ماذا يمكن العالم العربي والاسلامي ان يتوقع من القوى العظمى في السنة الجديدة؟ هل سيكون "حوار حضارات" ام "صدام حضارات"؟ هل سيكون القرن الجديد عصر تسامح وتفاهم وتعاون، ام سيكون اقرب الى الخليط القديم المعهود من العداوة والخوف والضغوط وحتى الحرب؟ لا يمثل تعيين دونالد رامسفيلد في منصب وزير الدفاع الاميركي من جانب الرئيس المنتخب جورج دبليو. بوش علامة مشجعة بالنسبة الى العالم الخارجي، لان رامسفيلد اعلن انه سيضع مكافحة الارهاب والدفاع الصاروخي - وكلاهما من القضايا التي تثير جدلاً حاداً - في مقدم جدول اولوياته. ويُبرز تقويم للتهديدات العالمية اصدره "مجلس الاستخبارات القومي" الاميركي في كانون الاول ديسمبر الماضي الارهاب ضد المصالح الاميركية - بشكل اساسي الارهاب الاسلامي - واحتمال حصول ارهابيين على اسلحة دمار شامل، باعتبارهما التهديد الأخطر الذي يُرجح ان تواجهه الولاياتالمتحدة في السنوات ال 15 المقبلة! ويُنظر في الولاياتالمتحدة ومعظم العالم الغربي، وايضاً في روسيا والصرب وغيرهما من البلدان حيث تسود المسيحية الارثوذكسية، الى "الاصولية الاسلامية" - بل حتى الى الاسلام ذاته كما يبدو - باعتبارها تشكل خطراً كبيراً. ومن بين المؤشرات الى النزعة المثيرة للقلق لتحميل "الاصولية الاسلامية" المسؤولية عن كل شرور العالم القرار الذي اصدره اخيراً مجلس الامن، برعاية مشتركة من الولاياتالمتحدةوروسيا، بفرض عقوبات تأديبية على نظام "طالبان" في افغانستان. ومن المقرر ان يصبح هذا القرار الذي جرى تبنيه في 19 كانون الاول ديسمبر الماضي ساري المفعول خلال شهر واحد. وهو يحظر مبيعات الاسلحة الى "طالبان"، ويقضي باغلاق كل مكاتب "طالبان" خارج البلاد، ويفرض حظراً على سفر زعماء "طالبان" الى الخارج ويشدد الحظر على الرحلات الجوية الى افغانستان ومنها. وفي الوقت الذي تستهدف هذه العقوبات "طالبان"، التي تسيطر على 90 في المئة من افغانستان، فإنها تستثني "التحالف الشمالي" بزعامة احمد شاه مسعود، العدو الرئيسي للحركة الذي يسيطر على منطقة لا تزيد على 3-5 في المئة من البلاد. ويعتقد بعض المراقبين المطلعين ان العقوبات ليست سوى الخطوة الاولى وان الولاياتالمتحدةوروسيا تخططان لهجوم عسكري على "طالبان" انطلاقاً من قواعد في آسيا الوسطى بهدف اطاحة نظامها بأكمله. واذا قررت الولاياتالمتحدةوروسيا ان توجها ضربة الى "طالبان" يتوقع ان تستخدما قاعدة طشقند الجوية في اوزبكستان لمهاجمة معاقل ل "طالبان" مثل طالوقان ومزار الشريف. ويبدو ان واشنطنوموسكو لا تعيران اهتماماً لحقيقة ان المادة 51 في ميثاق الاممالمتحدة تحظر استخدام القوة المسلحة من قبل دولة ضد اخرى، الاّ في حالة الدفاع عن النفس او بموافقة مجلس الامن. والارجح انهما تعتقدان ان قرار مجلس الامن الصادر في 19 الشهر الماضي يضفي شرعية على مناهضتهما ل "طالبان" ويطلق ايديهما لاستخدام القوة. وتعرضت "طالبان"، التي تحكم قبضتها على السلطة في كابول منذ 1996، الى انتقادات كثيرة بسبب تفسيرها القاسي للشريعة الاسلامية، وبشكل خاص للطريقة التي تعامل بها النساء. وتُتهم الحركة، بصورة محقة الى حدٍ ما، بالتورط في عمليات التهريب وتجارة المخدرات، وبتصدير اللاجئين وعدم الاستقرار الى جيرانها. لكن هل يكفي هذا لاختيارها من دون سواها هدفاً لعقاب دولي؟ يشار الى ان "طالبان" ليست عديمة الاصدقاء تماماً. فعلاقة كازاخستان مع كابول افضل حالياً، فيما ساعدتها باكستان على تحقيق انتصارها اذ اعتبرتها ثقلاً مضاداً مفيداً في مواجهة الهند وايران. وما تزال باكستان تأوي حوالي مليوني لاجىء افغاني في معسكرات لاجئين بمحاذاة الحدود الباكستانية الافغانية. والعشرات من "المدارس" الموجودة في هذه المعسكرات تمد "طالبان" بالمجندين، كما أمدّت "المجاهدين" في السابق عندما كانوا يحاربون قوات الاحتلال السوفياتي. دوافع متضاربة في موسكووواشنطن كيف يمكن للمرء ان يفسر اذاً التحالف الاميركي الروسي ضد "طالبان"؟ لا يوجد، في الحقيقة، توافق يُذكر بين دوافع روسيا واميركا في معاقبة حكام افغانستان الحاليين. فروسيا ترغب من دون شك في ان تثأر لهزيمتها والاهانة التي تعرضت لها في افغانستان على ايدي "المجاهدين". لكن السبب المباشر، عدا هذا، وراء اصرار موسكو على فرض العقوبات هو اعتقادها بان "طالبان" تدرّب الانفصاليين الشيشانيين على محاربة الروس. ولا شك ان الحرب في الشيشان هي الهم الرئيسي لروسيا. فبعد 16 شهراً من النزاع الوحشي، وحتى البربري، لا تزال روسيا بعيدة عن احراز النصر. ويبدي المقاتلون الشيشانيون بأساً شديداً، فالجنود الروس يقعون في كمائن ويقتلون كل يوم تقريباً. ورداً على ذلك، ينزل الجيش الروسي بالسكان المدنيين عقاباً فظيعاً. فالتعذيب والاغتصاب والابتزاز والاعدامات الفورية اصبحت شيئاً روتينياً، بالاضافة الى سرقة الاغذية والماشية على نطاق واسع، وتدمير القرى والمحاصيل الزراعية، والسيل المتدفق من اللاجئين. لقد عمّ الخراب والدمار الشيشان، وتسود حال من الفوضى. ساعدت حرب الشيشان فلاديمير بوتين على الوصول الى الكرملين. واليوم، بعد عشرة اشهر على صعوده الى السلطة، لا يزال بوتين يعد شعبه بانتصار عسكري على "المتمردين". ويبدو واضحاً انه يعتقد بأن ضرب "طالبان" سيعزل الشيشانيين ويضعفهم ويحبط معنوياتهم. ولم يبد الروس حتى الآن أي استعداد للاعتراف بأن تمرد الشيشانيين، وتعطشهم الى الاستقلال، ليس نتيجة لدعم او تأثير خارجي بل نتيجة عقود من القمع السوفياتي والروسي. كما ان موسكو مقتنعة بأن "طالبان" تقف وراء محاولات لزعزعة استقرار جمهوريات سوفياتية سابقة في آسيا الوسطى، مثل اوزبكستان وقرغيزستان، حيث حاولت جماعات اسلامية متطرفة الصيف الماضي ان تطيح الانظمة القائمة هناك.لكن البعض في آسيا الوسطى يشك في ان روسيا تستخدم شبح "الارهاب الاسلامي" كي تستعيد سيطرتها على الجمهوريات الاسلامية في الجنوب التي خسرتها اثر انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي. مطاردة ابن لادن اما دوافع واشنطن فإنها اكثر صراحة. انها تستخدم العقوبات والتهديد بتوجيه ضربة عسكرية لاجبار "طالبان" على ان تسلّم اسامة ابن لادن، المنشق السعودي الذي تمنحه ملاذاً والذي تعتبره الولاياتالمتحدة "العدو رقم واحد". وكان ابن لادن اكتسب شهرته في محاربة الروس في افغانستان. لكنه انقلب، حال