تفتقد المكتبة الفرنسية إلى مختارات شعرية مرجعية تلقي الضوء على حركة الشعر السوري الجديد الذي رسخ نفسه في طليعة المشهد العربي. ولعل كتاب «الشعر السوري المعاصر» الصادر عن دار «لو كاستور» باللغتين العربية والفرنسية، للشاعر والباحث صالح ديابي يملأ هذا الفراغ. فالكتاب هو أول مختارات شعرية شاملة لشعراء سوريين يؤرخ دياب من خلالها لأكثر الأصوات الشعرية طليعية في سورية. ولذا تأتي هذه المختارات لتسد نقصاً في المراجع الشاملة التي تعنى بهذه الحركة، عبر ممثليها السوريين. ولئن صدر الكتاب في لحظة سورية مأسوية، فالمختارات يعمل عليها دياب منذ عشر سنوات، وقد تم اختيار الأسماء بناء على أسباب محض شعرية، ولا يتكئ دياب في خياراته على السياسي. الأنطولوجيا بهذا المعنى تبدو كأول كتاب عن الأدب السوري، يصدر من خارج البروباغندا السياسية التي عوَّمت كل ما كتب عن المأساة بوصفه أدباً عظيماً، وعُمل بذلك منذ بداية الحرب الأهلية السورية. فالكاتب يعتمد في هذه المختارات أطروحته التي كان تقدم بها لنيل شهادة الدكتوراه عن الشعر العربي وفيها يحضر الشعر السوري. يستهل دياب كتابه بالتعريف بالشاعر السوري، ويرى أنه لم يعرف عنه أي تعصب أو انغلاق على سوريته، إذ ظل على الدوام منتمياً إلى بلاد الشام، ويحلم واهماً بتوحيدها، على النقيض من التقلبات السياسية الجارفة، كما لم يهضم الهويات التي صيغت بعد الاستقلال. لذلك لا ضير لديه أن يصبح تارة لبنانياً وتارة فلسطينياً وتارة أردنياً. ومن هنا نجد ذلك التداخل الطبيعي في الانتماءات الوطنية، خصوصاً في النصف الأول من القرن فنقول: اللبناني السوري، والسوري اللبناني، والسوري الفلسطيني ... فالسوري يعتبر نفسه جميعهم، وهم جزء لا يتجزأ منه، فمن سورية الكبرى خرجت التسميات الثلاث. مراحل شعرية تضم المختارات الشعراء الأكثر تجريبية الذين سعوا كل على طريقته، إلى خلق لغة داخل اللغة، كما طرحوا، عبر سيرورة تجاربهم أسئلة حول معنى الشعر وأدواته، وعلاقة الشاعر بذاته وبالعالم واللغة والتراث. كما حاوروا فنياً الأجيال السابقة والمجايلة، وأدخلوا الإنجازات الجمالية لسابقيهم في «تحتانيات» خطابهم الشعري. ومن ناحية أخرى، قامت شعريتهم على مركزية التجربة الشخصية، وتطلعوا بقوة إلى المستقبل مدفوعين بهاجسَي التطور والتجديد، وشكّل الشعر هاجسهم الروحي، وخلت لغتهم مما هو تحريضي شعاراتي مباشر. كما ابتعدت عن الوصف والأخبار والتقريرية. تغطي القصيدة النثرية معظم المختارات، وتكاد أن تكون الشكل الوحيد للتعبير لدى الشعراء العرب الآن، ومفهومهاً يسم الشعر العربي، بعد انحسار قصيدة العمودية، وقصيدة التفعيلة. ظل الكاتب حريصاً على تمثيل النوعين الشعريين الآخرين (القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة) كي يعطي صورة بانورامية عن الشعر المكتوب في سورية. فقصيدة النثر كما يقول ولدت وترعرعت في ظل القصيدتين، وقد تبناها شعراء قصيدة التفعيلة