المجتمع الأميركي مجتمعاً منفتحاً، تُحترم فيه الحريات الفردية والا فان عدونا سيكون قد كسب الصراع . اما بول كنيدي استاذ التاريخ في جامعة ييل، ومؤلف كتابي: نهوض وسقوط القوى العظمى و : استعداداً للقرن الواحد والعشرين ، فقد قدر في مقال له بعنوان عملاق ضخم بكعب اخيل (الشرق الأوسط، لندن، 18/9)، أن كل التدابير الاحترازية التي ستلجأ اليها الادارة لن تقضي نهائيا على خطر وقوع هجمات ارهابية جديدة، لا سيما بعد ان خرج المارد من عنق الزجاجة وهو يحمل روح الانتقام ، معتبراً ان الثقافة الاميركية التي تحتفي بالضربات السريعة والحاسمة والانتصارات الواضحة والكثير الكثير من الحريات ، وان الشعب الاميركي الذي لم يختبر، في معظمه، الشعور بالقلق والحذر الذي يتميز به اهالي بلفاست او القدس او كشمير ، وان النظام الديمقراطي الهائل والمعقد السائد في الولايات المتحدة، ان كل هذا يترك الزعماء السياسيين الاميركيين امام مشكلة لم يعالجوها بصراحة حتى الآن، حيث انهم لم يقولوا ان هذا العدو الجديد يمكن ان يلحق ضررا بالاميركيين اكبر من الضرر الذي يمكنهم الحاقه به و ان الاساليب القديمة للاستراتيجية العسكرية ربما انتهت ، و ان الحريات الداخلية التقليدية قد لا تكون الحريات ذاتها ثانية ، و ان الطريق الممتدة امامنا قد تكون اكثر عسراً ووعورة من انهيار المباني في وول ستريت والكارثة التي نزلت بالبنتاغون . غير ان محللا اميركياً بارزاً آخر هو فرنسيس فوكوياما، استاذ الاقتصاد السياسي الدولي في جامعة جونز هوبكنز وصاحب مقولة نهاية التاريخ الشهيرة قبل ان يتراجع عنها، قد خالف بول كنيدي في تقديراته المتشائمة، وتوقع في مقال له حمل عنواناً معبراً هو : الولاية - المتحدة (لوموند، 19/9، ص1 و 14)، ان التغييرات التي ستشهدها الولايات المتحدة بعد الحادث الارهابي في الحادي عشر من ايلول لن تجعل اميركا دولة اكثر قمعية واقل تسامحاً، على المستوى الداخلي، واكثر انعزالا، على المستوى الخارجي، ولن تؤدي الى تقليص كبير لمساحة الحريات المدنية التي يتمتع بها مواطنوها، خصوصا وأن فكرة المجتمع المنفتح قد تجذرت بقوة داخل اميركا. بل هو قدر بأنه قد يكون لما حدث انعكاسات ايجابية على المجتمع الاميركي، بحيث توجد الصدمة التي طالت الجميع شعورا قوميا مستديما ، وهو شعور اخذ يضعف في العقود الماضية - كما اشار - بعد ان دفعت حالة الرفاه والسلام التي سادت داخل هذا المجتمع الاميركيين الى الانشغال بمصالحهم الشخصية على حساب المصلحة العامة، وادت الى تنامي السلوك الأناني وتضاؤل الاهتمام بالشأن العام وبروز احتقار متزايد لدور الدولة، وتعمق الانقسام الاجتماعي بين عالم المال والتكنولوجيا المتقدمة، من البنكيين وكبار المهندسين ومحامي الشركات الكبرى، وبين عالم العمال اليدويين، الذين استعادوا حضورهم الفاعل داخل المجتمع من خلال الدور البارز الذي لعبه ، اثر التفجيرات، العاملون في خدمات الاطفاء والانقاذ وفي دوائر الشرطة والدفاع المدني. هل ستعيد الادارة الامريكية النظر في سياساتها الخارجية؟ سارع الرئيس بوش، في ردة فعل اولية على هجمات نيويوركوواشنطن، الى التلويح بالرد العسكري الواسع، مستنداً في ذلك الى تعبئة شعبية لا سابق لها حركتها الرغبة في الانتقام السريع والى اجماع اعضاء الكونغرس، الذين خولوه حق استخدام القوة ضد الدول والمنظمات والاشخاص الذين خططوا او سمحوا او ارتكبوا او ساعدوا في ارتكاب الاعتداءات الارهابية ، و منع أي عمل للارهاب الدولي في المستقبل . وتعالت داخل اميركا دعوات تحث الادارة على العودة إلى تقديم مختلف اشكال المساعدة للقوى التي تناهض انظمة تدعم الارهاب والذهاب الى حد تجريد حملات عسكرية تأديبية تقود الى تغيير انظمة الحكم في بعض البلدان. ثم انطلقت حملة واسعة منسقة رُصدت لها مليارات الدولارات لحشد الجيوش والاساطيل وممارسة مختلف انواع الضغوط على الانظمة والحكومات في العالم بأسره على اساس الشعار الذي تبناه الرئيس بوش : اما معنا واما مع الارهاب ، من دون ان يصدر عن الادارة الاميركية أي موقف واضح يعرف مفهوم هذا الارهاب. غير ان ضخامة هذه الحملة لم تمنع محللين كثيرين من التشكيك في جدواها وفي قدرة الادارة الاميركية، على اللجوء الى الوسائل العسكرية وحدها، على كسب المعركة ضد ما تسميه بالارهاب. ويدعم هؤلاء المشككون موقفهم بحجج عديدة، من بينها ان الارهاب هو عدو هلامي و خفي لا يمتلك قواعد ثابتة، وان حالة الفوضى البربرية ، التي يشهدها العالم بعد نهاية الحرب الباردة وغياب الانضباط الاكراهي الذي كانت تفرضه المواجهة بين الشرق والغرب، قد افرزت فاعلين كثيرين على مسرح السياسة الدولية، حيث ظهرت، الى جانب شبكات الارهاب المتنوعة المشارب، حركات ومنظمات عديدة، مثل المنظمات غير الحكومية والحركات الاجتماعية المناهضة للعولمة وحركات الدفاع عن البيئة وعصابات الجريمة المنظمة، الأمر الذي يجعل العلاقات بين الدول تمثل مركبا واحدا من مركبات السياسة الدولية. وفي هذا السياق، قدر بول كنيدي، في مقاله المشار اليه، انه اذا كان من الحكمة ان تحتفظ الولايات المتحدة بقوات مسلحة كفوءة كعامل ضمان في السياسة، الا ان عليها ان تعي أن الدبابات والطائرات لن تقدم نفعاً كبيراً في مواجهة مصادر عدم الاستقرار والصراع مثل ضغوطات السكان والهجرات الجماعية غير الشرعية والكوارث البيئية وسوء التغذية وانتهاكات حقوق الانسان، وهي الظروف التي غالباً ما رأيناها في افريقيا والبلقان وهاييتي، والتي يمكن ان نجد فيها المجندين الشباب المستعدين للقيام بالتفجيرات الانتحارية . كذلك فان برامج الاسلحة الضخمة التي تكلف مليارات الدولارات لن تكون ذات نفع كبير في المعركة ضد مافيات الجرائم والمخدرات الدولية، وسيكون لها نفع محدود في مواجهة الاعمال الارهابية. وبعد ان يشير كنيدي الى حقيقة ان اميركا هي عملاق عصرنا الراهن، الا ان لها كعب اخيل الذي هو، الى حد كبير، من صنعها ، يعدد العوامل التي يرى فيها نقاط ضعف في بنية عملاق هذا العصر، فيذكر ان تفوق الولايات المتحدة الثقافي والتجاري وقرع طبول تعاليمها في السوق الحرة ينظر اليه باعتباره تهديدا للكثير من الجماعات الدينية والطبقية، خصوصا في المجتمعات التقليدية، وتصور شركاتها العملاقة على انها تعوق التوصل الى اتفاقيات دولية بشأن السيطرة على المناخ، ويقدم دعمها القوي لاسرائيل مبررا لموقف اعدائها في العالم الاسلامي، ويجعلها ابتكارها للانترنت غنية على نحو هائل لكن عرضة ايضا لعمليات التخريب، كما ان سياستها الليبرالية في مجال الهجرة وانفتاح جامعاتها يجعلانها بوتقة لانصهار الافراد من مختلف العالم، بمن فيهم اولئك الذين من الممكن تحريضهم على القيام بعمليات ارهابية . ومن الاستخلاص الذي توصل اليه كثير من المحللين فأنه بات على الاوساط السياسية الاميركية ان تدرك أن الوضعية الجغرافية الفريدة للولايات المتحدة وقوتها