عندما كانت الحرب الباردة في أقصى درجات سخونتها استسلم جنرال أميركي لكوابيس عن احتمال هجوم سوفياتي على الولاياتالمتحدة، وألقى بنفسه من النافذة صارخاً "الروس وصلوا". وثمة في موسكو اليوم ساسة تنتابهم وساوس مماثلة، ويتحدثون عن احتمال اندفاع "طالبان" عبر حدود طاجكستان ليكتسحوا كل آسيا الوسطى وينتقلوا إلى روسيا كي يرفعوا أعلامهم فوق الكرملين. ويذكي هذه المخاوف قادة "التحالف الشمالي" الذي قال زعيمه برهان الدين رباني إن روسيا وسائر الدول "الصديقة" ستدفع الثمن مضاعفاً في ما بعد، إذا أحجمت الآن عن تقديم مساعدات لحكومته. ومن الواضح ان "التحالف" الذي اضطرت قواته إلى التراجع حتى نهر بنج الحدودي مع طاجكستان يرغب في الحصول على المزيد من الأسلحة، بل إن مبعوثاً عن رباني زار موسكو أخيراً لمح إلى أن التدخل العسكري المباشر قد يكون "محبذاً". ولا شك أن لدى الكرملين هواجس كثيرة في شأن نوايا "طالبان" حيال الجمهوريات السوفياتية السابقة ومصالح روسيا في المنطقة عموماً. وبصرف النظر عن صواب أو خطأ التقديرات الروسية، فإن موسكو ترتكب خطأ فادحاً بإصرارها على تجاهل الحركة التي تسيطر على أكثر من 90 في المئة من أراضي افغانستان، وتحرم نفسها من فرص التأثير في الوضع بآسيا الوسطى من خلال التعامل مع واحد من أقوى الأرقام هناك. والأرجح أن الرئيس فلاديمير بوتين أخذ يميل إلى فتح قنوات غير مباشرة مع كابول، وأوفد مبعوثاً شخصياً إلى إسلام اباد، وأعلن اثر انتهاء مباحثاته ان لروسيا وباكستان "هدفاً واحداً" في أفغانستان. وفي ضوء العلاقة الوثيقة بين السلطات الباكستانية و"طالبان" يبدو مرجحاً اعتراف موسكو بالحركة، إن لم يكن كحكومة شرعية، فعلى الأقل كقوة رئيسية ومهيمنة. ولا يعني ذلك بالضرورة تخلي روسيا عن حلفائها الشماليين أو تجاهل احتمالات الحروب الأهلية في آسيا الوسطى أو تدفق مئات الآلاف من اللاجئين على طاجكستان، وهي الحليفة الأهم لموسكو في المنطقة. فكل من هذه المعضلات بحاجة إلى معالجة، ووزير الخارجية الروسي ايغور ايفانوف على حق حينما يدعو إلى الحوار ويشدد على أن القوة ليست حلاً لمشاكل أفغانستان. ولكن على موسكو، من جهة أخرى، أن تتفادى الوقوع في مطب المعايير المزدوجة التي رفضتها بشدة في حالات كثيرة. وعلى رغم الفوارق الكثيرة بين الحالتين الأفغانية والشيشانية، فإن مبدأ الحوار واحد هنا وهناك. والكرملين إذ يدعو "طالبان" إلى اتخاذ موقف مرن حيال خصومها، لا يترك أي هامش تفاوضي مع الرئيس الشيشاني المنتخب اصلان مسخادوف. ولعل السبيل الأمثل للحفاظ على مصالح روسيا في الخارج وترتيب بيتها في الداخل أن تنتقل من استراتيجية الضغط إلى عقلية الحوار بعيداً عن الجنرالات الذين تفزعهم الكوابيس الليلية