المرة الأولى التي قرأت فيها لوريس شحادة كانت في مجلة "شعر" الفرنسية وتحديداً العام 1988. حينذاك قدّمت المجلة بضع قصائد نثرية لها وعرّفت بها كشاعرة شبه مجهولة أو منقطعة عن عالم الأدب ومغرقة في عزلتها بعيداً عن "المرتبة" التي تستحقها في المشهد الشعري المعاصر. أما القصائد النثرية تلك فلم تكن غريبة عن قارئ شقيقها جورج شحادة: ثمة مناخ واحد يتقاسمه الشاعر الكبير والشاعرة المجهولة، بل ثمة "جغرافيا" شعرية واحدة وربما "معجم" واحد يتحركان فيهما من غير أن تقلد الشاعرة شقيقها أو الشاعر شقيقته. ولعل هذا "الأثر" المشترك أو المتبادل سراً أو جهاراً بدا خير حافز على البحث عن هذه الشاعرة اللبنانية التي ولدت في الاسكندرية على غرار شقيقها ثم هاجرت الى إيطاليا منقطعة عن وطنها - الأم، منذ نحو ستين عاماً. بل لعلّ كون الشاعرة شقيقة شاعر كبير وفريد قد يبدو حافزاً كافياً للتحري عنها وللبحث عن "ظلّ" جورج شحادة الآخر، عن ينابيعه الشعرية وعن أرضه الأولى! ولكن أليس من الظلم حصر نتاج الشقيقة داخل أسوار عالم شقيقها الشاسع والجميل؟ ربما هذا ما أدركه بيار سيغير الشاعر والناشر الفرنسي عندما قال في صدد هذه "القضية": "كم من الصعب أن تكون شقيقة شاعر كبير عندما تكون هي نفسها شاعرة". تُرى هل أدركت لوريس شحادة صعوبة هذه القضية فانسحبت مؤثرة أن تكتب من بعيد عوض أن تنخرط في عالم الشعر والشعراء أو عالم الأدب والأدباء؟ هل أدركت أنها لن تصل إلى موقع شقيقها وإلى مرتبة احترافه فراحت تكتب لنفسها على طريقة الهواة، بعيداً عن صخب الأعلام وبريق "النجومية"؟ غير أن مَن يقرأ أعمالها النثرية والشعرية يدرك للفور أنّ لوريس شحادة شاعرة حقيقية وكاتبة حقيقية حتى وإن كتبت "من بعيد" وخارج المعتركات الأدبية والموجات والمدارس. شاعرة لو تسنّى لها أن تدخل معترك الحركة الشعرية لكانت حتماً في طليعتها ولما حلّ بها ما حلّ من ظلم فأضحت شبه مجهولة وغدت أعمالها شبه مفقودة فيما هي لا تزال حية مستسلمة الى عزلة الشيخوخة في روما مدينة زوجها الايطالي الراحل. ترى هل سعت هي نفسها أن تقع ضحية صمتها أو قدرها أم أن الصدفة جعلتها تقع ضحية "الأخوة" الشعرية فكانت تلك الضحية بامتياز؟ لوريس شحادة الشاعرة والناثرة عادت أخيراً الى ذاكرة الأدب اللبناني المكتوب بالفرنسية عبر مبادرة لافتة قام بها غسان تويني الصحافي والكاتب والشاعر... في جمع أبرز أعمالها في جزءين. إلا أن صدور هذه الأعمال شبه المجهولة خلال المؤتمر الذي عقد قبل أشهر حول شقيقها جورج شحادة حال دون أن يلقى الترحاب والصدى اللذين كانا ينبغي أن يلقاهما ودون أن يغدو الحدث الذي كان من المنتظر أن يكون. وتزامن صدور الجزءين كذلك مع صدور كتاب مهم وشامل عن شاعر "سهرة الأمثال" تحت عنوان "جورج شحادة: شاعر الضفتين" مما أبعد الشاعرة الشقيقة عن الأضواء التي راحت تصلت على الشقيق. شاعرة حقيقية لوريس شحادة، ناثرة حقيقية أيضاً. والصفتان هاتان خوّلتاها أن تجتاز حدود الشعر والنثر