أُعيد افتتاح وتمديد المعرض الاستعادي الخاص بالفنان فريد بلكاهيا، في "متحف الفنون الأفريقية"، كان ذلك إثر اهمال الدعوات والإعلان عن العرض. وتمت الدعوة من "متحف مدينة نيس للفن المعاصر". وكان هيأ كراساً زاهياً عن المعرض، "أما معهد العالم العربي" فخصّص محترفاً للناشئة، يشرف عليه الفنان خلال فترة معرضه. والفنان من مواليد مدينة مراكش عام 1934، درس الفنون في باريس، عرف اسمه منذ 1962، تاريخ تسلمه ادارة معهد الفنون، والذي صادف اشتراكه مع "جماعة الدار البيضاء" وعروضهم في مسجد "جامع الفناء" وسواه. من أبرز زملائه محمد المليحي وشبعا. واجتمع هؤلاء على تأسيس منهج مثقّف في الفن، يسمح بالمشاركة الفعلية في الساحة العالمية للفن المعاصر. ووقفت دعوتهم في وجه موجة الفنون الشعبية، ظناً منهم بأنها ازدهرت تحت مباركة الإدارة الثقافية الاستعمارية، وسرعان ما اعتدلت سذاجة النظرة الى الفنانين الشعبيين، خصوصاً وأنهم كانوا أرسخ أسلوباً من هؤلاء الرواد. ونذكر منهم ابتداء من الرباطي والفرديقي، وانتهاءً بصلادي وفاطمة حسن مروراً بسعيد والإدريسي، وبلوغاً الى بعض فناني ما بعد الحداثة من أمثال عبدالكريم الوزاني. سرعان ما استجابت رهافة المليحي اللونية الى الاعتراف بمقاماتهم، ثم نجده يتحالف مع الشرقاوي في الاستمداد من الرسوم المتناسخة عن الأوشام والإشارات والرموز الصامدة أمام الاندثار. وتبيّن لهؤلاء ان الفنون التي توسم "بالشعبية" ما هي إلا مساحة الإضاءة الباقية من الخصائص الثقافية. التي قاومت الاجتياح الذوقي الاستعماري. يُعتبر بلكاهيا الوحيد في المجموعة الذي لم يعدّل من أطروحته المتطرفة، وعلى رغم أن المعرض من أكبر وأبرز معارضه الباريسية، فهو يعطي إيحاءً وكأنه أُنجز في السبعينات، فتقنيته ونمطيته الأسلوبية لم تتغيّر، كان يدعو آنذاك الى التخلّي عن استيراد المواد الصباغية من الغرب، والاقتصار على المواد المحلية، أي دباغة جلود الماعز والغنم، والتصوير عليها بالحنّة والأصماغ الشعبية، ولا شك أن المعرض يصدم من يملك بعضاً من الحساسية تجاه قتل الكائنات الحية في طريقة مجانية، لأنه سيتخيّل ذبح مئات النعاج والخراف من أجل انجاز المعرض. أما النمطية الغرافيكية التي دامت ما يقرب من نصف قرن فترجع الى محفوظاته المحدودة من الإشارات والأوشام. باحثاً عن "لغة كونية شمولية" تخرجه من قمقم الثقافة الأحادية، أي الثقافة العربية - الإسلامية والى ادعائه بالتوجّه الى الذاكرة السحرية الأفريقية أو البربرية. وبالنتيجة فإن ثقافته "الفرانكوفونية" تجعل من هذه المحاولات سياحة استشراقية تناسب سمات المتحف الذي يعرض فيه. يمتاز المتحف بالنظرة العنصرية منذ عهد الاستعمار حيث تأسّس، تحت اسم "الفنون الأفريقية وفنون المحيط الهادي"، وألحقت به حديقة تماسيح وأسماك مدارية. إذاً استخدم كل من الشرقاوي وبلكاهيا "الإشارات الوشميّة" نفسها، وانطلق الاثنان من بحوث الفنان بول كلي في اتجاهين متعاكسين، الأول