تتنقل بين باريس وكولونيا معارض لافتة محورها الفن الأسترالي وهو المعروف ب «الآبوريجين» والذي ترقى تقاليده الى سبعة آلاف عام. هي معارض متزامنة ابتدأت مبادرتها السفارة الأسترالية بعرضها تجربة أحد أشهر هؤلاء الفنانين المعاصرين ويدعى دونيس نونا، في باريس، وهو المولود في جزيرة بادو عام 1973. يستمر العرض حتى نهاية أيار (مايو) 2011. وأسلوبه مشبع بروحانية الميثولوجيا السحرية المحلية، مستخدماً إحدى تقنيات «الآبوريجين» التقليدية، وهي الحفر على الخشب ومحاولة تحديث الأسلوب من دون أن يفقد هويته. اما المعرضان الأشد أهمية وعناية فيتزامنان ما بين متحفين: الاول متحف آلوش (مرسيليا) في فرنسا، مستمر حتى السادس من آذار (مارس) 2011، تحت عنوان مستعار من مصطلحهم الميثولوجي: «الحلم الكبير الآبوريجيني»، يعانق العرض ستين تحفة فنية من التصوير على لحاء الشجر بالإكريليك والنحت على الخشب المحلي. يتنافس معه متحف كولونيا (ألمانيا) بمعرض «التصوير الآبوريجيني منذ 1960» من خلال تسعة فنانين هم الأوسع شهرة عالمياً. هذا الفن المعاصر استمرت من خلاله تقاليد آلاف السنين ولم يُعترف به إلا قبل ثلاثين عاماً، تاريخ بداية تنظيم محترفات جاليته الحرفية عام 1980 وتصاعدت شهرته وتسويقه، وهكذا زاد اهتمام النقاد وصالات العرض والمتاحف وأصحاب المجموعات بحساسيته الميثولوجية السحرية. يعترف جان بيير كوركول في حديث نقدي، وهو أول من جمع آثاره، بأنه تعرف على تحفه بالصدفة أثناء رحلة في مهمة فنية إلى مالبورن (فهو يشغل منصب مدير المؤسسة الفنية المعروفة ب «كناب») ومن خلال زيارته لصالة عرض مختصة للمرة الأولى بفنانيه، اشترى لوحتين ثم أصبح يقتني بالطريقة نفسها من خلال أسفاره إلى أستراليا مرة كل سنتين، وأنه اكتشف من خلال ذلك التقاليد الروحية التي تجسدها لوحات هذا الشعب شبه المندثر والذي استمر في الوجود في موقعين للقبائل الباقية في الشمال والجنوب الصحراوي بجانب ما يعرف بالنسبة إليهم ب «معابد الحلم» وذلك قبل أن تقرر إنكلترا التوقف عن احتلال أراضيهم، وصممت لهم محترفات حديثة لأنها تحولت إلى مصدر الرزق السياحي الأساسي. كوركول يجد هذا الفن الاسترالي متفوقاً في تأثيره الترياقي على شتى اتجاهات الفن المعاصر الأوروبي. لم لا؟ فتاريخ فرض الاحترام المتدرج على أوروبا خطا بقفزات بعيدة، دعونا نراجع المعرض العالمي الانعطافي المعروف باسم «سحرة الأرض» والذي أقامه الناقد الرؤيوي في عهد ميتران: جان هوبير مارتان عام 1989 بمناسبة الذكرى الخمسين للثورة الفرنسية وكان في حينها مديراً للمتحف الوطني للفن المعاصر: جمع في المعرض ومن شتى النقاط والقارات نماذج إبداعية تشكيلية تمثل برأيه شمولية الفن المعاصر في معزل عن عصبية احتكار أوروبا له، وتعرفنا للمرة الأولى على هذا الفن الأسترالي، وما أثاره من جدال حول ضرورة إعادة تقويم الفنون غير الأوروبية. جدال استمر حتى مشروع الرئيس جاك شيراك: متحف الفنون الأولى (برونلي) في باريس. وهكذا استبدلت العبارة الاستعمارية «الفنون البدائية» ب «الفنون الأولى» واعتمدت منذ هذا التاريخ في البحوث والدراسات، وأغلق على أثرها متحف استعماري يقع عند مدخل غابات فانسين وهو متحف الفن الإفريقي والمحيط الهادي. لا شك في أن استعارة أشكال هذه الحضارات (مثل الأقنعة السحرية الإفريقية) من رواد الفن المعاصر بخاصة بابلو بيكاسو ساعدت في تغيير النظرة العنصرية إلى فنون الديانات الأخرى مثل البوذية الهندوسية والكونفوشيوسية الطاوية وسواهما وصولاً حتى الحضارات التي تقع في خط الاندثار في القارات الإفريقية والأسترالية والأميركية (شعوب غابات الأمازون). الفن «الآبوريجيني» توسع امتداده برموزه وإشاراته العقيدية في أغوار الخريطة الأسترالية المتوسطة والصحراوية، معتمداً في رسومه على الذاكرة السحرية لخلق العالم بمكوناته الأولى من حيوانية ونباتية وآدمية، من عناصر طبيعية (مجاري الأنهر والجبال والأشجار والصخور) ملتحمة جميعها كحساسية ذوقية سحرية مع تقاليد الغناء والرقص والموسيقى المعمّرة. يقتصر التشكيل على بعدين، وينجز بصيغة أفقية على اديم الأرض. كثيراً ما يستلهم تبصيمات الإنسان على الأرض مهاجراً في تيه الصحراء مذكراً بسعي الحكومة الى توطين الرّحل من البدو في مواقع زراعية ثابتة. ولكن التقنية الأكثر شهرة هي التي عرف بها فنانو الشمال وهي عبارة عن الرسم والتلوين على لحاء وقشور الأشجار المعمرة... وهكذا يمزج الأسلوب عناصر الهندسة بالإشارات السحرية، ضمن اختزال روحي نادر الأصالة.