لتكتب في أحيان نصوصاً حرّة تمام الحرية، نصوصاً "مفتوحة" على الشعر كما على السرد، على التأمل كما على الذكريات، على الخواطر كما على الوصف، على الواقع كما على الحلم... وانطلاقاً من هذا الانتماء المزدوج وربما المتعدد أو "اللاإنتماء" استطاعت أن تجاور أنواعاً أدبية شتى من غير أن تنحصر أو تحصر نفسها داخل نوع واحد: تكتب شعراً ولكن لا تكتب قصيدة مغلقة أو ذات بناء هندسي، تكتب سيرة ذاتية من دون أن تفي هذا النوع حقّه أو شروطه، بل هي تكتب "سرداً ذاتياً" كما يقول فارس ساسين في تقديمه أحد كتابيها. تكتب أيضاً ما يشبه "الحكاية" التي يتقاطع فيها الوهمي والواقعي في نسيج لغويّ أليف و"غريب". وإن غلب الطابع الذاتي على معظم ما كتبت فهو لم يوقعها في أسر "الأنا" التي ليست آخر، فالذات هنا مرآة للماضي، للطبيعة والحياة معاً، للفردوس المستعاد والحب الذي يعصي على الزمن. خارج الأنواع لم تكتب لوريس شحادة رواية يمكن أن تسمّى رواية ولا قصيدة يمكن أن نسمّيها قصيدة بل كتبت نصوصاً سردية وأشعاراً. ومعظم أشعارها لا عناوين لها ولا أحجام ثابتة: أحياناً هي مقاطع طويلة وأحياناً جمل أو شذرات. أما سيرتها الذاتية التي تخللت معظم ما كتبت من نثر فتفاوتت بين المذكرات المدونة يوماً تلو يوم أو أياماً تلو أيام و"السرد الذاتي" الذي خففت عبره وطأة "الأنا" الراوية أو الساردة متوارية ككاتبة خلف قناعها. و"السرد الذاتي" يقترب هنا مما وصفه به الناقد الفرنسي فيليب لوجون مميزاً إياه عن السيرة الذاتية ومحدداً عبره "تلك الكتابات التي تأنف أن تكون سيرة ذاتية أو تحفظ مسافاتها". وعرفت الكاتبة أو الشاعرة كيف تؤدي لعبة "القناع" في كتابتها سيرتها كتابة سردية فإذا هي الراوية والمرويّ عنها. وفي إحدى سردياتها تقول: "إسمي آن وأدعى لوريس". وبين الإسمين استطاعت أن تخلق شخصية هي صورة عنها إن لم تكن هي نفسها. في مطلع كتابها "يوميات آن" تقول: "عمري ستة عشر عاماً" وفي مطلع كتابها "لماذا الأشجار حزينة كل الحزن؟". تقول: "عمري ستون عاماً... إنني عجوز إذاً"... ولعل الكاتبة التي تخطت عبر الكتابة حواجز الزمن غير آبهة لإشراكه أدركت سرّ اللازمن أو ما يسمى "المطلق" حتى وإن غدا الماضي هاجساً من هواجسها الملحة. لكنه الماضي الذي لم يمض، الماضي الحاضر أبداً، الماضي المستعاد كاللحظة الشعرية التي تتخاطف بين الضوء والعتمة. "يحل الوقت حين لا اعتبار للوقت" تقول الشاعرة. أما الزمن فهو "سارق صور"، "زمن الأبد" أو "زمن الحنين" كما يعبّر الناقد الفرنسي غي دومور في مقالة له عن الشاعرة. ولعلّ الشاعرة التي تعترف أنها لم تعرف أبداً متى ولدت بين العام 1908 والعام 1916 شاءت أن تحيا خارج حدود الزمن: "كان يا ما كان"، هكذا تبدأ كتابها "أبواب مختفية". أما مدينتها المتوهمة فلا "ساعة عامة فيها". وفي تلك المدينة "تتكوّم الساعات عند النوافذ وعند أبواب البيوت". مَن يقرأ نصوص لوريس شحادة يساوره قدْر من الحيرة: لا يعرف تماماً من أين يبدأ ولا