الكبار الذين كتبوا الشعر العمودي أيضاً. اختار دياب أحياناً نوعين للشاعر نفسه تفعيلةً ونثراً. ولا يحتفل دياب بالشعر السوري بل بشعراء سوريين. فبرأييه لاتوجد انقطاعات جمالية وفنية تسمح بوجود شعريات عربية متعددة، بل هناك شعرية واحدة تخضع للقوانين الجمالية ذاتها، فشعريات البلدان العربية في المشرق تتجاور وتتصل وتتداخل. بالمقابل يمكننا الحديث عن لغة شعرية تخص هذا الشاعر أو ذاك، قدم صاحبها مساهمة في هذه الحركة. قسم دياب مختاراته إلى أربع حلقات أو حداثات شعرية. استهل الحلقة الأولى بشاعرين من مدينة حلب هما خير الدين الأسدي وأورخان ميسر. خير الدين الأسدي وأورخان ميسر يتصلان بمؤسسي الحداثة العربية الأول جبران خليل جبران وأمين الريحاني. حطما العروض وكتبا عن وعيٍ شعراً منثوراً اعتبراه شعراً، ومهدا لكتابيهما «أغاني القبة» و «سريال» باكراً، ببيانين شعريين شرحا فيهما رؤيتهما الشعرية. وشكلت نصوصهما ممراً إلى القصيدة النثرية العربية في شكلها المتبلور في مجلة «شعر» على يد أنسي الحاج ومحمد الماغوط وشوقي أبي شقرا. فقد كان لخير الدين الأسدي وأورخان ميسر قصب السبق والريادة. فالأسدي انفتح على الصوفية بوصفها تجربة روحية قبل أن تكون كتابية، واتصل ميسر بالسريالية. الأثنان قدما باكراً أراء ونصوصاً طليعية حول الإيجاز والمجانية، والإشراق والوحدة العضوية. ألحق دياب بالحلقة الأولى تجربتين شعريتين كلاسيكية ونيوكلاسيكية. فالشعر العمودي يحضر في المختارات عبر إثنين من أهم ممثليه في سورية هما بدوي الجبل وعمر أبو ريشة. يقصر دياب خياراته على قصائد بدوي الجبل الصوفية بوصفها النموذج الأرفع لشعريته، فالشاعر الذي نظر إلى الشعر بوصفه تنبؤاً وخيالاً وصوراً. كتب قصائد صوفية وابتهالات، ولم يرَ للشعر وظيفة إلا الجمال، وهو ينسكب مباشرة من السريرة. وتوقفت المختارت عند قصائد الحب التي كتبها أبو ريشة، متجنبة قصائد الفخر القومية. ففي قصائد الحب يظهر تخففه من البلاغة والمحسنات البديعية، وهو لئن كتب قصيدة عمودية إلا أنه لم يسعَ متطرفاً إلى الفصاحة والبيان، ويلتقي هنا مع مجايليه من الشعراء العرب النيوكلاسيين في لبنان والمهجر. الحلقة الثانية هي حلقة مفصلية إذ توقف دياب عند شعراء مجلة شعر من السوريين، الذين تبلورت تجربتهم ضمن فضاء الحرية في بيروت الستينات، وأخذت حيزاً مهماً من الكتاب، فقد بلغ عدد ممثليها تسعة شعراء هم: محمد الماغوط، أدونيس، يوسف الخال، نزار قباني، كمال خير بك، نذير العظمة، سنية صالح، فؤاد رفقة، توفيق صايغ. سعى الشعراء في هذه الحلقة إلى ترسيخ فكرة الحداثة وتحديث الشعر وتثويره من الداخل، وعدم الرضوخ للقيم التقليدية، واعتبروا الشعر وعاشوه كتجربة كيانية فريدة، وتجاوبوا مع روح العصر من حيث التجربة وتماشوا مع تطور اللغة من حيث التعبير. وأشار المؤلف إلى الشعراء الذين هاجروا وتركوا مدنهم في سورية كالخال ورفقة وصايغ وعانوا من منفى ميتافيزيقي، وسكنهم