انسحاب الروس، الى معاداة الاميركيين. ويرجع هذا التحول بشكل اساسي الى حرب اميركا ضد العراق ووجودها العسكري المستمر في المملكة العربية السعودية، ودعمها لقمع اسرائيل للفلسطينيين. وعلى رغم عدم وجود ادلة قاطعة حتى الآن، تبدو الولاياتالمتحدة مقتنعة بان ابن لادن، وتنظيم "القاعدة" الغامض الذي يتزعمه، كانا مسؤولين، بشكل مباشر او غير مباشر، عن تفجير سفارتين اميركيتين في شرق افريقيا في 1998 وحتى عن عملية تفجير المدمرة "يو. إس. إس. كول" في ميناء عدن في تشرين الاول اكتوبر الماضي. وبالفعل، تحمّل واشنطن ابن لادن المسؤولية عن كل اعتداء تقريباً تعرضت اليه المصالح الاميركية في السنوات الاخيرة. وتسعى الولاياتالمتحدة في مطاردتها لابن لادن الى تبشيعه وتصويره كارهابي. وهي تريد ان تعاقبه لانه تجرّأ على تحدي النفوذ الاميركي. لكنها تتردد في الاعتراف بان الهجمات على اهداف اميركية، مثل عملية تفجير المدمرة "كول"، ليست "اعمالاً ارهابية" عشوائية بل انها في الواقع "اعمال حربية" رداً على سياسات اميركا التي يعتبر كثيرون من العرب والمسلمين انها عدائية وتلحق الاذى بمصالحهم. من سيدفع ثمن العقوبات؟ هل ستكون معاقبة "طالبان" فاعلة؟ لا يعتقد احد من المراقبين المطلعين بان الخوف من العقوبات او الهجوم العسكري سيقنع "طالبان" بتسليم ابن لادن الى الاميركيين. على العكس تماماً، يُرجح ان تؤدي الضغوط الى جعل "طالبان" تشدد موقفها وتحشد اصدقاءها ومؤيديها ضد المصالح الاميركية والروسية. هل ستلجم العقوبات التهريب وتجارة المخدرات التي تموّل بها "طالبان" جهدها العسكري؟ على العكس تماماً، فالارجح ان تجعل العقوبات "طالبان" اكثر اتكالاً من أي وقت مضى على مصادر التمويل هذه. هل ستقطع العقوبات إمدادت الاسلحة الى "طالبان"؟ على العكس تماماً، فالتجربة تبيّن ان الحظر سيحفز على الارجح تدفق الاسلحة لانه يرفع الاسعار. التأثير المباشر الاقوى للعقوبات سيكون على الارجح مفاقمة تدهور الاوضاع المعيشية لسكان افغانستان الذين يبلغ عددهم 26 مليون شخص، وحتى اطلاق كارثة انسانية. فافغانستان هي بالفعل واحدة من افقر بلدان العالم. وعانت البلاد في اعقاب الاحتلال السوفياتي 12 سنة من الحرب الاهلية. وتشير التوقعات الى ان استمرار القتال ودمار البلاد والجفاف الذي تعانيه هذه السنة - وهو الاسوأ منذ عقود - يمكن ان يؤدي في فصل الشتاء الحالي الى وفاة ما يراوح من 500 الف الى مليون شخص. الارجح ان العقوبات ستدفع هيئات تابعة للامم المتحدة ومنظمات اغاثية اخرى، مثل "اوكسفام" و "اطباء بلا حدود"، الى سحب موظفيها والانتقال الى باكستان وطاجكستان المجاورتين. وسيؤدي شح امدادات الغذاء والدواء الى وفاة المزيد من الناس الابرياء ويدفع عشرات الوف آخرين الى اجتياز الحدود الى دول مجاورة، ما سيزيد زعزعة استقرار المنطقة. بدلاً من انهاء الخطر المزعوم ل "الاصولية الاسلامية"، الارجح ان تؤدي العقوبات المفروضة ضد "طالبان" الى تعميق المعارضة للولايات المتحدةوروسيا في العالم الاسلامي وتهدد بجرهما مرة اخرى الى مستنقع العنف في آسيا الوسطى. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.