جزء ثانٍ واخير من الحوار مع الشاعر انسي الحاج الذي ارتأت مجلة "ديوان" الصادرة في برلين بالألمانية والعربية ان تخصّ به "آداب وفنون" في "الحياة" وهي تنشره بالألمانية في عددها الجديد الذي يصدر قريباً. والحوار اجراه الشاعر عقل العويط وترجمه الى الألمانية سليمان توفيق. ولعل الحوار في أصله العربي الكامل هو أشبه بالوثيقة التي ترصد مسار انسي الحاج شاعراً وناثراً وتلقي اضواء ساطعة على تجربته التي يخوضها منذ قرابة اربعين عاماً، عندما أصدر ديوانه الأول "لن" في العام 1960. تقول في مقدمة "كلمات كلمات كلمات" 1987 ان "أكبر انتصار على اليأس هو هذا الشوق الملتمع في اعماق يأسي". لكنك تستغرب "أن يكون الصدر الواحد مأوى للجحيم والنعيم بهذه القوة"، مندهشاً "من قدرة الإنسان على الوقوف في قلب جثته، كما اقف الآن، عاصفة من الحياة يخترقها الوعد..." مرة ثانية، حدّثنا عن هذه الثنائية. - ليست ثنائية. إنها واحدة، إنها الحياة الموت والموت الحياة. قيل فيك انك شاعر المحرّمات وقد ذهبتَ الى اقصى المناطق الممنوعة في كسر القيم السائدة وفي ولوج الرأس والباطن واللاوعي والحس والملموس واللغة، حتى باتت هذه المحرّمات امراً راسخاً في الشعر. الآن، يرى البعض ان هذه المحرّمات دخلت بفضلك في النسيج الحيوي للغة العربية. الى أي حد هذا الكلام صحيح؟ الى أي حد بتنا في حاجة الى محرمات اخرى لكي ننتهكها على مستوى الثابت الفكري وعلى مستوى الثابت اللغوي؟ - لا أرى اني ذهبت الى الحد الأقصى. هنالك مناطق اخرى كثيرة لم ألجها. ليست المسألة مسألة محرّمات، بل حتى ليست مسألة صدق وجرأة. إنها قضية ان يعتصر المرء حياته بيديه، بقلمه، فلا يبقى رأسه خارج نطاق تعبيره ولا حلمه اكبر من حياته. لم يكن كسر القيم السائدة غاية عندي بل الغاية كانت وما زالت هي البحث عن الحقيقة وكسب المزيد من الحرية وتحقيق المزيد من الحب والمتعة والسعادة. هوس كهذا لا بد من ان يصادف الممنوعات ولا بد إما ان تقمعه أو يحطمها. ان هدفي كان دوماً هو الذات الإنسانية ولم أنظر الى الخارج إلا بقدر ما يتصل هذا النظر بغذاء الذات أو حمايتها من الاعتداء. اما المحرمات الجديدة فلا خوف من حصول أزمة في شأنها. كل انتهاك لمحرّم هو هدف لانتهاك، لأنه سيغدو بدوره حدوداً و"قيماً سائدة" تتحدى التمرّد. ولا نهاية لتمرّد الإنسان ما دامت طاقة الحياة فيه اقوى من جاذب الموت. بين شعراء الحب الحديثين قد يكون شعرك هو الأكثر تجسيداً لصفة كونه شعراً يتخطى زمنه ولغته وأوطانه ليكون شعر الأزمنة واللغات والأوطان وشعر كل شعراء الحب. انت تقول في هذا الصدد "أنا شعوب من العشاق" و"انقلوني الى جميع اللغات لتسمعني حبيبتي" و"ليكن فيّ جميع الشعراء لأن الوديعة اكبر من يديّ"... اي حب هو هذا لكي تقول ما تقوله؟ هل انت رسول حب؟ أعني هل أنت مرسل في معنىً ما؟ نبي في جحيم شاعر وفي جحيم لغته؟ - اشكرك على هذه الصور البديعة والتي قطعاً لا أستحقها. أنا واحد من شعراء الحب. وكان بودي لو أكون ايضاً واحداً من روائييه وواحداً من موسيقييه وواحداً من مخرجيه السينمائيين. المرأة والحياة انت ابن المعشوقة، حبيبها، زوجها، غريبها وعبدها. كيف هذا كله، ومعاً؟ كأنك به تختصر المصير البشري؟ - لأن المرأة عندي بديل الحياة. انت طفل كبير، مصاب بطفولتك، بعدواها، بجروحها وهواجسها وأحلامها. هل أنت الآن فاقد طفولتك؟ هل تبحث عن ملجأ، عن رحم، عن ليل، ام ان ما قلته مرة عن رحم الأم هو البيت الوحيد الذي تحب ان تكون فيه، بل هو المكان حيث انت مقيم الآن؟ - لا تهمني طفولتي إلا بمقدار ما أنا غير واع لها، ولا أحبها فيّ، ولكن اكثر في سواي، إلا إذا كانت بعيدة عن تدليل الذات. وهذه اللغة التي بنيتها، وهذا الفضاء الهائل الذي فتحته لها، ألا يعزّيك، ألا يكفيك؟ ام انك تشبه الصحراء التي لا تكتفي بل يزاد عطشها كلّما شربت؟ - هل فعلت شيئاً من هذا؟ قلائل يقولون ذلك. كثيرون لا يعترفون به او هم يشجبونه. الأكثرية لا تذكره بل لا تعرف وجوده. هل هناك غريب مثلي في لغته؟ دعنا نعود الى موضوع الطفولة. انت مرعوب من الموت، الى حد ان هذا الرعب ينفث كوابيسه في جسد لغتك، من اعماق باطنها الى تجليات حواسها. صحيح ان الشعر اقوى من الموت، لكنك لا تكتفي بالشعر، إذ تعتقد ان حياتك انت بالذات باقية في الطفولة ولا تشيخ ولن تصاب بهوان الموت. ما هي هذه الطفولة التي تقوى على الموت؟ - انها تلك اللامبالاة الملائكية التي تحميك في العواصف، وذلك الانغماس الشيطاني الذي يجذّرك في الحياة. ألم تشف من هذه الحياة؟ - شيء من التعب. احياناً يعتقد المرء انك ضد نظام الطبيعة. فأنت تنام نهاراً وتعيش ليلاً. أأنت كائن ليلي؟ أهو تفسيرك المختلف للعلاقة مع الضوء والظلمة؟ أهو الليل يريدك له وجهاً لوجه ليستبطنك وتستبطنه بالحواس اليقظة لا اللاواعية؟ اهو الكسل؟ اهي رغبتك في كسر عادة الحياة؟ أم أنك لا تستطيع ان تتحمل فضيحة الشمس؟ - إنما هي الحاجة الى ركن هادئ، والخوف من الاستسلام الى الرقاد في الظلمة. الرغبة والمعرفة تقول: "ما دمت لا أعرف الجنة سيبقى ان ما من بلد اجمل من الشوق الى بلد وما من امرأة اجمل من الرغبة في امرأة وما من جنة اشهى من حلمي بالجنة"... لكنك كتبت المرأة وكتبت الجنة وكتبت البلاد. ألا تعتقد ان الرغبة هي اكثر من المعرفة وليست في حاجة إليها؟ - الرغبة هي الحياة. وليست "في حاجة" إلا الى الجهل. "أنا عدمي هدّام" وتقول أيضاً انك خائن. لكن عدميتك وهدمك وخيانتك لم تبخل يوماً على شعرك ولم تجعله أرضاً يباساً بل مضمخاً بالحب والحلم والحنان والخيال والليل، الى درجة انك تغمر اللغة بهذه الحالات التي تشق دروبها بما يوحي انها خارج الهدم وخارج الخيانة. كيف تفسر هذا الانسجام الرهيب بين الخيانة والعدمية والهدم من جهة، وهذا الفردوس الذي صنعته للغة العربية وجعلتها تعيش في كنفه وتحت سمائه؟ أعني شغف الحب والحلم والحنان والخيال والليل. - إذا لم يخترع الشعر نافذة في العدم على الفردوس فلماذا الشعر؟ ومن اين ينبع ان لم ينبع من التوق؟ وما التوق ان لم يُضْمر الحب؟ سفر الجامعة في الكتاب المقدس، وكتابات عدة غيره سومرية ومصرية قديمة، جمعت بين عدمية وإشراق، وبين يأس وسعادة. فلسفات وآداب عدة، لا تقتصر على الأبيكورية والرواقية، بل ثمة في المزامير وسفر ايوب ونشيد الأناشيد، واغوسطينوس، وباسكال، ودو ساد، وبودلير، ورامبو، ودوستويفسكي، ونيتشه، وبروتون، وكامو، وايلوار، وسيمون فايل، وغيرهم وغيرهم في الشرق والغرب، من ساروا على دروب متشابهة في هذا المعنى، دروب الرماد والفجر، الفراغ والملء، العبث والمعنى. هبْ ان لا معنى معطى هناك، لا معنى لكل هذا مُعطى من خارج، وأن الهاوية فاغرة امام ابصارنا. هبْ ان هذا صحيح "باطل الأباطيل كل شيء باطل"، فهل كل توق الأدب والفن ان يعبّر عن هذا؟ وهل المسألة هي فقط هذا، وقوله؟ ان كان هذا، فما اكرم الكاتب الذي يجعلني اكبر فوق هذا وأغدو أجمل منه، وإن لم يكن هذا، فما اكرمه وهو يساعدني، بخلقه وحبه ومعاناته، لكي استشرف آفاقاً أرحب وأطلّ على الأمل. لقد اجتزت زمناً كان زمن العدمية الصارخة عذابها، ولكني وأنا اجتازه وأدوّي بصوره وصراخاته كنت أشعر ان هناك في صدري الى جانب اللعن والترويع ما يريد ان يخرج، ضوء يريد ان يخرج بعد العتمة، الى جانبها. في زمن لاحق عشت وكتبت مرحلة الخلاص والتجلي بالحب. وفي زمن لاحق ايضاً، ومنذ مقدمة "كلمات كلمات كلمات" الى "خواتم" و"الوليمة" اعيش زمن اندماج الزمنين وما بعده مما يتجاوزه ولا يتجاوزه. العدم خلاّق. العدم خلاّق في المطلق، فكيف به في الشعر؟ تدعو الى الهدم، هدم كل شيء، وقد تحقق كل بعض هذا الهدم، لكنه جاءك حيناً على النقيض مما تدعو إليه، وعلى قولك، فإن "مَنْ هُدم هو أنا لا عدوّي، ولأن ما جرى هو اختلاس لذهب الهدم الفتّان على أيدي قنّاصي التاريخ". هل أنت ثائر على قناصي التاريخ هؤلاء وعلى مصادري تأويلك للهدم؟ نادم؟حاقد؟ منتقم؟ - يقع هؤلاء في نطاق آخر من العبارة، خارجها تماماً، في نطاق التزوير والخطف والسطو والقتل. وإني غاضب على هؤلاء وثائر وحاقد، نعم، بلا ريب، لأن جريمتهم عامدة متعمدة مخططة مجهّزة بدم بارد وأنياب لا نهاية لها، وتحت سلسلة من الأقنعة لا يمكن بلوغ ما تحتها. لقد استعملوا مفهومي ومفهومك ومفهوم امثالنا من المجانيين الحالمين ضد جوهره مبدأ وغاية. لا يعرف مبلغ غضبي إلا من يعرف معنى ما أقوله في هذا الإطار حرفياً وبالتفاصيل وبالتجسيد السياسي والاجتماعي والتاريخي لا الأدبي أو الفلسفي فحسب. لم أُقتَل عقاباً على هدميّتي، بل جاء من تبنّى شعاراتها ليسلبني بها روحي العامة والخاصة ويقتل شعبي وبلدي ويشوه ذاكرتي ويمنعني من التنفس ويحكّم فيّ اللصوص والمجرمين. وما حصل لبلدي وشعبي حصل ويحصل مثله لبلدان وشعوب اخرى وقع عليها اختيار لعبة الأمم. وليس كثيراً على شعوب مقهورة كهذه ان يخرج منها ارهاب ينتقم للحق المذبوح، بل الغريب الا يخرج ارهاب اعظم وأكثر. تسفك اللغة العربية وتستجمع ما يبقى من روحها لتعيد خلقها كأنها ابنة لك وليست امّاً. فأنت تسفكها الى درجة القتل، ثم تحييها لتنجب لغة ثانية لم تعهدها العربية، في التراكيب، في الألفاظ، في التدمير، في الاختراع، في العدوان على المنطق اللغوي، في المعاني التي تفتحها لها، في الآفاق التي توسعها، حيث منتهى العدوان منسجماً مع منتهى الوئام. وحيث منتهى التلبّد مع منتهى الصفاء الشفّاف. هل يمكنك ان تروي علاقتك بهذه اللغة؟ - لغتي هي ايقاعي وأنفاسي. انها حربي وسلامي. إنها موسيقاي. لغتي هي كلماتي وأيضاً وجهي وحركاتي وشكل نومي. إن كل كلمة اكتبها كائن يتقدم كذبيحة. لهذا فقد أهزأ بواسطتها وأجدّف، وأعبث وأرتكب الجموحات، إلا الهبوط بها نحو المنحدرات الحقيرة. "أكنّ كل الاحترام للذين يفكرون ان ألحّ وظيفة يقوم بها الواحد اليوم هي خلخلة ايمان هذه الأمة بكل معتقداتها"، لتقول ايضاً: "مَن لا يجن في هذه الأمة مجنون"، لأن "كل ما تعتقده هذه الأمة خطأ، وكل ما تفعله خطأ". حدثنا عن خطأ هذه الأمة. - هو خطأ ضد ذاتها. ليت الطيبة الموجودة في هذه الأمة العربية يوازيه مثلها في الحرية. "كان لي وطن"، تقول في إحدى المرات، هذا الفعل الماضي يوحي انه كان لديك وطن لم يعد موجوداً. أين هو هذا الوطن؟ هل هو قتيل؟ وأين تعيش إذاً ما دام لم يعد لك وطن؟ - في ارض البدايات الثانية، ما بعد النهاية. في لحظة معينة من الستينات والسبعينات عاش لبنان حالاً فريدة من الحرية حتى كأنه بات خارج جغرافيا الظلام والأنظمة التوتاليتارية. وفي لحظة ما، امتدت الأيدي لتفسد هذه الحال من الحرية، فقلتَ مصعوقاً: "هل نسينا لماذا نحن في لبنان؟ ماذا دهى العاملين في ظلام الجبن والاستعباد حتى اخذوا يفككون جسم الحرية سراً ويسحبون كرسيه تحت اقدامنا بهدوء المجرمين البعيدي النظر الطويلي النفس؟". من هو لبنان الذي نسيناه؟ أتريد ان تقول انه جسم الحرية الذي بات مريضاً ولم يعد ممكناً ان يشفى؟ - لبنان اسم من اسماء الحرية ولا اهمية له خارج ذلك. لا أهمية للبنان كدولة وسياسة ومجتمع. هذه كلها زالت وعادت وتزول وتعود. لبنان هو فكرة عن الحرية لا حدود لها وممارسة لا مثيل لها في هذا الجزء من العالم. هذه الفكرة وممارستها كانتا موجودتين في لبنان القديم منذ ما قبل تسميته النهائية بلبنان، وكل الغزوات التي توالت عليه لم تستطع تغيير هذه الحقيقة. لا الاحتلالات ولا الكوارث ولا الهجرات. الحرية هي ميثولوجيا لبنان ماضياً وحاضراً وهي ديانته ولا شيء يستطيع ان يمنع استمرار ذلك في المستقبل. الحب والحرية على هامش فكرة الوطن الجغرافي، أين وطنك الحقيقي شاعراً وإنساناً؟ - في الحب والحرية. ترفض قبول الدعوات الى المهرجانات ومظاهر التكريم والأوسمة والجوائز وترفض إقامة علاقات أدبية واجتماعية لتكريس قيمتك الأدبية أو الاحتفاء بها، وهي القيمة التي تعرف اجيالنا الشعرية العربية تمام المعرفة موقعها الريادي. لماذا هذا الرفض؟ - هناك الخجل والزهد، وهناك الاعتقاد أن لا معنى لمهرجانات التقدير هذه، حيث الكلمات ذاتها تكال، ولو عن نية حسنة، لأي كان. لقد ترجم بعض شعرك الى الفرنسية والإنكليزية والألمانية.هل تشعر ان لغتك تعيش امتحان اللغات الأخرى ورهبة الدخول إليها؟ ماذا يعني لك انك شاعر مترجم؟ - الحدود تتلاشى في حال كهذه. وكلما ازدادت مساحة الترجمة ازدادت رقعة هذا الشعور الإنساني. تكتب اليوم تحت اسم "عابر" وكتبت بالأمس تحت اسم "سراب العارف" وقبلهما غير ذلك من الأسماء المستعارة. في العبور ما يعلن الهشاشة وعدم الإقامة، وفي السراب الوهم. لكنهما، أي العابر والسراب، يقيمان في المعرفة، في المعرفة التي تحدس وترى وتتألم وتهرب. لماذا الأسماء المستعارة؟ هل هي طلباً للغفلية في هذا العالم الذي ينضح شعورك حياله بكثير من الاحتقار والسخرية؟ لماذا كل هذا اليأس من الاسم الحقيقي؟ هذا الهرب منه؟ - عندما يغدو الوجه سجناً يصبح القناع فوقه حرّية. هل من كلمة اخيرة توجهها الى قارئ سيقرأ شعرك وهذه المقابلة؟ - الا أكون بعيداً جداً وألا أتجاوز المسافة المريحة لكلينا.