العسكرية الهائلة لن تجعلها بمنأى عن اضطرابات العالم ومشكلاته المتفاقمة، وان قابليتها للعطب، التي تكشفت في احداث نيويوركوواشنطن، تضعها على مستوى دول اخرى اضعف منها بكثير من الناحيتين العسكرية والاقتصادية، من هذا الاستخلاص توقع فرنسيس فوكوياما، في مقاله المذكور، أنه قد تكون للعمليات الارهابية نتائج ايجابية على صعيد علاقات اميركا بالعالم الخارجي بما يدفع الاوساط الحاكمة فيها الى التخلي عن النزعة الانعزالية، ورأى أن التغير الأكبر، في هذا المجال، قد يحدث على المستوى النفسي، فالأرض الاميركية ظلت -كما كتب - بمنأى عن أي اعتداء خارجي منذ قيام البريطانيين باحراق البيت الابيض ابان حرب عام 1812، والنتائج التي ترتبت على الافعال الحربية الاميركية في القرن العشرين تحملها حلفاء اميركا او طاولت المصالح الاميركية في الخارج، وجاءت احداث الخليج والبلقان لتزكي فكرة ان اميركا في وسعها ان تصنع الاحداث من دون ان تفقد ولا اميركي واحد، الا ان هذا الوضع قد تغير الآن - كما يتابع -، وهو ما قد يوجد شكلا من اشكال الردع في وجه الولايات المتحدة التي بات عليها، من الآن فصاعدا، ان تحسب التكلفة الآنية للافعال التي تقوم بها، ومع ان هذا الرادع لا يجب ان يحول دون استمرار تحركها على الساحة الدولية، الا انه سيجبرها على تبني بعض الواقعية في علاقاتها المتبادلة مع بقية بلدان العالم . ويخلص فوكوياما الى ان الولايات المتحدة ستكون، بعد الهجمات التي استهدفتها، بلداً مختلفاً، اكثر اتحاداً واقل انشغالا بنفسه بل ربما ستصبح بلدا عاديا بصورة اكبر، يحتفظ بمصالح ملموسة ويتمتع بامكانية عطب حقيقية ويحتاج الى مساعدة اصدقائه بدلا من ان يعتقد نفسه قادرا بصورة احادية على تقرير طبيعة العالم الذي يعيش فيه . اما توني جودت فقد خلص، في مقاله المذكور، الى ان على الولايات المتحدة ان تستخلص دروسا ثلاثة من الهجوم الذي استهدفها وهي : اولا، ان تتخلى عن هوس اقامة الدرع المضاد للصواريخ ، وان تعلم أن النفقات الهائلة على هذا المشروع لن تكون سوى تبذير ثانيا، ان تدرك حقيقة انهم ينظرون اليها في الشرق الاوسط، على انها مسؤولة عن اعمال اسرائيل، وان تعي تاليا أن مشاركتها في نزاع الشرق الاوسط هو امر مفروض عليها بغض النظر عن الرغبات الاميركية، وهو ما يتطلب منها، السعي الجاد من اجل التوصل الى سلام دائم في هذه المنطقة، وثالثا، ان تعترف بأنه لا يمكن ضمان مصالح اميركا القومية في اطار سياسة انعزالية، لأن هذه المصالح باتت مرتبطة بمصالح بقية دول العالم، ولا سيما بعد ان تعولمت السياسة ولم تعد للاسواق المالية حدود . ويتساءل الاكاديمي الاميركي في الختام: هل ستكون ادارة الرئيس بوش الحالية قادرة على استيعاب هذه الدروس الثلاثة؟ آفاق التطور العالمي: خياران لا ثالث لهما وقد لا يكون تقدير هذا الاكاديمي الاميركي بعيدا عن الواقع اذا ما نظرنا الى ردة فعل الادارة الآنية على الهجمات التي استهدفت الولايات المتحدة، وما رافقها من خطاب اعلامي لجأ الى تعابير - قيل عن بعضها انها زلة لسان - لا تساعد سوى على تغذية نزعات الانغلاق والتعصب والكراهية بين الأمم والشعوب، من نوع حرب الخير على الشر و الحرب الصليبية و حرب الحضارة على البربرية . وكما كان متوقعا، فقد لقيت ردة الفعل هذه استهجانا واسعا من قوى وشخصيات كثيرة، على امتداد العالم، تعاطفت مع الشعب الاميركي في محنته، واجمعت على ادانة مرتكبي