يستغرق ميدانياً في ذخائر هذه الإشارات. ثم يستقل منهجه المعاصر وأهلته النورانية عن ذاكرة كلي، وبالعكس فإن استثمار بلكاهيا لدراسات أو رسوم بول كلي كان أكبر من دراسته الميدانية للأشكال السحرية الأفريقية. فلوحته في النتيجة توليف بين اشارات كلي والأشكال الحلمية أو الجنسية للنحات جان آرب. وازداد هذا التهجين باستخدام فولكلوري للجلود والحنّة ومقصوصات الشكل الخشبي على الجدار. وإذا كان أمثاله يبحثون عن الأبجدية الشمولية المتراكمة في تاريخ التصوير الغربي، فإن تقليدهم اياه قاد الى الطابع السياحي "الأنتروبولوجي". دعونا نمتحن تقسيمه لمجموعات المعرض: الأيدي، الوجْد، "الملحون"، القدس. تشير مجموعة الأيدي السحريّة براحتها المنبسطة وأصابعها الخمس الى مساحة الوشم السحري التعويذي الأفريقي، تحفل بالإشارات الاستهلاكية المحمولة من كراسات الفنان بول كلي أكثر من المصادر الصومالية والسودانية المزعومة. ويبدو استلهامه من ذخائر موسيقى "الملحون" أشد رهافة وأصالة من كل ما في المعرض خصوصاً في سلسلته الأخيرة المنجزة بالألوان المائيّة، على رغم أن الغزل الشعبي التقليدي البريء انقلب لديه الى أشكال من الجنسية الحسية. ويكشف مستوى الأداء الرهيف المتميّز ذلك الانفصام العميق بين أطروحته النظرية، وتلقائية اللوحة أو المادة، والتي تعصى على التنظير والآداب الإعلاميّة، يعود فيتعثّر ضمن مجموعة الشطح والوجْد في التسطّح الروحي. فأشكاله لا ترقى أبداً الى تجربة الطقوس السحرية الوثنية، ولا بالأحرى الى مستوى مواجيد الرقص الصوفي الذي يدّعيه، فهو ينقل باستسهال استشراقي مطلق رسم "رقص الدراويش" وحلقاتهم الفلكية الحلزونية عن "كارت بوستال" يوثّق فرقة قونية. تتوسّط لوحة "القدس" العملاقة فراغ العرض، فلا تملك من صورتها إلا العنوان، والإشارة الملتبسة حول زيارته لها. وعلينا الاعتراف بأن اطار المعرض يملك مستوى حرفياً محكماً. ترتيبه، سياقه، نصوصه النقدية، كياسته الإعلامية، نجومية فناننا التي ترسخت تقنيتها منذ دراسته في معهد الفنون المسرحية في براغ، ناهيك عن ضبط شبكة العلاقات العامة الاجتماعية وغيرها. وينقص المعرض شيء واحد، عثرنا عليه لحسن الحظ في مجموعات "مائيات الملحون"، ويكاد يفضح مستواها النغمي والموسيقي العالي ارتباك بقية المعروضات وتوقفها عند مستوى الهواية منذ الستينات. وإذا كان بلكاهيا لا يحتكر سهولة التوجه الى الذائقة الفرنسية غير المتدربة على فيض روحانية الشرق الذوقية، ومدى ما تحتاجه من مجاهدة وحكمة، فإن علينا أن نكون أكثر حذراً اليوم، فالذائقة الباريسية تتطلب من ماضي استشراقيتها، إذ بدأ الفرنسي باطلاعه واحتكاكه المباشر مع القوة النخبوية في ثقافة المشرق العربي وسواه يغرّق بصمات الشمس التي تحترق تحت جلد العرب والأفارقة عن "البرونزاج" الذي يسمّر جلد الباريسيات بطريقة صنعية. في معرض بلكاهيا الكثير من "البرونزاج" والقليل من حرائق شموس المشرق والمغرب العربي.