الموت والغياب والتوق إلى السفر طيلة حياتهم والتجأوا إلى الروحي، واتخذوا من القصيدة وطناً لهم. شكل الشعراء السوريون مع أشقائهم في لبنان المنسلخ حديثاً عن الأم سورية حركة حداثية ساهمت بجرأة في نقل الشعر العربي إلى أراض شعرية مجهولة، وبث قيم جمالية حداثية مغايرة. وهي أكمل وأسطع أنموذج عربي حداثي عرفته الحركة الشعرية العربية خلال قرن. وكان غالبهم ينتمي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي يتبنى نظرية تسعى إلى توحيد سورية الكبرى، وترفض الهويات الوطنية الصغيرة التي صنعتها فرنسا. ألحق الكاتب محمود السيد بهذه الحلقة وثمن قصيدته «مونادا دمشق» التي تنهل من الموروثات السورية القديمة والتي كتبت بلغة طقسية توراتية تعلي الخصوبة. وتثمن مفهوم الحب والعشق. وأشار دياب إلى اتصال هذه الحلقة بأوروبا وبحداثتها الفكرية والاجتماعية، خصوصاً أن غالبية ممثليها حصلوا على درجات علمية وقدموا أطروحات دكتوراه في الأدب، كما أنهم اختبروا باكراً العيش في أوروبا. ووجدت ثقافتهم تأثيرات في مواقفهم ونصوصهم إذ كتب أغلبهم الأنواع الشعرية الثلاثة وكانوا متمكنين منها. شعراء السبعينات الحلقة الثالثة هي حلقة شعراء القصيدة الشفوية التي كتبت في السبعينات وضمّت شعراء نزيه أبو عفش، منذر مصري، عادل محمود، وبندر عبد الحميد، ورياض الصالح حسين. هذه التجارب مجتمعة شكلت قطيعة جمالية ولغوية مع الشعر المقاوم، ومع قصيدة الستينات وبخاصة شعراء مجلة «شعر». الأولى التي تربط الشعر بالميتافيزيقيا والثانية التي تجعل الشعر يرزح تحت نير الموضوع ويرتكز على إرث بلاغي بياني تقليدي ويعطي للوزن سلطة كبرى. رصد شعراء هذه الحلقة المتناهي في الصغر وعمقوا البحث عن الشعر في نثر الحياة. وشكلوا عالماً واقعياً بموازاة الوقائعي مع اختلافه عنه، عبر القبض على المدهش والشعري فيه، من دون أي اشتغال مقصود على اللغة واستعمالها بوصفها وسيلة تحمل معنى ما. فاللغة الشعرية في نتاجات هذه الأسماء «تشتغل في شكلها الآخر أي «الكلام» داخل الخطاب. وهذا الاشتغال ينسحب على مستوى التراكيب والعلاقات البنيوية والجمالية، وتفاعلها بعضها مع بعض من أجل إعادة الشعر إلى الإحساس بالأشياء، وسؤال العالم شعرياً في قصائد لا تقول المفاهيم الكبرى كالموت والحرية والأبدية والرفض والثورة. أشار دياب إلى التحصيل العلمي لهذه الحلقة، فأغلبهم لم يقم بدراسات عليا، أو انقطع عن الدراسة. لكنهم عاشوا تجربة سياسية يسارية، كما أنهم لم يتأثروا بالسياسي وشعاراته أو يسمحوا له بإفساد قصيدتهم من هنا نجد أن قصيدتهم مشوبة بالركاكة باستثناء بركات. الحلقة الثانية ألحق الكاتب بالحلقة الثانية تجربتين لشاعرين تفتحت تجربتهما وعرفا أيضاً، من خلال فضاء بيروت الفلسطيني الثقافي والسياسي هما نوري الجراح، وسليم بركات. الأول الذي بدأ بكتابة قصائد رأى من خلالها العالم من منظار طفولي، قصائد تتحدد طرائقها وأساليبها فضلاً عن موضوعاتها