الهجمات التي استهدفت نيويوركوواشنطن، لكنها حذرت من المخاطر التي ستنجم عن اندفاع الادارة الاميركية على طريق الحرب والانتقام. وفي هذا الصدد، عبر الكاتب والمخرج السينمائي طارق علي، الباكستاني الاصل والبريطاني الجنسية، في مقال نشرته صحيفة لوموند (20 ايلول) عن استغرابه من حديث مسؤولي الادارة الاميركية عن الحضارة لتبرير هجومهم الانتقامي، وتساءل عن طبيعة ذلك النمط الحضاري الذي يفكر بتعابير الانتقام الدموي ، معتبرا ان الحل الوحيد العقلاني هو الحل السياسي، الذي يتطلب ازالة اسباب الاستياء من السياسات الاميركية في الشرق الاوسط ومناطق اخرى من العالم. كما تمنى مثقفون اوروبيون كثيرون على حكوماتهم ان لا تتورط، من دون تبصر، في عمل متهور، ودعوها الى مقاومة الرغبة في الانتقام الاعمى ، لأنه سيعزز كافة اشكال العنصرية والتعصب، ويحرف الانظار عن ضرورة البحث عن الاسباب الحقيقية، الاقتصادية والسياسية، لما جرى. وفي هذا السياق يمكن الاشارة الى البيان الذي اصدره عدد من الباحثين والاساتذة الجامعيين الفرنسيين العاملين في مجال العالم العربي والاسلامي، الذي اعتبر أن الخطابات التبسيطية التي تضع الغرب في مواجهة الشرق، والحضارة مقابل البربرية، والاشعاع مقابل الظلامية، خطرة، منافية للعقل وخادعة ، وهي خطابات غير معقولة لأنه لم يكن هناك يوم ساحات ثقافية مغلقة واحدتها على الاخرى ، كما انها خطابات غير مستقيمة لأن اختزال تحليل هذه الاحداث المأساوية الى مواجهة ثقافية يعني نفي الاختلالات الخطرة في التوازنات الاقتصادية والاجتماعية التي تتم على حساب قسم كبير من الكرة الارضية . وتمنى موقعو البيان في النهاية أن تشكل هذه الاحداث مناسبة لاجراء حساب ومراجعة لعدد من السياسات ولرؤيا معينة للنظام العالمي بدلا من الهروب الى الامام وتبني خطابات تدعو الى استخدام القوة، خطابات اختزالية وغير مسؤولة (النهار، بيروت، 27/9، ص16). والواقع ان العالم بات يقف بالفعل، بعد احداث نيويوركوواشنطن المأساوية، امام خيارين لا ثالث لهما: اما استمرار الفوضى العالمية وغياب الاستقرار الدولي وانتشار ظاهرة العنف وتنامي نزعات الانغلاق والانعزال، واما التوجه نحو عالم متضامن وعادل يقوم على تعدد الاقطاب وتفاعلها البناء والبحث الجماعي عن حلول جذرية للمشكلات التي تهدد السلام والاستقرار في العالم، وفي مقدمتها مشكلات الشعوب التي تتعرض للعدوان ولا تزال محرومة من حقها الاولي في تقرير المصير والاستقلال ومشكلات الشعوب التي تفاقمت معاناتها، في ظل اشكال السيطرة الامبريالية الجديدة، من الجوع والفقر والاستثناء والتهميش. والامر سيتوقف في المقام الأول، فيما يتعلق بترجيح حظوظ هذا الخيار ام ذاك، على توجهات السياسة الاميركية على خوض الحرب ضد الارهاب بعيدا عن هيئة الامم المتحدة وعن اجماع عالمي على تعريف واضح لهذا المفهوم، وواصلت سياستها الرامية الى فرض ارادتها على العالم وشعوبه من خلال الاضطلاع بدور القطب الواحد وتنفيذ مشاريعها التسليحية وبخاصة مشروع الدرع الصاروخي، واستمرت في تجاهل المشكلات السياسية والاقتصادية والثقافية والبيئية الخطيرة التي تنجم عن شكل استعمار السوق ، الذي تتلبسه ظاهرة العولمة حاليا والذي لا يحركه سوى هاجس البحث عن الربح ومعاظمته بعيدا عن اية هموم او انشغالات انسانية، اذا ما واصلت اميركا نهجها هذا، فستتغلب حتما حظوظ الخيار الاول ويكون مستقبل العالم مظلماً ومخيفاً .