أين ينتهي! عالمها كأنه بلا أبواب ولا نوافذ، ردهات مفتوحة بعضها على بعض أو كأنه "بيت بمنازل كثيرة": هنا تروي، هنا تدوّن مذكراتها، هنا تتأمل، هنا تكتب شعراً، هنا تحلم... وداخل ذلك العالم تبدو الحياة "مروية مثل خرافة" كما يقول غي دومور ويغدو الواقع لا واقعياً والحاضر ماضياً: "ليس هناك الآن، الحياة هي الأمس دوماً" تقول. ومثلما يتحرر فعل الكتابة من أسر التاريخ والأنواع والمدارس والأساليب والنظريات يتحرر أيضاً من أسر المواضيع الجاهزة. تكتب الشاعرة عن الحب والحبيب مثلما تكتب عن الصباح والأجراس، أو عن القرية والرعاة، أو عن "الطفلة المليكة البيضاء" والحديقة... وليس من المستهجن أن يطغى "خطاب" العشق وأن تستحيل أشعار كثيرة أشعار حب عذب وحلميّ أو فردوسيّ: "عيناه لهما لون الزمان، جميل كإله إغريقي". فالشاعرة عاشقة ملؤها الحنين الى زمن لا يحيا إلا في الماضي. وزمن الحب هو زمن الجمال والسحر، زمن الطبيعة والقرية، زمن الأم والأرض: "أفكر في بلادي، الثملة بالفجر والصفاء البحري، بأمي العذبة كمثل حقل، بك، يا حبي القاسي مثل الخبز القاسي". أما الوطن فهو أرض الطفولة لا أرض البطولات والأمجاد، أرض مصر مثلما هو أرض لبنان: "أحفظ لمصر الكثير من الحنان، بلاد الشمس" تقول الشاعرة. أما لبنان فهو وطن الحدائق والحقول، وطن الفجر والضوء، وطن فردوسي موغل في الحلم والوجد: "حين يرجع الماء الى نبعه... سأغني الأرض". عودة جديدة عادت لوريس شحادة أخيراً الى وطنها الأم عبر نصوصها الشعرية والنثرية التي كانت صدرت في باريس بدءاً من الخمسينات واختفت بعيد اختفاء ناشرها غي لفي مانو الذي جعل داره منبراً للشعراء السورياليين اندريه بروتون، بول إليوار... وجورج شحادة. ومنذ الستينات انقطعت لوريس شحادة عن النشر مستسلمة لاغراءات العزلة والحياة الهادئة في روما. وعودتها هي عودة شاعرة وناثرة لم تنل ما تستحق من التقدير والترحاب بل ظلمت ظلماً غير قليل، ظلماً لا تستحقه حتى وإن ساهمت هي في ظلم نفسها عبر انسحابها لا من المعترك الأدبي فقط وإنما من العالم أيضاً. ولعل أجمل ما يمكن أن توصف به أعمالها ما قالته عنها مجلة "شعر" الفرنسية: "ثمة في هذه الأعمال السرية حقاً، بل المتوحدة جداً والواقعة ضحية نوع من السحر الأبيض، ثمة ضوء مائل، يتعذر القبض عليه...". والضوء هذا، لعله ضوء الحدس، ضوء الاختبار الروحي، ضوء الشرق الذي أضفى على لغة الشاعرة، لغتها الفرنسية، ذلك "الصفاء" وتلك "النداوة" اللذين تحدث عنهما غي دومور. وإن لم تبدُ نصوص الشاعرة غريبة عن عالم شقيقها جورج شحادة انطلاقاً من "النسغ" الواحد كما يعبّر ساسين الذي جمع تجربتهما أو "المناخ" الواحد الذي آلف بينهما فإن الشاعرة والناثرة اختلفت أو سعت الى ان تختلف عن شقيقها في عدم احترافها الكتابة وفي بقائها داخل دائرة الهواية. ولكنها طبعاً هواية المحترفين، هواية الكتّاب الحقيقيين الذين يعرفون كيف يجمعون بين البراءة والحذاقة، بين اللهو والبراعة، بين التعبير