بتقنيات بسيطة وصغيرة. هذا البعد الطفولي لازم شعر الجراح، وتحول إلى خيط في سجادته الشعرية. لكنه اختار له قصائد قديمة وحديثة تتحدث عن المنفى والقتل وتتقنع متأخرة بالأساطير اليونانية. والثاني خلق كوناً يقوم في بنيانه على اللغة ولا يطل على الحياة، إذ يشوب تجربته الشعرية افتتان باللغة، وسعي حثيث إلى تحويل القصيدة إلى «إرستقراطية» لغوية، ومعرض للمفردات المعجمية، عبر قاموس فصيح لا يتجاوز العصر العباسي والأموي، لكنه شكل تجربة خاصة في الشعر العربي. الحلقة الأخيرة هي تجربة الملتقى الأدبي لجامعة حلب في الثمانينات، وتضم حسين بن حمزة ، عمر قدور، عبد اللطيف خطاب، محمد فؤاد، ولقمان ديركي والمؤلف. يعتبر الكاتب ملتقى جامعة حلب آخر مختبر تجريبي شعري عرفته سورية. فقد توسل ممثلوه الأبرز مساءلة قصيدة الجيلين السابقين جيل مجلة «شعر» والسبعينات في سورية ولبنان، وسعوا إلى هضم الإنجازات الجمالية لكلا الجيلين وتمثلوها في قصيدتهم، مستفيدين أيضاً من الترجمات الشعرية. فقصيدتهم لا تنهض على المجازات فحسب، بل تستند أيضاً إلى الحركة الشعورية، والتموّج الشعوري داخل مستويات الكلام، في سبيل كشف الأحاسيس وليس الأفكار. أغلبهم اعتمد على القص والخطاب وعلى تداخلهما مع بعضهما بعضاً وتراسلهما في قصيدته، آخرون اعتمدوا التوثيق الحياتي واليومي عبر السرد لكنهم حافظوا جميعاً على وحدة القصيدة وعضويتها وقصرها باستثناء خطاب الذي كتب قصيدة تتقاطع فيها الأجناس الأدبية وتسعى نحو الملحمية. هذه القصيدة بناها خطاب على رقعة ثقافية مزج فيها الشعر بالتاريخ، بالاجتماع، بالأخبار. ويشير الكاتب إلى أن تجربة ملتقى جامعة حلب لم ينتج منها شعر كثير لكن شعراءها أظهروا وعياً شعرياً حاداً. وهي تصلح كحقل للدراسات التي تعنى بحركة الشعر الحديث المكتوب في سورية. كما أشار إلى الانتماءات اليسارية لجيلين من الشعراء وعلاقة قراءة الترجمات التي كان يقرؤها اليساريون في السبعينات خصوصاً، في فضاءاتهم الحزبية بمرجعيات قصيدتهم. احتفل دياب بمترجمي شعر أوروبا الشرقية وتتبع تأثيرات هذه الترجمات في نصوص الشعراء وقارن بينها وبين الترجمات التي تأثر بها شعراء مجلة شعر وقاموا بها. وثمّن غرفة الترجمة في وزارة الثقافة ومترجمي سلاسلها الشعرية ومجلاتها التي نشرت هذه الترجمات. سبردياب وحلل وأعطى رأيه باختصار وكثافة، بكل تجربة بعد قراءتها كاملة في سير الشعراء التي تسبق قصائدهم. الخيارات لم تكن مبنية على تجميع عام لنصوص لهذا الشاعر أو ذاك بل هي خيارات انتقائية، جاءت بعد قراءة المسيرة الشعرية لكل شاعر وتحديد موقعه الشعري بالنسبة إلى مجايليه، والأجيال التي سبقته. كتاب «الشعر السوري المعاصر» هو مشهد عام للتيارات الشعرية التي عصفت بالحركة الشعرية العربية الحديثة، منذ ثلاثينات القرن العشرين حتى أيامنا هذه، عبر مساهمات الشعراء السوريين. ويتوزع على أربعمئة صفحة تقريباً، ويغطي قرناً من الزمن تقريباً.