والابداع. حين قرأ جورج شحادة كتاب "الساعات الكبيرة" عام 1961 سرعان ما كتب الى شقيقته يهنئها به ومما قال في رسالته تلك: "دعيني أعبّر لك عن الفرح الذي شعرت به حين تسلّمت كتابك وقرأته... لقد سحرتني قراءته...". * صدر الجزءان بالفرنسية عن "دار النهار" 1999. لوريس شحادة: شذرات يكاد يستحيل عليّ أن أعتاد الحياة اليومية وكذلك أن أخرج عنها. ترهات الكلمات، الأيام، الأسابيع. برج الأجراس، هو هو دوماً، هو الذي يتظاهر في الاختباء داخل نافذتي يقرع أوقات الصلوات وأوقات الهجران، شائخاً، شديد الشيخوخة، كم من عزلات غمر برنينه؟ رجاء في الله؟ في البشر؟ رغبة في أن نُحب؟ * * * كانت تلزمني، كلَّ الأيام، وردةُ أيّار... * * * وراء البيت، في حديقة مهجورة، كانت أشجار الخوخ تصرّ على اغداق ثمارها على رغم فقر المنظر، كانت البئر تثابر على أن تحرسها الأفعى التي تلتهم عيني مَن يجرؤ على الاقتراب منها، كان كلب سنوات اليفاع ينام نومه الدائم تحت شجرة الورد، أما أنا، جالسةً على حافة الليل، مأسورةً بك، فوحدي تغيّرتُ... * * * كانت المعجزة من أجل نسيان كلّ شيء ما عدا زهرة العروس، رائحة التراب في ذاك المساء الماطر. * * * في عزلة الشارع كلّ خطوة تئنّ، توسّع الصمت، سطوح القرميد القديمة ترافق التلامذة، كلابٌ تذهب حيثما يذهب الناس، والأدراج تصعد كي تبلغ شجرة. * * * لو كنتَ معي لكنتُ لممتُ اليمائم، وخضّبت وجنة الفصول. * * * الربيعُ إذ يأسف أن يكون الربيع، يمضي محاذياً جدران المنازل كمثل سارق ثم يتوه في الغابة. * * * الحياة طويلة! أيّها المجانين المساكين! وقلوبنا التي على حداد. * * * عيناي تفترسان وجهي كي تضيئا الليل... * * * لكم أبغي أن أهجع وأصحو في النقاء الأول، نقاء العالم، في نقاء ما قبل نهاره الأوّل. أيتها العزلة، عينكِ طاهرة ونظرك كفيف وفضة الينابيع تتهادى من أجلك. باقة صور الطفولة، يفاع ميت، ذكريات، برج الأجراس يقرع قرعة حزن، كلّ ألم علامة على طريق الحياة. انني، يا حبّي، جميلة كمثل امرأة، كمثل كلّ النساء. * * * أن تهرب مع طيفك. * * * خطواتُ الغريب تطيل المنظر حتى السماء، لو كنت تدري كم يؤلم الأشجارَ جمودُها. * * * ما دمت تؤمن بالخبز الذي تأكله فأنت لم تفقد أي رجاء بالحبور. * * * لم يبق من فجر في مملكتي، آهٍ أيّها المسافر، الأرض حقل من حدائق منهوبة، ساهرتُ فرحي مخافة أن يموت، أولئك الذين أحبّهم لم يأتوا الى البيت والباب أدعه مغلقاً على ظلال. * * * أن أخنق ظلّي، أن أحول دون أن يحول دوني ودون أن أتنفّس. * * * لا جدوى الدموع، جمود الخوف، أظنّ أنني قلت كلّ شيء. جدران الصمت، ينبوعي المنفيّ. * * * عندما يوافيها الموت ارموا يديها اللتين من نيلوفر أبيض في بئر الدموع، دعوا قلبها يخشوشن في الريح، والصلوات المجدولة في شعرها خبّئوها في عمق عمق الأرض. ما من أحد أصغى اليها. * * * منحت الصمت صوتَك يا حبّي، فغمر الصمتُ الأرض. * * * العاصفة كنست الصدى حيثما رسمتُ ابتسامة. ترجمة: ع. و.